الباب
الثالث : الأسقفية الأنكليكانية
مقدمة
ظهرت الحركة البروتستنتية في ألمانيا في القرن السادس عشر، على أثر الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر (1483 - 1546)· فعمّ التيار البروتستنتي الإصلاحي أوروبا ووصل إلى العالم الجديد· فالكنيسة البروتستنتية أصلاً كنيسة إصلاحية أوروبية، عالجت وبحثت في قضايا المجتمع والكنيسة في الغرب· ولم تُمثّل الكنيسة البروتستنتية في السلطنة العثمانية تمثيلاً رسمياً ، فلم تكن من ضمن الملل التي اعترفت بها السلطنة، وقد أمّ المرسلون من مختلف الكنائس البروتستنتية السلطنة العثمانية بصفة شخصية، أو مبعوثين من بعض الجمعيات البروتستنتية الإرسالية· وفُقِدَ التنسيق بين مختلف التيارات البروتستنتية، التي توجهت أصلاً لهداية اليهود للمسيحية· ولعلّ السبب في عدم ازدهار الحركة البروتستنتية في الشرق، سياسة الدولة العثمانية الرسمية التي وضعت العراقيل دون النشاط الإرسالي البروتستنتي· ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، شرعت الجمعيات الإرسالية البروتستنتية في الاستقرار في الشرق خاصة في فلسطين، غير أن احتلال محمد علي باشا لفلسطين وبقية بلاد الشام في عام 1831خلق المُناخ المناسب لنمو الإرساليات المسيحية· وأسفر هذا المُناخ المناسب على الصعيد البروتستنتي عن لمّ شمل الجمعيات البروتستنتية المختلفة، وتوحيد جهود الحكومتين والكنيستين الإنكليزية والبروسية، وهما من كبرى الدول البروتستنتية، لتكوين أسقفية أنكليكانية في القدس يشارك فيها الإنكليز والبروسيون، وكان أسقفها الأول ميشيل سلمون الكسندر· ويشكّل تكوين هذه الأسقفية وتعيين أسقفها الأول مادة الفصلين الأول والثاني ، والفصل الثالث يبحث في الأسقفية في عصر الأسقف صموئيل غوبات، والفصل الرابع في تاريخ الأسقفية بعد انقسامها وسقوط الاتفاق الإنكليزي البروسي· وتعود أهمية الأسقفية الأنكليكانية في التاريخ الكنسي الفلسطيني، إلى أنها مرحلة رئيسة أساسية من مراحل تطوّر ونمو الكنيسة والمؤسّسات المسيحية في الأرض المقدسة· فغدت الأسقفية الأنكليكانية كياناً كنسياً جديداً في فلسطين، وشـاركت في تطوّر المجتمع المحـلي من خلال جمعياتها ومدارسها ومستوصفاتها ورعاياها·
الفصل الأول
المحادثات البريطانية البروسية حول إنشاء الأسقفية
الأنكيلكانية في القدس، 1841
مقدمة
جاء تكوين الأسقفية الأنكليكانية المشتركة بين بريطانيا وبروسيا، ثمرة عدة عوامل تفاعلت وأسفرت عن مولد الوجود البروتستنتي في فلسطين: فعلى الصعيد العثماني، شهدت فلسطين نشاطاً إرسالياً مكثفاً في عصر محمد علي ، وبعد زوال حكمه اضطرّت الدولة العثمانية إلى أن "تُغمض عينيها عن استمرار هذا النشاط التبشيري في فلسطين، بسبب مساندة الدول الأوروبية الكبرى في قهر محمد علي وإعادة بلاد الشام إلى سلطتها"(1)· وعلى الصعيد الأوروبي، عثرت الحكومتان الإنكليزية والبروسية من خلال إنشاء الأسقفية الأنكليكانية على موطئ قدم ملّي أسوة بفرنسا حامية الكاثوليك وروسيا حامية الأرثوذكس، أما الكنيسة الأنكليكانية فقد رأت في الأسقفية مدخلاً للاتصال بالكنائس الشرقية، وتخيّلت الكنيسة الألمانية الأسقفية المشتركة خطوة للتقارب بين الكنائس البروتستنتية في سبيل القيام بعمل كنسي مشترك، قد يؤدي يوماً ما إلى نوع من الوحدة بين الكنائس البروتستنتية المستقلة·
1 - مقدمات النشاط البروتستنتي في الشرق وخاصة في فلسطين:أ -- جمعية المجلس الأمريكي لمديري الإرسالية الخارجية - الأمريكان بورد:
(American Board of Commissioners for foreign Mission)
أُسّست عام 1810 في الولايات المتحدة الأمريكية جمعية المجلس الأمريكي لمديري الإرسالية الخارجية - الأمريكان بورد - وهي،&quuot; أقدم جمعية إرسالية في الولايات المتحدة"(2)· وانخرطت عدة كنائس بروتستنتية أمريكية في عضوية الأمريكان بورد· وتوجه مرسلو الجمعية الأوائل للعمل في الهند عام 1812، "ولكن منذ البداية لفتت فلسطين انتباه مرسلي الجمعية، فأوفدت الجمعية مُرسَلين عام 1819 للعمل في فلسطين، هما بليني فيسك (Pliny Fisk) وليفي بارسونس (Levy Parsons)· وكانت مهمتهما الإقامة في القدس والعمل على هداية اليهود للمسيحية"(3)· وقد مكث ليفي بارسونس في فلسطين حتى 1821، إذْ سافر إلى الجزر اليونانية ولَحِقَ بصديقه فيسك، وفي الفترة القصيرة التي قضياها في فلسطين قاما ببعض الاتصالات مع اليهود، ووزّعا بسخاء نسخاً من الكتاب المقدس على الحجاج القادمين إلى فلسطين·
ب - الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود (جمعية لندن اليهودية)·
(London Society for Promoting Christianity amongst the Jews).
انبثقت الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود، عن جمعية لندن الإرسالية (London Missionary Society)، التي أسست عام 1795· وذلك بأن شرع أحد أعضاء هذه الجمعية وهو جوزيف صموئيل فري (Joseph Samuel Frey) عام 1801 بالعمل على هداية اليهود ودعوتهم إلى المسيحية· وأسفر نشاط هذا العضو عن ظهور الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود، التي سُمّيَت أيضاً جمعية لندن اليهودية (London Jewish Society, L.J.S)، وقد استقلّت عن الجمعية الأم عام 1808، وشرع أعضاء الجمعية في ترجمة العهد الجديد إلى العبرية لتوزيعه في مراكزها المنتشرة في بريطانيا· وفي عام 1812، طُرِحَت فكرة تبشير اليهود المقيمين خارج بريطانيا· ولمّح كليردو نودي (Cleardo Naudi) لمشاريع جمعية لندن اليهودية المتوقعة بين اليهود في الشرق، في رسالة وجهها إلى جمعية لندن اليهودية في 2/12/1812· ولمّا وصل نودي إلى لندن وكان مقيماً في مالطا(4)، اقترح العمل على تبشير اليهود في الشرق بما في ذلك المقيمين في فلسطين(5)· ودعم ممثل جمعية المرسلين الكنسية في مالطا وليم جويت (William Jowett) فكرة نودي، التي وجدت أرضاً طيبةً فـي بريطانيا· وفي عام 1820، أرســــلت جمعية لندن اليهودية الـقس السويسري ملخيور تشودي (Melchoir Tschoudy) لزيارة فلسطين، ونصح بتعلّم العربية والعبرية والاطلاع على عادات اليهود وأحوالهم(6)· ومهمته الاستطلاعية لم تُسفر عن نتائج باهرة، ولكنه مهّد الطــريق لغيره مـن مرســلي جمعية لندن اليهودية وأهمهم جوزيف ولف (Joseph Wolf)، وهو يهودي ألماني اهتدى إلى الكثلكة ودرس في كلية مجمع نشر الإيمان الرومانية، وفي عام 1819 انضمّ إلى الكنيسة الأنكليكانية في بريطانيا، والتحق مرسلاً في جمعية لندن اليهودية، التي أرسلته بدورها إلى جامعة كمبردج لدراسة اللاهوت· وبعد سنتين في كمبردج انتدبته جمعيته لزيارة الشرق، فزار عدة مدن منها القدس· ويُعَد ولف "رائد إرساليات الجمعية اللندنية اليهودية في الشرق"(7)· ولم يأتِ ولف إلى القدس "ليبشر اليهود بالإنجيل، بل ليعرض على المسيحيين من مختلف الكنائس الاتصال بالمسيحيين الإنكليز"(8)· ويذكر ولف أنّ عدد اليهود في القدس سبعمائة عائلة ولهم خمسة كُنس، ووزع على اليهود نسخاً من الإنجيل، وهم يتشوقون لكلمة الله، وعمّد أحد اليهود(9)· وغادر القدس إلى مصر في 22 تشرين الأول 1822، بعد أن قضى فيها أربعة أشهر· عاد ولف إلى القدس في زيارة ثانية في 25 نيسان 1823، يرافقه المبشران الأمريكيان فيسك وكنج(King) · وفي تموز 1823، غادر ولف القدس وساح في أنحاء سوريا، وزار مراكز تجمع اليهود والمسيحيين· ثم انطلق في رحلة طويلة إلى بلاد ما بين النهرين، زار خلالها مواقع اليهود والمسيحيين اليعاقبة· ويذكر أنّ استقبالهم كان لطيفاً ومشجعاً(10)· في عام 1829، عاد إلى القدس في زيارة ثالثة، ولكنه وجد الأحوال قد تغيّرت، والاستقبال اللطيف الذي حظي به من يهود القدس لم يجد منه شيئاً، "بل كان عليه أن يواجه مقاومة عنيفة من قبل اليهود والمسيحيين الأرثوذكس"(11)·
أما الطبيب المبشر جورج دالتون (George Dalton) فقد جاء وزوجه إلى القدس في 16 كانون الأول 1825 ومكث فيها شهراً، وتوفي في 25 كانون الثاني 1826· ولم يفعل دالتون الكثير في القدس كغيره من المرسلين البروتستنت·
ويعود إخفاق المُرسلين البروتستنت الأوائل في الشرق إلى حالة عدم الاستقرار التي المّت بالشرق على أثر الثورة اليونانية على السلطنة العثمانية، ولاقى المبشرون عداءً في الأوساط اللاتينية والمارونية، وعدّتهم السلطات العثمانية مثيري شغب(12)· فقد صدر عام 1824 فرمان عثماني يمنع استيراد وتداول كتب التوارة والمزامير المطبوعة في أوروبا، لِما تثيره بين الشعب من "جدل واضطراب"(13)· وفي العام نفسه، صدرت براءة بابوية تمنع استعمال الكتب المقدسة البروتستنتية· وأصدر بطريرك الموارنة قراراً آخر بالمعنى نفسه يَحرِم به مستعملي هذه الكتب· أما اليهود فقد رأوا في نشاط المبشرين خطراً على رعاياهم، وحذّروا من التعامل مع المرسلين· وحُرِمَ من تعاطى معهم من حقوقه في الجماعة اليهودية، والذي يقع عليه القصاص الذي أعدّه ربابنة اليهود، يَفقِد حقوقه الدينية والاجتماعية، وعلى المستوى القانوني "يفقد حماية رئيس ملّته المعترف بها لدى السلطات العثمانية"(14)·
أما جون نكلسون (John Nicolayson) فقد استطاع أن يحقق بعض النجاح في القدس واستقرّ فيها، وعاصر إنشاء الأسقفية الأنكليكانية، وهو قس دانماركي عمل في خدمة جمعية لندن اليهودية(15)· والتحق بجورج دالتون في القدس، وتزوج أرملته بعد وفاته، وقام بعدة رحلات في الشرق زار خلالها بيروت ودمشق وطبريا وصفد والاسكندرية والقاهرة· وحتى عام 1833،لم تلقَ مشاريع نكلسون الإرسالية نجاحاً باهراً في الأوساط اليهودية· ولكن الاحتلال المصري لفلسطين خلق أوضاعاً أكثر ملاءمة لنجاح مشاريعه، فـطرح عام 1833 فكرة إنشاء كنيسة تكون بمثابة مكان عبادة ومركز تبشيري لليهود· وتوقّع أن تكون هذه الكنيسة برئاسة أسقف، وتمنّى الحصول على مطبعة يوزع إنتاجها الأدبي على اليهود، وتوقّع أن يكون الـغربيون منهم أكثر تقبّلاً لرسالته من الشرقيين، وسعى لفتح مدرسة لليهود تكون لغة التدريس فيها الألمانية· إنّ تخطيط نكلسون المعكوس، كإنشاء كنيسة وتعيين أسقف بالقدس قبل تكوين طائفة ظل الأسلوب السائد فيما بعد عند إنشاء الأسقفية الأنكليكانية، أي تكوين الأسقفية قبل وجود طائفة(16)·
وفي عام 1836، سافر نكلسون إلى بريطانيا للعمل على تحقيق بعض مشاريعه، وعاد إلى فلسطين عام 1837، ولحق به أربعة يهود تنصروا ووضعوا أنفسهم في خدمة إرساليته· ومنذ تلك الحقبة ازداد عدد مرسلي جمعية لندن اليهودية المنضمين إلى نكلسون بالقدس ومن العسير حصر عددهم وذكر أسمائهم جميعاً· وفي عام 1839 عمّد أفراد عائلة روزنتال اليهودية، فَعَدّ عمله هذا إنجازاً باهراً: "إنّها بلا شك أول عائلة يهودية تنظم إلى الكنيسة منذ العهد الرسولي"!(17).
أرسى نكلسون في القدس قاعدة العمل الإنجيلي، وفي بريطانيا ازدهرت جمعية لندن اليهودية وتعاظم نفوذها بانضمام عدد من الشخصيات الكنسية والسياسية إلى عضويتها، ومنهم رئيس أساقفة كنتربري، وغدت الجمعية جهازاً رئيساً في الكنيسة الأنكليكانية· وأخذ نكلسون ورفاقه يقيمون الصلاة يومياً في اللغة العبرية في بيت استأجروه في القدس، ويوم الأحد تُقام الصلاة في العبرية والإنكليزية والألمانية والعربية· قادت الحرية التي تمتّع بها نكلسون إبان الحكم المصري وبعده، والدعم الذي وجده في بريطانيا إلى منزلق خطر: "فاشترى أرضاً في القدس وشرع بحفر الأساسات مخالفاً بذلك القانون العثماني"(18)· ورغم مساندة الدبلوماسية البريطانية، أوقفت السلطات العثمانية مشروعه· أمّا إنجازات نكلسون فستكون يوماً ما القاعدة التي ستقوم عليها الأسقفية الأنكليكانية، وسيُنتخب الأسقف من جمعية لندن اليهودية، ويشكّل نكلسون ورفاقه نواة الإكليروس الأنكليكاني في القدس·
جـ - جمعية المُرسلين الكنسية (Church Missionary Society .C.M.S)·
أسّس القس الأنكليكاني كلافام سيكت (Calapham Sect) عام 1799جمعية المرسلين الكنسية، فَعُدّت منذ تأسيسها جمعية تابعة للكنيسة الأنكليكانية· وشعار الجمعية وهدفها نشر معرفة الإنجيل بين الوثنيين، ولذا عُرِفَت أيضاً باسم "جمعية المُرسلين الكنسية لافريقيا والشرق"·
وفي عام 1815، صارت مالطا مركزاً لجمعية المرسلين الكنسية، ومنها انطلقت لبلاد الشام، لعدة أسباب هي: أولا،ً منافسة الكنيسة الكاثوليكية، وخاصة نشاط مجمع نشر الإيمان الإرسالي· ثانياً، موقف بريطانيا من حروب نابليون في الشرق، وفضلها في دحره مما شجع المرسلين على اتّباع خطـوات الجـنود، فصـارحـوض البـحرالأبيض المتوسط منطقة نفوذ للمرسلين· ثالثاً، حماسة مرسلي جمعية المرسلين الكنسية للاتصال بالكنائس الشـرقية واطـلاعها على التـعالـيم الإنجـيلية(19)، وأشـهر هـؤلاء المرسلين كليردو نودي· وطرحت الجمعية عدة اقتراحات للعمل في الشرق، ونموذج الجمعية في نشاطها هذا كان مجمع نشر الإيمان، "فقد اعترفت جمعية المرسلين الكنسية بصراحة أنها تحسد مجمع نشر الإيمان على إنجازاته الناجحة، ولم تصل إلى درجة تقليده ومساواته في إنجازاته"(20)·
بعثت جمعية المرسلين الكنسية وليم جويت (William Jowett) من مالطا إلى بلاد الشام، ليقوم بعدة جولات فيها، والغرض من جولاته هذه:" البحث عن أفضل الوسائل للتبـشــير بالمسـيحية مـن خــلال الكـنائـس الشـرقية"(21)· فمـن مالطا، وهي مركز هذه الحملات، ترتب على جويت أن يقوم "بمسح للأحوال الدينية في الشرق"(22)· وعليه الاتصال: "بالكنيسة الكاثوليكية ··· والكنيسة الأرثوذكسية والسُريانية والقبطية والحبشية والأرمنية والنسطورية··· وطريقة العمل، أن يقوم جويت بزيارة الحكام والقناصل والشخصيات الكنسية والرحّالة، والاتصال بهم لتكوين منظمات محلية إنْ أمكن لتوزيع الكتب المقدسة، وأنْ يحضّر لإنشاء مطبعة في مالطا، ويدرس لغات الشرق"(23) فالكنائس الشرقية ليست هدفاً بحد ذاتها، بل عليها أن تعكس نور الإنجيل (24)· ونشر جويت المعلومات التي جمعها ويوميات جولاته في كتابين· فقد زار عدة مدن سورية وفلسطينية، وأحسن الأحبار الشرقيون استقباله واستبشروا بقدومه خيراً، ولكن إلى حين، "وخشي الموارنة والكاثوليك من أن يُقْبِلَ أتباعهم على الدين الجديد، فاستصدروا فرماناً(25) من الباب العالي، يمنع توزيع الكتب المقدسة في بلدان الإمبراطورية العثمانية· وهدّد البطريرك الماروني بحرمان كل ماروني يتعاون مع المُرسلين(26)·
يُلمّح مؤرخو جمعية المرسلين الكنسية إلى العلاقة القائمة بين القرار البابوي والفرمان العثماني، بمنع استعمال وترويج الكتب البروتستنتية، ويصفون البابا والسلطان العثماني بالمسيح الدجال الغربي والشرقي(27)· تدريجاً تقاسمت الجمعيات البروتستنتية مناطق العمل والنفوذ في الشرق، فجمعية لندن اليهودية نالت حصّتها في فلسطين· ولبّت جمعية المرسلين الكنسية نداء الأسقف غوبات للعمل في فلسطين عام 1851، بعد أنْ اقتصر عملها على مصر والحبشة· "ولما بدأت جمعية التبشير (المرسلين) الكنسية (C.M.S) التابعة لكنيسة إنكلترا عملها في هذه البلاد، رؤي من المناسب أن يصير إلى اتفاق ودّي على مناطق العمل· فجرى اتفاق بين البورد الأمريكي للكنيسة الجمهورية وجمعية التبشير للكنيسة الأسقفية، بأن يقتصر عمل مرسلي البورد على سوريا ولبنان، ويترك القسم الجنوبي أي فلسطين كمنطقة عمل لجمعية التبشير للكنيسة الأسقفية"(28)·
ودخل عمل الجمعيات البروتستنتية في الشرق طوراً جديداً بتكوين الأسقفية الأنكليكانية في القدس· وهذا التطور الجذري في الوجود البروتستنتي في فلسطين لم يتحقق بهمة الجمعيات وحدها، بل بدعم الدبلوماسية الإنكليزية والبروسية·
2 - الدوافع البريطانية والبروسية لإنشاء أسقفية أنكليكانية في القدس:جاء إنشاء الأسقفية الأنكليكانية في القدس نتيجة تفاعل عدة عناصر في كل من بريطانيا وبروسيا: "إنّ وجود رئيس أساقفة أنكليكاني في القدس في أيامنا هذه، هو نتيجة تاريخ معقد الأحداث، تداخلت فيه القضايا السياسية والدينية الكبرى السائدة في القرن التاسع عشر الأوروبي· أما الوجود الأنكليكاني هذا، فلم يصل إلى مستوى الحلم الذي راود محققيه، والضجة التي أثارها معارضوه، واللقب المهيب الذي أُصْبِغَ على ممثل الأنكليكانية في المدينة المقدسة"(29)· ونضجت فكرة الأسقفية في كل من بريطانيا وبروسيا·
أ) فلسطين في الفكر السياسي والديني البريطاني:
بعد الغزو النابليوني للشرق، تعاظم نفوذ بريطانيا في السلطنة العثمانية، إذْ إنها حمت الكيان العثماني المتداعي من الإنهيار، وصدّت نابليون أمام أسوار عكا، فسعى مسيحيو فلسطين الروم واللاتين إلى كسب رضى بريطانيا وحمايتها(30)·
فقد أخذ نظام الملل العثماني يتهاوى أمام نظام الامتيازات الذي تطور من معاهدات خاصة لمعاملة التجار الأجانب، إلى تدخل القوى العظمى لحماية الملل المسيحية، ولم يكن لبريطانيا ملّة بروتستنتية من المسيحيين المحليين تعمل على حمايتها· أما الثمن الذي دفعته السلطنة العثمانية للدول الأوروبية مقابل حمايتها من أطماع محمد علي، فكان مزيداً من التدخل في شؤون السلطنة· ومن نتائج هذا التطور في المسألة الشرقية فتح قنصليات أوروبية في القدس، "لممارسة سياسة التدخل المباشر في شؤون الدولة العثمانية، وفلسطين خاصة"(31)· فتوصلت بريطانيا في تموز 1838، إلى افتتاح قنصلية في القدس، وعُيّنْ وليم يونغ (William Young) نائب قنصل، إذْ إنّ القنصل العام في الإسكندرية·
جاء في مراسلات جون بلويل (John Bilwell) إلى يونغ ما يلي: "أمرني الفيسكونت بالمرستون (Palmerston) إعلامك أنّ من واجبك بصفتك نائب قنصل في القدس، أن تقوم بحماية اليهود عامة"(32)· وكان للورد البريطاني إيرال أوف شافتسبيري (Earl of Shaftesbury - Lord Ascley) دور مهم في فتح قنصلية القدس وتوجهها لحماية اليهود· فهو من كبار الشخصيات الحكومية ذات النفوذ والاتصالات القوية مع جمعية لندن اليهودية وجمعية المرسلين الكنسية(33)· فتطور مفهوم القنصلية من رعاية المصالح السياسية والتجارية البريطانية وحماية الرحّالة والسيّاح الإنكليز، إلى حماية اليهود والبروتستنت· وهما حلقتا النفوذ البريطاني في فلسطين: فاليهود ملّة قائمة تبنتّها بريطانيا، والبروتستنت ملّة كونتّها بجهود المرسلين، ثم حدّدت معالمها وقوّت كيانها من خلال النظام الأسقفي· فكتب يونغ إلى وزارته في لندن ما يلي: "هناك يا سيدي طرفان يجب الإشارة إليهما، ويتطلعان بلا شك إلى أن يكون لهما نصيب في تطور الأمور هنا، وهما: أولاً، اليهود الذين أعطاهم الرب هذه الأرض ملكاً لهم· وثانيا، المسيحيون البروتستنت، وهم النسل اليهودي الروحي الشرعي، واقترح بتواضع أن تكون بريطانيا العظمى هي الحامية الطبيعية لكليهما، وقد بدأت هاتان الطائفتان تأخذان مكانهما بين الطوائف المسيحية الأخرى"(34)·
لم يبخل يونغ في تقديم الحماية لطائفة نكلسون الناشئة، وقد تكوّنت بفضل رعاية جمعية لندن اليهودية وأتباعها ورؤسائها من اليهود المتنصرين على المذهب البروتستنتي· أما الكنيسة الأنكليكانية في بريطانيا، فقد كانت تتطلع إلى قيام صلات بينها وبين الكنائس الشرقية، ورأت في الحالة الراهنة في فلسطين، حيث تعاظم النفوذ البريطاني سياسياً وإرسالياً، الفرصةَ المناسبة لخلق هذه الصّلات· وغير ذلك هناك تطلعات الجمعيات الإرسالية البريطانية، وقد آمن الكثير من الأنكليكانيين بالنظرية الألفية، أي مجيء السيد المسيح ديّاناً للعالمين، ويتم ذلك في القدس، والمؤشر على ذلك المجيء اهتداء اليهود للنصرانية، لذا يجب حشر اليهود في القدس وتنصيرهم تمهيداً لذلك المجيء· ومن جهة أخرى وفي الوقت عينه تقريباً، تفاعلت عدة ظروف سياسية واقتصادية ودينية في بروسيا، والتقت وتكاملت مع المصالح البريطانية في فلسطين·
ب - فلسطين في الفكر السـياسي والديني البروسي:
كانت بروسيا حتى حدوث الأزمة المصرية في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، المملكة الألمانية الكبرى التي لا تُعير المسألة الشرقية اهتماماً بالغاً: "فقد كانت اهتماماتها منحصرة في سعيها للحصول على مكانة في التجانس الأوروبي"(35)· وفي الحرب الروسية التركية (1826 - 1829)، تدخّلت بروسيا بين تركيا وروسيا في مفاوضات أدرنه عام 1829· وفي عام 1835، استعان العثمانيون ببعثة عسكرية برئاسة كابتن في الحرس الملكي البروسي، هو هلموت فون مولتكه (Helmuth Von Moltke) لتنظيم الجيش العثماني· وقامت البعثة بمهمتها في الفترة الواقعة بين عامي 1835 - 1839، غير أنها لم تساهم بصورة مباشرة في تعزيز النفوذ الألماني في الدولة العثمانية· فمفاوضات لندن عام 1840، هي الفرصة المناسبة لتأخذ بروسيا دورها في المسألة الشرقية، وقد اجتمعت الدول الأوروبية لتحجيم محمد علي، والحفاظ على الكيان العثماني الضعيف·
أمّا على الصعيد الكنسي، فكانت الوحدة الكنسية البروتستنتية (وقد تفرقت البروتستنتية فرقاً مستقلة منها اللوثرية والكلفنية والأنكليكانية ···) حُلماً يداعب مخيلة ملوك بروسيا· وهذا الحلم يحقق الوحدة البروتستنتية على عدة مستويات: بين الألمان والإنكليز، وداخلياً في المانيا بين المذاهب البروتستنتية· وتحقيق هذه الوحدة يتضمن إعادة النظام الأسقفي إلى الكنائس البروتستنتية، وقد احتفظت به الكنيسة الأنكليكانية· أمّا الكنائس البروتستنتية الأخرى، فقد أوجدت رتباً ودرجات كنسية موازية للأسقفية الأنكليكانية، فتحقيق الوحدة البروتستنتية في نظر ملوك بروسيا، لا يتم إلا بالعودة إلى النظام الأسقفي ولو جزئياً(36)· وأول من طرح هذه الفكرة ملك بروسيا فردريش الأول (Friedrich) عام1701(37)· أمّا الملك فردريش فلهلم الرابع (Friedrich Wilhelm) (1840 - 1861)، الذي عُرِفَ عنه اهتمامه بالشؤون الدينية منذ صباه، فقد تخيل أن يُعْمَل بالنظام الأسقفي في الكنيسة البروتستنتية المتحدة؛ وأسقفية مشتركة في القدس بين الألمان والإنكليز قد تكون مناسبة ووسيلة لتحقيق حلمه الأسقفي· وكانت أفكار الملك هذه أشبه "بحلم في ليلة صيف")38)· ولكنها وجدت الظروف والأشخاص الضالعين لإخراجها لحيّز الوجود·
كوّن اليهود في القرن الماضي ضغطاً اجتماعياً واقتصادياً في المانيا: "واليهود جسم غريب في المجتمع الألماني ويشكلون دولة داخل الدولة ···، وتمتعت الرأسمالية اليهودية بامتيازات خاصة في حقول النشاطات الصناعية والمالية واستثمار الأراضي ···، وما أن حلّ القرن التاسع عشر حتى كانت الرأسمالية اليهودية مزدهرة في شتى المرافق الاقتصادية"(39)· وقد انقسم الرأي العام الألماني إلى تيارين إزاء الظاهرة اليهودية: التيار الليبرالي، ويطالب بمساواة اليهود بالمواطنين الألمان، بينما ينظر التيار المحافظ إلى اليهود على أنهم غرباء، وأنّ اليهودية ديانة تناقض التعاليم المسيحية، فاشترط أنصار هذا التيار تنصير اليهود لقاء منحهم المواطنة الكاملة· وألقيت مهمة تنصير اليهود على جمعية نشر المسيحية بين اليهود، التي أسّست عام 1822 في بروسيا، وهي شقيقة جمعية لندن اليهودية، وحصلت الجمعية على دعم حكومي رسمي· "لم تؤدِ مراسيم تحرير اليهود وإعطائهم المواطنة الألمانية وتنصيرهم إلى حل المسألة اليهودية في المانيا ···، وأصبحت الحاجة ملحة لحل جذري للمسألة، وفي هذه الظروف اعتلى فردريش فلهلم الرابع العرش، فقد كان مهتماً بالمسألة اليهودية وبأوضاع المسيحيين في فلسطين منذ صغره· ألا يجب أن تكون فلسطين الحل الذي يوصل المسألة اليهودية في ألمانيا إلى حل مرضٍ؟"(40) أي إغراء اليهود بالهجرة إلى فلسطين وتنصيرهم هناك!
وهكذا بحلول عام 1841، كان لكل من بريطانيا والمانيا مصالح خاصة؛ سياسية ودينية واقتصادية في فلسطين· وظهر في الصورة الشخص المناسب ليكون صلة الوصل بين الطرفين، الا وهو البارون كريستيان شارل بنزون (Christian Charles Bunsen)·
جـ - بنزون وفردريش والمشاريع الألمانية في فلسطين:
ولد بنزون عام 1791 في كورباخ (Korbach) وهو ابن جندي هولندي· ودرس اللغات الكلاسيكية في جامعة غوتنجن وفي معهد اللغات الشرقية في باريس· وعام 1816، تزوج سيدة إنكليزية· ثم التحق بالسلك الدبلوماسي، وعيّن عام 1827 ممثلاً لبروسيا لدى الكرسي الرسولي· وفي عام 1834، رُقي إلى رتبة وزير مفوّض فوق العادة· وفي عام 1841، أصبح مستشاراً لملك بروسيا· ومن أفكار بنزون الرائدة، إعادة تشكيل السلطة الكنسية حسب نظام الأبرشيات وتحت مظلة النظام الأسقفي، ومن هنا ندرك سرّ حماسة بنزون للمشاريع الألمانية في فلسطين· فمشروع أسقفية القدس هدفه على المدى البعيد إعادة النظام الأسقفي إلى بروسيا(41)· فالمبادرة الحالية حول القدس تعود للملك فردريش، ولكنها من بنات أفكار بنزون(42)· ولم يكن المشروع الألماني الذي طرحته بروسيا على بريطانيا عام 1841، وتبناه بنزون أول مشاريعها في فلسطين، بل سبقته عدة مشاريع المانية كانت بمثابة المقدمة لمشروع عام 1841(43)·
طرحت بروسيا مشروعها الأول على الحكومة النمساوية في مذكرة بتاريخ 6 آب 1840، وتتناول فيه الوجود المسيحي في الأماكن المقدسة وضمان حرية العبادة المسيحية· ويبدو أن الدوائر الروسية اطّلعت على التحرك البروسي، فبادرت إلى تحذير الحكومة البروسية من مغبة التسرع في طرح مشروع غير مدروس، يرمي إلى تدويل القدس وإقامة دولة مسيحية في المدينة المقدسة وتجميع يهود العالم في مدينة سليمان(44).
وقد قدمت بروسيا المشروع الثاني بعد انسحاب المصريين من فلسطين في نهاية عام 1840 لتدفع تحركها الدبلوماسي إلى منعطف جديد، بعد أن أخفقت في مشروعها المقدم إلى الحكومة النمساوية· ففي 8 شباط 1841، وجّهت بروسيا مذكرة إلى الحكومة البريطانية تقترح فيها: فرض حماية دينية على الأماكن المقدسة، وبحث المسألة الفلسطينية وتحـريـر كـل المســيحـيين عـن طـريـق المـفاوضـات، لكـنها لم تلـقَ تجـاوبـاً من الحكومة البريطانية(45)·
وعلى الرغم من خيبة الأمل، عاودت حكومة بروسيا من جديد الاتصال بالعواصم الأوروبية الكبرى، وقدمت مشروعاً معدلاً في شهر آذار 1841، جاء في مذكرتين لبولوف ورادوفتز(Polov & Radowitz) ، وجرى الحديث عن مشروع بروسي لتدويل القدس وضواحيها بالوسائل السلمية، ووضعها تحت الحماية العسكرية للدول الأوروبية· وكانت المذكرتان تحملان أفكار فردريش وبنزون، "ففي 30 آذار أملى الملك على رادوفتز دعوته إلى المسيحيين الأوروبيين للعمل على اتحاد القوى العظمى، للقيام بعمل منسّق في فلسطين، ولتحسين وضع المسيحيين في الشرق· ولكن جهود الملك هذه لم تأت بثمرة ··· واقتنع الملك أن تحسين وضع أرض الميعاد لن يتم إلاّ على أسس دينية"(46)· وجاء في مذكرتي بولوف ورادوفتز هذه التوصيات(47)·
- أن توضع الكنائس والأديار والمؤسسات التابعة للطوائف الكاثوليكية والأرثوذكسية تحت حماية دولية·
- تحسين أوضاع رعايا السلطنة غير المسلمين عن طريق إعفائهم من الضرائب ومنحهم قضاءً مستقلاً·
- ضرورة إقامة ثلاثة ممثلين أوروبيين في القدس: الأول تُعيّنه بالتناوب النمسا وفرنسا ممثلاً للكاثوليكية، والثاني تعينه روسيا ممثلاً للأرثوذكسية، والثالث تعينه بالتناوب بروسيا وبريطانيا ممثلاً للبروتستنتية· وترابط عن كل دولة في القدس فرقة قوامها ستون جندياً لحماية الأماكن المقدسة والسهر على تنفيذ القرارات المتفق عليها·
- تتعهد المذكرة بتأمين حماية اليهود في فلسطين إذا رغبوا في ذلك، وتعليم أبنائهم·
لم يلقَ المشروع ترحيباً من الدول الأوروبية، ومن جهة أخرى لم ييأس فردريش وبنزون، وقد صار بيّناً لدى البروسيين ما هي الأفكار التي يستحيل تحقيقها، والأخرى التي يمكن تحقيقها، فبعث فردريش بنزون وزيره المفوّض فوق العادة إلى لندن لعرض مشروع أسقفية أنكليكانية في القدس تنضم إليها بروسيا· ويطرح المشروع بعض الأفكار البروسية السابقة، ويحقق تطلعاتها في الدولة العثمانية عامة وفلسطين خاصة، ويداعب حلماً بريطانياً قديماً·
3 - محادثات لندن بين بريطانيا وبروسيا، حزيران - تشرين الأول 1841:
وجّهت بروسيا جهودها نحو بريطانيا لإنشاء أُسقفية القدس، فصدرت في 8 حزيران 1841 تعليمات الملك فردريش إلى بنزون، فوصل لندن في 19 حزيران، بصفة مبعوث فوق العادة ومفاوض مُطلق الصلاحيات، ليقود المحادثات باسم بلاده مع الحكومة والكنيسة البريطانيتين·
أ - تقييم الحكومة والكنيسة البريطانيتين للإرساليات خارج بريطانيا:
لم يكن مبدئياً للحكومة البريطانية مصالح دينية خاصة في السلطنة العثمانية أسوة بفرنسا وروسيا، وإن استقر بعض المرسلين البروتستنت في القدس بدون دعم حكومي خاص، ما عدا الحماية التي يتمتع بها كل أجنبي من قبل قنصلية أو ممثل دولته ضمن نظام الامتيازات العثماني· فالإرساليات الخارجية قامت بتوجيه ودعم المؤسّسات الكنسية الخاصة، وليس الكنيسة الرسمية التي ترعى وتسيّر هذه الإرساليات الخارجية مباشرة· وفي الواقع سعت الإرساليات الخارجية للحصول على حماية الدولة من خلال القناصل، ونسقت نشاطاتها مع القيادات الكنسية البريطانية· من جهة أخرى، تورّطت كل من الكنيسة والدولة بدعم الإرساليات الخارجية أثناء الحكم المصري في فلسطين· وللخروج من أزمة تناقض المبادئ المعلنة مع الواقع، تمّ تشكيل >صندوق الأسقفيات في المستعمرات< (Colonial Bishoprics Fund) في نيسان 1841(48)· وأُسِّسَس هذا الصندوق بجهود أُسقف لندن وموافقة رئيس أساقفة كنتريري لدعم المؤسسات الإرسالية، فتضافرت الجهود في جبهة واحدة موحّدة· فتقرر بعد إقرار الصندوق تكوين أسقفيات في المستعمرات وراء البحار، وأول هذه الأسقفيات تمّ تكوينها في نيوزلندا، والثانية في جبل طارق وقد تقرر إقامتها في مالطا أولاً، فخرج حوض غربي البحر الأبيض المتوسط من نطاق صلاحيات الأسقفية المزمع إنشاؤها في القدس· فعند وصول بنزون إلى لندن كانت الكنيسة البريطانية قد أدرجت ضمن مشاريعها إقامة أسقفيات خارج بريطانيا· أما مشروع الملك فردريش فقد حلّله معاصروه وخصوصاً جمعية لندن اليهودية، على أنه محاولة جادة للحصول على امتيازات دينية وسياسية في فلسطين: "رغب ملك بروسيا فردريش فلهلم عام 1841 أن يحسّن وضع البروتستنت في الأرض المقدسة، ويحقق لهم امتيازات أُسوة باللاتين والروم والكنائس الأخرى، وها هي الفرصة السانحة لتحقيق ذلك، في ظل عودة الحكم العثماني في فلسطين بدعم مسيحيي أوروبا"(49)·
ب - تعـليـمات المـلـك فـردريـش إلى بـنـزون، 8 حـزيـران 1841:
زوّد الملك فردريش مبعوثه الخاص بتعليمات حول مهمته، مؤرخة في 8 حزيران 1841، وعرضها بنزون على الحكومة البريطانية، وملخصها ما يلي:(50):
1 - المستشار الدكتور بنزون مفوّض فوق العادة·
2 - يجري التنسيق بين الطرف البروسي والحكومة البريطانية، ورئيس الكنيسة الأنكليكانية رئيس أساقفة كنتربري، وأسقف لندن رئيس الإرساليات البريطانية الخارجية·
3 - هل تقبل الكنيسة البريطانية التي تملك على جبل صهيون داراً، وقد بدأت في بناء كنيسة في الموقع عينه، أن تمنح كنيستها الشقيقة، أي الكنيسة الإنجيلية الوطنية البروسية، مركزاً أخوياً مماثلاً في الأرض المقدسة؟
4 - اتحاد الكنيستين (الإنكليزية والبروسية) له تأثير على الشعور الوطني في كلا البلدين·
5 - لن تستطيع البروتستنتية أن تحصل على اعتراف بوجودها في الشرق، وخاصة في الأرض المقدسة وأن تنتشر وتثمر، إلاّ إذا قدّمت نفسها وعملت في هذه البلاد ككيان واحد، أُسوة باليهودية والكنائس اللاتينية والرومية والأرمنية في الشرق· فإذا أراد المسيحيون البروتستنت المطالبة بالاعتراف بكنائسهم المختلفة بصورة منفردة، (أي الكنيسة الأنكليكانية والإنجيلية واللوثرية والإصلاحية ···) فقد تتردد الحكومة التركية في تلبية طلبهم·
6 - يميل بعض المسيحيين المحليين في أرمينيا وبيروت والقدس إلى اعتناق المذهب البروتستنتي، ويحول دون ذلك إخفاق المرسلين في حمايتهم· فالحكومة العثمانية لن تمنح الحماية والاعتراف لجماعات بروتستنتية متفرقة، بل لطائفة واحدة متحدة· وتتمتع الكنائس القديمة بهذا الامتياز، لأنها متحدة وتقوم على النظام الاسقفي المتّبع منذ العصر الرسولي·
7 - الفرصة مواتية، لما لبريطانيا وبروسيا من صلات جيدة بالسلطنة العثمانية، للحصول على اعتراف بالكنيسة البروتستنتية، والسماح لها بالعمل بحرية أُسوة بالكنائس الأخرى· فلماذا لا نغتنم هذه الفرصة السانحة؟ سيقاضينا الرب والأجيال القادمة، فعلينا نبذ الخلافات والعمل على اتحادنا·
8 - تعاني فلسطين التعددية الطائفية والكنسية، أما نحن فعلينا أن نتقدم متحدين إلى فلسطين ونشهد لإيماننا المسيحي، ونمد أيادينا متصالحين متصافحين فوق مهد الفادي وقبره، وننسى خلافاتنا القديمة·
9 - لا مانع لدينا أنْ يلتحق القسس البروسيون بالكنائس الأنكليكانية خارج بريطانيا، ويقبلوا السيامات المطلوبة في الكنيسة الأنكليكانية·
10 - مركز الكنيسة الأنكليكانية في جبل صهيون هو منطلق حركة الوحدة الإنجيلية، وتركيا أرض محايدة نستطيع منها الانطلاق في حركة وحدوية بروتستنتية عامة·
11 - هذه الوحدة لا تتضمن ضياع استقلال كنيسة بروسيا أو التضحية به، فالوحدة لا تمنع التنوّع الذي جعله الله بين الشعوب واللغات· فكل أمّة لها ميزاتها وتاريخها ودورها الخاص في ملكوت الله، فالشعب الألماني مستعد للانضمام لهذه الوحدة مع الحفاظ على استقلاليته وخصائصه·
12 - نقطة الانطلاق باتجاه هذه الوحدة هي تكوين أسقفية في القدس، والمبادرة بيد الكنيسة الأنكليكانية، وستكون هذه الأسقفية نواة آمال كبيرة·
13 - مقر الأسقفية سيكون في جبل صهيون، وحدود صلاحيات الأسقف هي الأرض المقدسة·
14 - يسمح جلالة الملك للكنسيين البروسيين العاملين بين اليهود المتنصرين الناطقين بالألمانية الانضمام للأسقفية وقبول السيامات الأنكليكانية·
لاقت مهمة بنزون تجاوباً إيجابياً في الأوساط البريطانية، وسارع بنزون إلى الاتصال بالشخصيات البريطانية وبأصدقائه: "كان على بنزون أنْ يفاوض في آن واحد الكنيسة والوزارة البريطانية، فقد تداخلت السلطتان بهذه القضية الدينية - السياسية، وكلتاهما مهتمتان بالنفوذ الروحي والاقتصادي والسياسي للتاج البريطاني"(51)· وأسفرت محادثات بنزون مع هذه السلطات البريطانية عن إعلان المبادئ الأساسية حول أسقفية أنكليكانية في القدس·
جـ - إعلان المبادئ الأساسية لأسقفية في القدس:
في شهر تموز 1841، تمّ الاتفاق على المبادئ الأساسية حول إنشاء أسقفية في القدس، وصادق الأساقفة الإنكليز عليها، وأهم ما جاء فيها : (52).
1 - مبدآن أساسيان تقوم عليهما الوحدة الكنسية: أولاً، الكثلكة [أي الشمولية، صفة الكنيسة الجامعة]، وثانياً، احترام الاستقلال الوطني الذي يضمن حيوية الكنائس القومية ونموها·
2 - إنّ الاختلافات بين الكنائس عديدة، ويجمع الإيمان هذه الكنائس· فالكنائس التي تتطلع للعمل معاً عليها أنْ تتبنى الروح الكاثوليكية [والكاثوليكية هنا بالمعنى اللغوي اي الشمولية الجامعية، وليس بالمعنى الكنسي الاصطلاحي أي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية]، فتكون لها مصدر إلهام وتوجيه، وتتخطى مصالحها القومية الثانوية والاعتبارات السياسية والوطنية الضيقة، فالهدف روحاني إيماني، والوسائل للوصول إليه يجب أن تكون من الطبيعة نفسها، روحانية وإيمانية· هذه المبادئ لا تمس الروح القومية، فعلى كل كنيسة أن تحتفظ بالكتاب المقدس بلغتها الأم· ويقوم نظام الحكم الكنسي على المبادئ والأسس الرسولية، وتترك لكل قومية حرية التعبير والعبادة في شركة الإيمان الواحد·
3 - أسقفية القدس ليست أسقفية بروسية أوبروسية إنكليزية، بل أسقفية أنكليكانية ينضمّ إليها القسس الألمان، دون التضحية بسماتهم ومميزاتهم القومية·
4 - تُحَدّد صلات الرعايا الألمان في أسقفية القدس بالأسقف، حسب الأسس المعمول بها في الكنيسة الأنكليكانية، وذلك للحفاظ على وحدة العمل والقيادة في الكنيسة·
5 - أحيطَ ملك بروسيا علماً بالمبادئ الأساسية، والتي هي قاعدة التعاون والعمل بين الطرفين البريطاني والبروسي·
د - أسقفية القدس في الدوائر الوزارية البريطانية:
عُرِفَ عن اللورد بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا لامبالاته بالأمور الدينية، فاستعان بخبرة اللورد اشلي المقرب من الجمعيات البريطانية· أما الذي حدا بالمرستون على تبنّي مشروع الأسقفية، فكان دافعاً عملياً لتقوية النفوذ البريطاني في الشرق، فلا بأس من أن تدعم الحكومة مشروع الأسقفية، وحثّ المفاوضين على الاسراع والتوصل إلى نتائج مُلزِمَة للطرفين المتفاوضين البريطاني والبروسي، " لئلا يُتيح لخليفته التراجع"(53)· فتمّ توقيع الاتفاق بين ممثلي الكنيسة الأنكليكانية ومبعوث ملك بروسيا في 6 آب 1841، ورُفِعَ نص الاتفاقية إلى بالمرستون· وما هي إلاّ أيام، حتى سقطت حكومة بالمرستون بعد حجب الثقة عنها، وشكّل المحافظون وزارتهم بزعامة السير روبرت بيل (Robert Peel)· لم تكن هذه الوزارة مؤيدة لأسقفية القدس كوزارة بالمرستون، وخرج مشروع الأسقفية من دوائرها، وقد فَقَدَ ضخامته وحجمه الذي قدّره بالمرستون، وكاد المشروع أنْ يُهمَل لولا "تدخّل السلطات الكاثوليكية (الإنكليزية) غير الموفق (ضد المشروع)، مما أثار بشدة الملكة فكتوريا، وإلاّ بكل بساطة أُهمِلَ تحقيق المشروع؛ وعُمِلَ بالفكرة السائدة آنذاك قبل وصول بنزون إلى لندن، أي تعيين أسقف للبريطانيين المقيمين في حوض البحر الأبيض المتوسط· ولمّا كان التراجع الكلي عن المشروع لم يعد ممكناً، تُرِك موضوع الأسقفية لحين تبتّ فيه أحداث الساعة وتطور الأمور المقبلة"(54)· يؤكد حجّار الوضع الحرج الذي وصل إليه مشروع الأسقفية المبهم غير واضح المعالم، فلو وصل بنزون إلى لندن متأخراً، أي بعد سقوط حكومة بالمرستون، لعارض السير بيل رئيس الوزراء المحافظ المشروع وأسفر عن إخفاق ذريع(55)· وعلى الرغم من الحماسة التي وجدها بنزون في الأوساط البريطانية الكنسية والسياسية، فقد جابه كثيراً من المعارضين والمنتقدين·
هـ - مؤيدو ومعارضو إنشاء الأسقفية الأنكليكانية:
لم ينحصر مشروع إنشاء أسقفية أنكليكانية في القدس بين بنزون ورئيس أساقفة كنتربري هولي، بل كانت هناك عدة أطراف في بريطانيا وخارجها تراقب عن كثب هذه المفاوضات مؤيدة ومعارضة· ودوافع التأييد والمعارضة متباينة متنوعة: سياسية وعقائدية وطائفية· وفيما يلي عرض لأهم التيارات المعارضة والمؤيدة·(56):
1) المـواقـف الـبـريـطـانـيـة مـن أسـقـفـية الـقـدس:
أيّدت ثلاثة تيارات في بريطانيا مشروع الأسقفية وهي: أولا، الجماعات المهتمة بـالـقـضـيـة الـيـهـوديـة وتنـصـير الـيـهـود· وثـانـيـا، مـعارضـو الحـركــة الـتراكتارية(57) (Tractarianism) الذين اتجهوا إلى التضامن مع الكنائس البروتستنتية الأخرى، وتقوية الفكر البروتستنتي في الكنيسة الأنكليكانية تجاه التيار الكاثوليكي الذي مثله التراكتاريون· وثالثا، القسس في الكنيسة الأنكليكانية العليا(58)، الذين رأوا في مبادرة ملك بروسيا فرصة سانحة لبسط النظام الأسقفي في الكنائس البروتستنتية البروسية، وقد جنحت كثيراً عن التقاليد الكاثوليكية التي لم تزل قائمة في بريطانيا· من جهة أخرى، تمنى الأنكليكانيون قيام علائق متبادلة بينهم وبين الكنائس الشرقية غير الكاثوليكية، فيكون الأسقف المتوقع في القدس بمثابة سفير أو ممثل للكنيسة الأنكليكانية في الشرق· ومثّل الفئة الأولى والثانية عادة الشخصيات نفسها· ومما زاد من إصرار هاتين الفئتين على إنشاء أسقفية القدس التفسير الاسكاتولوجي (أي نهاية العالم) لنبؤات الكتاب المقدس، وتوقع مجيء السيد المسيح الوشيك لدينونة المسكونة، والذي يقيم المسيح على أثره ملكه الألفي في العالم· وقد توقع بعضهم مجيء المسيح عام 1843، وآخرون عام 1844 أو 1847(59)· وقبل مجيء المسيح يجب أن يسبقه تبشير مكثف بين اليهود، وسيتم هذا المجيء في القدس، لذلك يجب تجميع يهود العالم في القدس وتنصيرهم، لتقريب موعد مجيء المسيح· فتوقع طيبو القلب من مسيحيي بريطانيا، أن يكون على الأقل في القدس أسقف أنكليكاني في مصاف أساقفة القدس يوم مجيء المسيح للترحيب به(60)· أما التراكتاريون، فقد شجّع بعضهم مشروع الأسقفية لما فيه من تقوية للتقاليد الكاثوليكية، أي تكريس سلطة الأساقفة في الكنيسة الأنكليكانية· بينما رأى معارضو التركتاريين في مشروع الأسقفية تضامناً مع البروتستنتية غير الأسقفية كاللوثرية الألمانية· أما نيومان وهو من التركتاريين، فقد كان على رأس التركتاريين المعارضين للمشروع· وعارض بعض رجال الكنيسة الأنكليكانية المشروع كوليم بالمر(William Palmer)، لأنه تعدٍ على صلاحيات الكنائس القائمة آنذاك في فلسطين· واعتقد الأنكليكانيون المتزمتون ومنهم بالمر أنّ التعاون مع الكنيسة اللوثرية خطأ فادح: "اعتقد عدة أنكليكانيين أنّ الكنيسة البروسية لا يجوز عدّها كنيسة حقيقية، فإكليروسها مجموعة من الوعاظ والرعاة ينتمون إلى لوثر وكلفن، وليس لهم جذور رسولية فهم هراطقة· والتعاون مع مثل هذه الكنيسة فاسد الأساس، سيؤدي بالكنيسة الأنكليكانية إلى أن تفقد مبدأ أصلها الرسولي، الذي هو أصل ادعائها بأنها كنيسة حقيقية· ونتيجة ذلك ستوقع الكنيسة الشرقية واللاتينية الحرمان عليها، فتغدو كل علاقة مع الشرقيين مستحيلة"(61)·
2) المــواقـــف الـبـروســـيـة من أســقـفـيـة الـقـدس:
على الرغم من الحماسة التي أبداها ملك بروسيا ومستشاره بنزون لمشروع الأسقفية، فقد تكوّنت معارضة قوية له· فقد وصف الكونت كينيكسمارك (Koenigsmark) ممثل بروسـيا في الأستانة الأسقفية أنها: "مجموعة من البروتستنت التعساء المهتدين حديثاً تحـت حماية بـعض رجال الدين الإنكليز، ويؤلفون معاً مجموعة سيئة المظهر"(62)· كما عارض اللوثريون المتزمتون مشروع الأسقفية، لأنه بنظرهم خضوع للأنكليكانية وتواطؤ معها، فقدم خمسة وأربعون قسيساً بروسياً عريضة لوزير الأديان البروسي يستفسرون عن مشروع الأســقفية· ورفـض هـؤلاء القسس جمع الحسنات بناء على توصية الحكومة في كنائسهم لدعم الأسقفية، ووصفوها بأنها،" تجربة جديدة لاستيراد الأنكليكانية إلى بروسيا"(63)·
3 ) المـواقــف الـفـرنـســيـة مـن أســقـفـية الـقـدس:
فسّرت الحكومة الفرنسية المشروع البريطاني البروسي على أنه تعدّ على امتيازات فرنسا وحقوقها القديمة في الشرق، إذْ إنهّا منذ القدم حامية المسيحية هناك بمختلف طوائفها· وحصول الروس على حماية الأرثوذكس، ومحاولة البريطانيين الحصول على حماية البروتستنت، ما هو إلا تعدٍ على الحقوق والامتيازات الفرنسية·
أمّا على الصعيد الديني، فكانت طبيعة التأييد والمعارضة شبيهة بتلك التي ظهرت في بريطانيا: فقد رأى المعارضون في الخطوة البريطانية تصدير الأنكليكانية إلى الكنائس الإنجيلية الإصلاحية، وشارك الكرسي الرسولي الحكومة الفرنسية خشيتها من تعاظم النفوذ البروتستنتي في الشرق على حساب الكثلكة(64)· ومما لا شك فيه أنّ إنشاء الأسقفية البروتستنتية كان أحد الأسباب التي دفعت الكرسي الرسولي إلى إحياء إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية عام 1847.
4 - قـانـون أسـقـفـيـة الـقـدس، 6 تـشـريـن الأول 1841:
لم تكن النيات الطيبة المتبادلة بين رجال السياسة والدين في كل من بريطانيا وبروسيا كافية لإخراج الأسقفية الأنكليكانية إلى حيّز الوجود· فالمعنيون بأمر الأسقفية في بريطانيا بحاجة لصدور قانون في البرلمان البريطاني لتحقيق مشروعهم عملياً في فلسطين، إذْ إنّ رسامة أسقف في بريطانيا لا تتمّ إلاّ بعد الحصول على إذن من الملك، ثمّ مصادقته على تعيين الأسقف، وعلى الأسقف أنْ يؤدي قسم الولاء للعرش البريطاني· وفي عام 1786، صدر قانون في البرلمان البريطاني يمنح رئيس أساقفة كنتربري صلاحية رسامة أساقفة غير بريطانيين خارج بريطانيا، في بلاد غير تابعة للعرش البريطاني، دون الأخذ بعين الاعتبار الشروط المذكورة أعلاه، وهي مفروضة فقط على الأساقفة الإنكليز في بلادهم· وبموجب هذا القانون تمّ إيجاد نظام أسقفي في أمريكا برسامة مواطنين أمريكيين عام 1787 و 1790، وتتابع النظام الأسقفي بنفسه دون تدخّل السلطات الكنسية البريطانية· أما القانون الصادر عام 1786 فلم يعالج الحالة الواردة في أسقفية القدس· فالقدس غير تابعة للتاج البريطاني، وليس فيها كنيسة أنكليكانية محلية ترشح أحد أبنائها للرسامة الأسقفية· والأسقف المتوقع لن يكون إذاً من أبنائها، بل بالأحرى سيحمل الجنسية البريطانية· ولذلك حتى يتمكن رئيس أساقفة كنتربري من رسامة أحد الرعايا البريطانيين يجب تعديل قانون عام 1786· فقدم رئيس أساقفة كنتربري التماساً بهذا الشأن لتعديل القانون في 30 آب 1841 إلى مجلس اللوردات· وفي 6 تشرين الأول صدر القانون بعد التصويت عليه في مجلس العموم· وقد عُرِفَ القانون >بقانون أسقفية القدس<، مع أن كلمة القدس لم ترد فيه· وطبق القانون في حالات مماثلة لقضية أسقفية القدس، فتكونت بموجبه أسقفيات جديدة أخرى خارج بريطانيا· وأهم ما جاء في القانون ما يلي(65):
1 - القانون يعدل القانون الصادر في السنة السادسة والعشرين من مُلكِ الملك جورج الثالث، [أي عام 1786، وحكم الملك جورج بريطانيا بين عامي 1760 - 1820]· وهذا القانون يُجيز لرئيس أساقفة كنتربري أو رئيس أساقفة يورك، رسامة أساقفة مواطنين غير تابعين للعرش البريطاني خارج بريطانيا·
2 - يجيز القانون المعدل لرئيس أساقفة كنتربري أو رئيس أساقفة يورك أو لكليهما معاً، ولغيرهم من الأساقفة المدعويين منح الرسامات الأسقفية لمواطنين بريطانيين مقيمين في بلاد أجنبية، ليشغلوا منصب الأسقفية في بلاد أجنبية تابعة أو غير تابعة للتاج البريطاني·
3 - يتم التكريس الأسقفي دون الإذن الملكي لمنح الرسامات، أو المصادقة على تعيين الأساقفة المكرسين· ويُعْفَى مواطنو البلاد الأجنبية أو المقيمون ببلد أجنبي من قسم الولاء للملك ويمين الطاعة لرئيس الأساقفة·
4 - يمارس هؤلاء الأساقفة سلطاتهم في البلاد الأجنبية على القسس البريطانيين التابعين لكنيسة إنكلترا وارلندا المتحدة، وعلى الجماعات البروتستنتية الأخرى إذا وضعت نفسها تحت سلطاتهم الروحية·
5 - لا يجوز القيام برسامات أُسقفية استناداً إلى هذا القانون، إلاّ بعد الحصول على إذن ملكي يُعطى لرئيس أساقفة كنتربري أو رئيس أساقفة يورك، يخولهما الشروع في رسامات من الفئة الواردة في هذا القانون (أي أن الرسامات تتم حسب هذا القانون بعد تنسيب رئيس الأساقفة وموافقة الملك)·
6 - لا يحق للأساقفة المكرسين حسب هذا القانون، أو لخلفائهم من أساقفة وكهنة وشمامسة مرسومين حسب ما جاء في هذا القانون، الانتقال للعمل في المملكة البريطانية، إلاْ بعد إجراء تعديلات قانونية خاصة منصوص عليها·
7 - يمنح رئيس أساقفة كنتربري الأسقف الذي حصل على الرسامة استناداً إلى القانون المذكور، شهادة تشير إلى اسم الأسقف المكرَّس وبلده والكنيسة التي عُيّنَ فيها· وإذا كان الأسقف من بلد أجنبي أو ذا تبعية أجنبية يقيم في خارج بريطانيا، يُذكَر أنه قد أعفي من قسمي الولاء والطاعة المذكورين·
لقد دعت الضرورة إلى مثل هذا القانون، لأن الكنيسة الأنكليكانية كنيسة دولة، ورؤساءَها أعضاء في مجلس اللوردات البريطاني، وعليهم الحصول على إذن لنيل التكريس الأسقفي، ثم مصادقة الملك على تعيينهم وأداء قسم الولاء للملك والطاعة لرئيس الأساقفة· ولمّا امتدّت الكنيسة الأنكليكانية خارج الممتلكات البريطانية، صار من الممكن فصل المهام الأسقفية الروحانية عن تلك الزمنية وهي قسما الطاعة والولاء، فليس منطقياً أنْ يقسم أسقف غير بريطاني الولاء للتاج البريطاني (قانون 1786)، أو أن يقسم أسقف بريطاني الولاء للتاج البريطاني ولكنه مُعيّن في بلد غير تابع لهذا التاج (قانون أسقفية القدس 1841)، ولكن الحكم في بريطانيا احتفظ بحقه بضرورة حصول رئيس الأساقفة على موافقته للعمل بهذا القانون· من هنا كانت الخطوة القادمة أمام رئيس أساقفة كنتربري الحصول فقط على إذن يخوله رسامة أسقف للقدس، مستخدماً >قانون أسقفية القدس< الذي صدر مؤخراً·
5 - الإذن الملكي بمنح الرسامة الأسقفية لميشيل سلمون الكسندر:
تزامن الجهد الدبلوماسي بين طرفي الاتفاق البريطاني والبروسي والبحث عن شخصية مناسبة، كأول مرشح لأسقفية القدس· طُرح اســم الدكتـور مــاك كــول (MC Caul)، فاعتذر عن قبول المنصب وأعلن: "أنّ كرسي مار يعقوب الأسقفي يجب أنْ يشغله أحد أبناء إبراهيم"(66)· وبناء على نصيحته تمّ اختيار "ألمع عبري متنصر في إنكلترا، ألا وهو ميشيل سلمون الكسندر"(67)· وحسب قانون أسقفية القدس الصادر في 6 تشرين الأول 1841، قدم رئيس أساقفة كنتربري التماساً لملكة بريطانيا لإجازة الرسامة· فصدر الإذن الملكي في 6 تشرين الثاني 1841، وأهم ما جاء فيه:(68)
- يذكّر الإذن بالقانون الصادر عام 1786 والمعدّل عام 1841.
- تمنح الملكة فكتوريا الإذن بتكريس الأسقف لرئيس الأساقفة·
- إنّ حدود الأسقفية وممارسة سلطات الأسقف الروحية لا تنحصر بالقدس، بل تشمل سورية وبلاد الكلدان ومصر والحبشة، وتحتفظ الملكة بحق تعديل هذه الحدود فيما بعد إذا دعت الضرورة·
خاتمــة
مُنِحَ ميشيل سلمون الكسندر الرسامة الأسقفية في 11 تشرين الثاني 1841، وأبحر إلى فلسطين في 7 كانون الأول· قام المعنيّون بأمر الأسقفية من الإنكليز والبروسيين بوضع اللمسات الأخيره في تشكيلها وتمويلها، واطلاع الجمهور على ما حققته المفاوضات البريطانية البروسية· اعتمدت الأسقفية على التمويل البروسي والإنكليزي، إذ لم تُشكّل بعد رعايا في فلسطين أو منشآت وأوقاف تابعة لأسقفية قادرة على تغطية نفقاتها· فصدر صك الوقفية البروسية لحساب الأسقفية في 9 أيلول 1841 وجاء فيه(69): إنّ ملك بروسيا يتبرع من جيبه الخاص بمبلغ خمسة عشر الف جنيه استرليني، ويُعد هذا المبلغ كوقف للأسقفية على شكل "وديعة بنكيّة"· وتصرف فائدة هذا المبلغ راتباً سنوياً للأسقف يبلغ ستمائة جنيه استرليني· وعيّن الملك أوصياء على هذا المال لصرف فائدته لأسقف القدس وهم: رئيس أساقفة كنتربري ورئيس أساقفة يورك وأسقف لندن· ويفوض الملك الأوصياء باستخدام المبلغ يوماً ما لشراء وقفية عقارية في فلسطين، على أن يكون مردودها ما يساوي راتب الأسقف أي 600 جنيه استرليني· وإذا بقي جزء من المال بعد شراء الوقفية، يسمح الملك بتخصيصه لدعم مؤسّسات الأسقفية· ويشير جيدني (Gidney) إلى أنّ رأس المال الوقفي لم يدفع أبداً لحساب الأسقفية، ولكن قُدّمت فائدته للأسقف حتى انسحاب بروسيا من اتفاقية الأسقفية الأنكليكانية عام 1886، فاستُرجع المبلغ(70)·
شَحَذَ التبرع البروسي سخاء البريطانيين، فقدّمت جمعية لندن اليهودية ثلاثة آلاف جنيه استرليني وتبعها آخرون· وصدر صك الوقفية البريطانية في 15 تشرين الثاني 1841(71)، ينظم فيه رئيس أساقفة كنتربري أمور الأسقفية المالية بصفته الوصي على الوقفين البريطاني والبروسي، وعيّن مديراً لصندوق الأسقفية يقوم بصرف المال· ومجموع الوقفية البريطانية عشرون ألف جنيه، جُمعت عن طريق المساهمة العامة التي طُرِحَت للجمهور· وقدّم كل من رئيس أساقفة كنتربري هولي وأسقف لندن بلومفيلد 200جنيه استرليني·
وفي 9 أيلول 1841، صدر عن رئيس أساقفة كنتربري بيان رسمي(72)، يلخص فيه تطورات مشروع الأسقفية والقوانين التي صدرت بشأنها والاتفاق البروسي البريطاني، ويشير إلى أنّ الأسقف يعينه بالتناوب التاج البروسي والتاج البريطاني، ويتمتع رئيس الأساقفة بحق الاعتراض على التعيين· أما العلاقة القائمة بين رئيس أساقفة كنتربري وبين الأسقف المعيّن، فهي كتلك القائمة بين أي رئيس أساقفة والأسقف المتروبوليت· وصدر بيان آخر عن وزير الأديان البروسي(73) في 14 تشرين الثاني، يعلن فيه أن الاتفاق البروسي البريطاني سيحقق مساواة الطائفة البروتستنتية باللاتين والروم، وعلى بروسيا استغلال فترة السلام التي تنعم فيها تركيا والعلائق الحسنة القائمة بين الدول الأوروبية، لدعم الوجود الإنجيلي الألماني في الشرق، ويتطلع الوزير إلى قيام مستعمرات المانية في الشرق يوماً ما· والوحدة القائمة بين الإنكليز والبروسيين سوف تساعد على اعتراف تركيا بالبروتستنتية كملّة رسمية في السلطنة العثمانية· ويؤكد الوزير أنّ نتائج المفاوضات مع البريطانيين كانت مرضية ومقبولة لدى حكومة بروسيا· ثم يمتدح الوزير جهود ملك بروسيا لما فيه خير البروتستنتية في الشرق، ويدعو إلى التبرع العام في الكنائس لدعم الأسقفية الناشئة· ومن الجدير بالذكر أنّ وضع بروسيا كان دون المستوى في الاتفاق مقارنة ببريطانيا ، ولكن رضى البروسيون به مؤقتاً لأنهم عدّوه مدخلاً لعلائقهم بالسلطنة العثمانية وخاصة بفلسطين، إذْ إنه حتى ذلك التاريخ لم يكن لهم موطئ قدم ملّي في فلسطين إلاّ الأسقفية الأنكليكانية التي دخلوا تحت مظلتها· "قريباً سترفع الكنيسة الألمانية هامتها في القدس وتفتح أبوابها للمصلين حسب اعتقاداتهم وطقوسهم"(74)· ويتوقع الوزير يوماً ما افتتاح المستشفى الألماني وإنشاء المدرسة الألمانية في القدس! أجل مخطط بروسي بريطاني ضخم حمله ميشيل سلمون الكسندر إلى القدس! هل سيحققه؟