مؤتمر العرب المسيحيين في الأردن وفلسطين

الحادي عشر من أذار2002

تحت الرعاية الملكية السامية

 

كلمة الافتتاح
لغبطة البطريرك ميشيل صباح
بطريرك القدس للاتين


صاحب الجلالة
الملك عبدالله ابن الحسين المعظم

1    أرحب بكم في هذا الصباح المبارك باسمي وباسم إخوتي بطاركة القدس الأجلاء للروم الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس، وكافة رؤساء الكنائس الأورثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، وباسم هذا الجمع الغفير من العرب المسيحيين من الأردن ومن الديار المقدسة، يشاركهم العديد من إخوتهم المسلمين: كلهم لبوا نداءكم أن للعرب المسيحيين دورا عربيا في أمتهم، وأن تقلص أعدادهم هو موضوع قلق مسيحي وعربي على السواء.
2    جاء في الكتاب المقدس، في رسائل القديس بولس: "كونوا على رأي واحد وعيشوا بسلام، وإله المحبة والسلام يكون معكم" (2 قورنتس 13: 11).
إن العرب المسيحيين والمسلمين عاشوا عربا عبر العصور والأجيال، وبنوا معا حضارة واحدة، واختلطت جهودهم ودماؤهم في الدفاع عنها عبر العصور وحتى اليوم في الصراع الضاري الذي ما زال قائما في الأراضي الفلسطينية، وما زالوا يبحثون عن سلام واحد، وهم كما قال الرسول يسعون إلى الرأي الواحد والقلب الواحد. ومن ثم فنحن نعي أن مصيرنا ومستقبلنا مثل حاضرنا وماضينا هو تاريخ مشترك نصنعه معا وحضارة واحدة، نبنيها وندافع عنها معا، المسلم والمسيحي على السواء.

3    صاحب الجلالة،
نشكر لكم رعايتكم هذا المؤتمر الذي نرى فيه انطلاقة جديدة تلبية لندائكم، لكي يعي المسيحي هويته المسيحية والعربية في الوقت نفسه، والتي لا يمكن فصلها عن هوية كل عربي مسلم، ولكي يعي مسؤولياته تجاه مجتمعه العربي والمسلم. ونحن نقول لأبنائنا إننا مسيحيون ومخلصون لإيماننا المسيحي وفي الوقت نفسه مخلصون لعروبتنا، وفيها نجد أصل هويتنا والبيئة الطبيعية التي نعيش فيها إيماننا المسيحي. ونحن نعلم أن حياة كل مؤمن بالله هي مسيرة ومن ثم هي تقدم مستمر نحو الأفضل. ونحن نعلم أن هذه المسيرة ليست في أوج كمالها بعد، وإنما هي سعي نحو الكمال، ولهذا نِجُّد ونسير نحو الأفضل عبر كل التحديات التي تواجهنا معا سواء أتتنا من الخارج أو من داخل ذاتنا المسيحية والمسلمة. نحن واعون أن التحديات التي تواجه الأفراد في عيشهم اليومي لن تكون عقبات دون توضيح ملامح الهوية العربية المسيحية وتثبيتها، ولا دون الدفاع عما يتعرض له العالم العربي والإسلامي، ولا سيما إثر أحداث الحادي عشر من أيلول الماضي. فنحن جزء منه، وهو عالمنا. وما يوجه إليه يوجه إلينا. وأما التحديات في البناء الداخلي فكلنا واعون لها، ومجهودات الحوارات المختلفة على مختلف الأصعدة، رسمية أو معاشة، كلها تحاول أن تحقق يوما بعد يوم، تجربة بعد تجربة، الاستقرار المنشود الذي يطمئن إليه كل عربي، المسلم والمسيحي على السواء.
وإننا نؤمن أن الله في كل مسيرة بناءة يفيض سلامه في قلوبنا، كما قال القديس بولس الرسول: "فإن سلام الله الذي يفوق كل إدراك يحفظ قلوبكم وأذهانكم في المسيح يسوع" (فيلبي 4: 7).

4    الخطر الداهم المهدد للكيان المسيحي في الأراضي الفلسطينية اليوم هو الهجرة التي تقلص الأعداد وتغرب العربي المسيحي عن بلده وأرضه. والهجرة مصدرها عدم الاستقرار السياسي وظلام المستقبل والتوق إلى سلام ولو في الغربة. ومن ثم صنع السلام في فلسطين وفي المنطقة بأكملها هو العامل الأول لترسيخ العرب المسيحيين في أوطانهم. واستقرار البلاد وديموقراطيتها وترتيب العلاقات العامة والخاصة، كل هذا له شأن في هذا الدفع نحو الخارج أو في الحيلولة دونه.
    فالحوار الإسلامي المسيحي في سبيل عيش مشترك أفضل هو أيضا من العوامل التي تحد من الهجرة. وهو حوار العيش معا، والبناء معا، ومواجهة التحديات معا، وهو معرفة متبادلة أفضل، تؤدي إلى قبول للآخر على اختلافه، فلا يبقى في الوطن وفي الحضارة العربية الواحدة آخر يؤمن إيمانا مختلفا، بل يصبح الآخر وإن اختلف في إيمانه المسيحي أو المسلم أخا معه يبني ويتقدم ويواجه التحديات ويصمد في وجهها. لقد عشنا معا قرونا وأجيالا مسلمين ومسيحيين. وها نحن نرى اليوم جلالتكم ينبهنا إلى ضرورة اتخاذ خطوات جديدة لتقوية الروابط وترسيخ قاعدة الحضارة الواحدة والدفاع عنها. أمام التحديات التي تواجهنا مسيحيين ومسلمين، نحن بحاجة إلى تربية جديدة تتثبت المسلم والمسيحي في إخلاصه لإيمانه وأرضه معا، تؤمن بالمساواة وتعيشها. وفي التربية الجديدة يعرف المسيحي أن المسلم هو أخوه وموضوع محبته واحترامه، ويعرف المسلم أن المسيحي أخ وموضوع محبته واحترامه. ومن ثم لمناهج التربية الدينية الإسلامية والمسيحية في هذا دور كبير لا يمكن الاستعاضة عنه، كما وللكنيسة والمسجد، ووسائل الإعلام.
    صاحب الجلالة،
لا نستطيع في افتتاح هذا اللقاء الذي تكرمتم برعايته، إلا أن نقدر ونشكر الرؤية الأردنية في التعامل مع رعاياها، ونذكر بكل تقدير وشكر، الشعار الذي نادى به والدكم الملك الحسين رحمه الله أن الأسرة الأردنية أسرة واحدة لا تفرق بين أبنائها. ونحن شاكرون لاستمرار هذه التجربة التي نعيشها حتى اليوم.

5    في فلسطين ما زال الشعب ورئيسه تحت الحصار. وما زالت الدماء تسيل بغزارة، تستصرخ من يوقفها. والعدل هو الذي يوقفها. والحق العربي والفلسطيني هو الذي يوقفها وهو الذي يزيل العذر الذي يحاول أن يبرر استمرار سفك الدماء أي الأمن الإسرائيلي. لأن الأمن الإسرائيلي له باب واحد وسياج واحد. لا هو في الأسلحة ولا هو في تأييد العالم له. بل هو في العدل إذا تحقق، وإذا المظالم توقفت. فتصير القلوب الصديقة، وهي فقط، باب الأمن وسياجه المنيع.
إن مهمتنا ككنائس مسيحية هي أن نقف إلى جانب كل مظلوم وفقير، إلى جانب كل مظلوم يطالب بأرضه وحريته، لنكون صوتا وحمى له، مهما طالت المحنة وتنوعت. ومهمتنا هي أن نبقي الأمل حيا في نفوس الناس حتى يحق الحق. وحتى يتم ذلك كله، نضع رجاءنا في الله سبحانه وتعالى، ذاكرين ما قاله الرسول: "ليغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان لتفيض نفوسكم رجاء في الروح القدس" (روما 15: 13).
    وإننا نسأل الله أن يسدد خطانا مسيحيين ومسلمين، لنستمر في بناء أرضنا العربية. نسأله تعالى أن يأخذ بيدكم، يا صاحب الجلالة، ويحفظكم ويسدد خطاكم إلى كل خير وصلاح. "وليكن إله السلام معنا أجمعين" (روما 15: 33).

المشاركون في المؤتمر من كبار الكنسيين


        أصحاب الغبطة البطاركة:
1 غبطة البطريرك ميشيل صباح، بطريرك القدس للاتين
2 غبطة البطريرك توركوم مانوجيان، بطريرك القدس للأرمن الأورثوذكس،
3 سيادة المطران إيزيخيوس، ممثل غبطة البطريرك إيرينيوس الأول، بطريرك القدس للروم الأورثوذكس
أصحاب السيادة مطارنة الأردن المقيمون
4 سيادة المطران بنيدكتوس، مطران الروم الأورثوذكس في عمان
5 سيادة المطران جورج المر، مطران الروم الكاثوليك في عمان
6 سيادة المطران سليم الصائغ، مطران اللاتين في عمان
7 سيادة المطران فاهي، مطران الأرمن الأورثوذكس في عمان
أصحاب السيادة مطارنة الأردن غير المقيمين
8 سيادة الأنبا ابراهام، مطران الأقباط الأرثوذكس
9 سيادة المطران ساويرس مراد، مطران السريان الأورثوذكس
10 سيادة المطران رياح أبو العسل، مطران الأنجليكان
11 سيادة المطران منيب يونان، مطران اللوثريين
12 سيادة المطران بولس صياح، مطران الموارنة
13 سيادة المطران جورج خازوميان، مطران الأرمن الكاثوليك
أصحاب السيادة مطارنة القدس والجليل
14 سيادة المطران بطرس المعلم، مطران الروم الكاثوليك في الجليل
15 سيادة المطران كرياكس، مطران الروم في الجليل
16 سيادة المطران بولس ماركوتسو، مطران اللاتين في الجليل
17 سيادة الأب جيوفاني باتيستلي، حارس الأراضي المقدسة
17 سيادة المطران كاوستس، مطران الأحباش الأورثوذكس
18 سيادة المطران كمال بطحيش، مرافق غبطة البطريرك ميشيل صباح
19 سيادة المطران آريس ، مرافق غبطة البطريرك مانوجيان
20 الأرشمندريت مطانيوس حداد، النائب البطريركي للروم الكاثوليك، القدس
21 الأب الياس تبان، القائم بأعمال النائب البطريركي للسريان الكاثوليك، القدس

البيان الختامي

تحت رعاية صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، عقد، يوم الاثنين الموافق 11 آذار 2002 ، في العاصمة عمان، مؤتمر العرب المسيحيين في الأراضي المقدسة (الأردن وفلسطين) تحت شعار: "معا في الدفاع عن الأمة".

وحضر المؤتمر الذي عقد بدعوة كريمة من مجلس رؤساء الكنائس في الأردن، رؤساء كافة الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتسانتية في الأراضي المقدسة، وعدد غفير من المسيحيين من الأردن وفلسطين والجليل، وضيوف المؤتمر من الشخصيات الإسلامية والرسمية والعامة في البلاد. هذا وكرس المؤتمر أعماله للتداول في شأنين أساسيين هما:
أولا: إطلاق المزيد من الفعاليات والمبادرات النوعية في إطار الدور التاريخي للعرب المسيحيين في الدفاع عن الأمة العربية وقضاياها وصورتها وحضورها الدولي، وخصوصا في مواجهة الحملة الراهنة المعادية للعروبة والإسلام التي ظهرت في الغرب بعد أحداث 11 أيلول 2001.
ثانيا: مجابهة المخططات المعادية التي تسعى للاستفادة من أجواء تلك الحملة لتصفية القضية الفلسطينية، وفي مقدمة تلك المخططات تفريغ القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة من أبنائها، بما فهيم العرب المسيحيون، ودفعهم نحو الهجرة، مما يضعف الوجود المسيحي في المدينة والأراضي المقدسة، ويضعف كيانها العربي ويحول الصراع السياسي بين العرب، مسلمين ومسيحيين، من جهة وبين الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى إلى صراع ديني بين اليهودية والإسلام.

وأجرى المؤتمرون مناقشات معمقة حول القضايا المطروحة أثرتها كلمات قيمة لغبطة البطريرك ميشيل صباح وسماحة الشيخ عز الدين الخطيب التميمي، والدكتور برنارد سابيلا، والدكتور سليمان الطراونه، والدكتور صالح حمارن هوحاتم خوري وفؤاد فراج
وفي نهاية المناقشات أصدر المؤتمر البيان التالي:
كان العرب المسيحيون دائما وما يزالون، وسيظلون، جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية، وحقيقتها التاريخية والحضارية، وكيانها القومي، شركاء في صنع واقعها وحياتها ونهضتها ومصيرها، وفي الدفاع عن وجودها ومصالحها وقيمها وثقافتها وصورتها. وذلك في ظل الرابطة القومية الحضارية التي تقوم على أن الدين لله والوطن للجميع، وأن الشراكة بين عنصري الأمة في إطار قيم المواطنة المؤسسة على الحقوق والواجبات الدستورية، ستبقى، دائما ذخرا للأمة في مجابهة التحديات وصناعة المستقبل.
ولهذا فإن العرب المسيحيين الذين يرتبط مصيرهم الجماعي، حتميا، بمصير أمتهم، لينظرون بقلق بالغ إلى الحملة الغربية الراهنة المعادية للعروبة والإسلام ونتائجها المؤسفة في فلسطين والعراق، وغيرها من الدول العربية، ويرون أن هذه الحملة موجهة ضدهم من حيث إنهم مواطنون عرب ومن حيث إنهم مسيحيون.
وإننا لنرى في الإسلام مصدرا حضاريا لا بد للعالم من أن يتعاون معه على أسس الاحترام المتبادل والبناء المشترك في سبيل إرساء أسس لنظام عالمي جديد، مرسخ على العدل والمساواة بين الشعوب وعلى احترام كافة الديانات.
وإن القاعدة الأساسية لتفكيك التصوير المشوِّه للعربي المسلم، ونعته بالإرهابي لمحض مطالبته بحريته وأرضه، وبالتالي تقويض الحملة المعادية برمتها تكمن في إظهار أن العالم العربي بمسلميه ومسيحييه يقوم على تعددية دينية وفكرية وسياسية جادة في مجتمعات حية من الضروري فهمها في واقعها الفعلي وتفهم قضاياها القومية واحتياجاتها وخصوصياتها.
إن وجود العربي المسيحي يطرح على العقل الغربي الأسئلة عن حقيقة "الآخر". وهذا ما يرتب على العربي المسيحي مسؤوليات قومية أساسية تتمثل في البقاء والصمود في أرض الوطن، وخصوصا في الأراضي المقدسة، كما يرتب عليه القيام بمبادرات فعالة في الشأن العام.
إن الحفاظ على الهوية العربية المسيحية، وجودا وحضورا، وإظهارها لا طمسها وتعزيزها هو سلاح في يد الأمة يظهر هويتها التعددية، ويؤكد موضوعية قضاياها ومصداقية دعواها الصادرة عن مطالب عادلة حقيقية لا عن "تعصب" معاد للغرب، وقي مقدمة تلك المطالب إقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال وإنشاء دولته على تراب وطنه ورفع الحصار الظالم المفروض على الشعب العراقي والحفاظ على سيادته ووحدته وسلامته.
وانطلاقا من كل ذلك، فإننا نحن العرب المسيحيين في الأردن وفلسطين المجتمعين في هذا المؤتمر نعلن أننا باقون على أرضنا المقدسة جنودا في خدمة أمتنا.



مؤتمر العرب المسيحيين
عمان - 11آذار 2002

هجرة المسيحيين العرب
العوامل الدافعة وتحديات البقاء
د. برنارد سابيلا


العوامل الدافعة إلى الهجرة
من أهداف لقائنا اليوم النظر في تقلص الوجود العربي المسيحي في الأراضي المقدسة، ومن ثم في ظاهرة الهجرة، وفي أسبابها ونتائجها على المجتمع العربي المسيحي بل على المجتمع العربي بصورة عامة. الدوافع إلى الهجرة متنوعة وهي اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. ولا تنحصر الهجرة بطبيعتها في مجموعة سكانية معينة، ولكنها تطال تلك الشرائح السكانية التي تتأثر اكثر ما تتأثر بالعوامل الدافعة بغض النظر عن الدين أو الخلفية الثقافية أو أية خاصية أخرى. أي إن الهجرة لا تحدث بسبب الخلفية الدينية بحد ذاتها، بل بفعل تضافر الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرها سلبا على مجموعات سكانية ذات خصائص معينة مما يدفع بعض أفرادها إلى الهجرة خارج الوطن.
ومن خلال استعراض سريع للعوامل الدافعة إلى الهجرة من منطقتنا خلال القرن الماضي يمكن أن نذكر ثلاثة عوامل رئيسة:
العامل الأول: يرتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي حدّت من فرص تقدم الجماعات والعائلات والأفراد في أوطانهم.
العامل الثاني: له علاقة بالخصائص الثقافية والمهنية للمهاجرين الذين تميزوا بمستوى تعليمي سهَّلَ عليهم الاتصال بالعالم الخارجي وبروح تجارية قوية دفعتهم إلى بلدان العالم المختلفة.
العامل الثالث: يتعلق بجاذبية البلدان التي استقبلت المهاجرين. وتمحورت هذه الجاذبية في توفر فرص العمل وإمكانية إعادة خلق مكونات أو خصائص الجماعة المهاجرة في بلد الهجرة الجديد (1).
وإذا ما اعتبرنا الأوضاع التي كانت تسود بلاد السلطنة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وجدنا أن الكثيرين من المرشحين للهجرة كانوا من المسيحيين الذين توفرت لديهم الخصائص الثقافية والمهنية والتي لم تلاقِ الفرص المواتية للتقدم في مجتمعاتها فانجذبت بالتالي إلى مجتمعات جديدة حيث الفرص والمجالات المتاحة.
وفي واقع الأمر فإن العوامل الثلاثة المذكورة بقيت مشجعة للهجرة حتى أيامنا هذه، ولم يقتصر تأثيرها على هجرة المسيحيين وحدهم، بل شملت كافة المواطنين الذين ضاقت بهم سبل العيش والتقدم.
وفي نهاية القرن العشرين، وقبل الثمانينات، لا بد من ذكر الهجرة العربية الداخلية، أي من بلد عربي إلى بلد عربي آخر. ففي هذا المجال، انتقل اكثر من خمسة ملايين عامل إلى دول النفط في الخليج العربي، ومثل نصف هذا العدد هاجر من دول شمال أفريقيا إلى أوروبا لغرض العمل أيضا. وقد وصلت نسبة العمالة المصدرة من الأردن 18 بالمئة من قوة العمل بالمقارنة مع 30 بالمئة في الضفة الغربية وغزة في الفترة نفسها (2). ولكن هجرة العمالة، وبخاصة إلى دول النفط، تبقى هجرة مؤقتة وغير دائمة، بينما الهجرة إلى شمال وجنوب أمريكا واستراليا، والى حد ما الدول الأوروبية، تؤدي إلى استقرار نهائي للمهاجرين، الذين يتخذون من البلدان الجديدة أوطانا ثانية لهم.

هجرة العرب المسيحيين
ومن الجدير بالذكر أن الهجرة في الأوقات الحالية لا تنحصر في العرب المسيحيين فقط وإنما تطال قطاعات أوسع من السكان. ولكن المشكلة مع هجرة المسيحيين العرب تكمن في أمرين: الأمر الأول هو أن المسيحيين العرب يغادرون بمعدل يصل إلى ضعفي معدل مغادرة غيرهم من المواطنين. والأمر الثاني فإن معظم الجماعات المسيحية في بلادنا جماعات صغيرة عدديا، ومن ثم تترك الهجرة فيها أثرا كبيرا من حيث شل قدرتها على متابعة الحياة الجماعية بما تتطلبه من نشاطات وتفاعلات. ومن هنا اتخذت الهجرة المسيحية العربية بعدا مقلقا ليس فقط للمسيحيين أنفسهم، بل للدول العربية أيضا وحكوماتها والتي يكوِّنُ المسيحيون فيها جزءا لا يتجزأ من التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولابد هنا من التأكيد بأن ولاء المسيحيين العرب أسوة ببقية المواطنين هو لهويتهم العربية بترابطاتها الاجتماعية والثقافية والتراثية وبمدلولاتها العرقية والسياسية. ويتحدث كثير من المؤرخين عن المساهمة الملحوظة للمسيحيين العرب في الحركة القومية العربية علاوة على مساهمات المسيحيين كمواطنين في مواقع مختلفة في بلدانهم العربية المختلفة.
وتصل أعداد المسيحيين العرب اليوم إلى ما بين 10 ملايين إلى 15 مليون مسيحي عربي تتواجد غالبيتهم العظمى في السودان ومصر (7 إلى 12 ملايين) والعراق (500.000 إلى 600.000 ) والأردن (140.000-165.000) وسوريا (750.000 إلى 900.000) ولبنان (1.3 مليون إلى 1.5 مليون) وفلسطين (50.000) وإسرائيل (130000). أما الذين هاجروا من المسيحيين العرب فتقدر أعدادهم اليوم بحوالي الأربعة ملايين، أي ما يصل إلى ما يقرب من الربع من مجمل أعداد المسيحيين العرب في الوطن العربي (3).
إذاً يطال نزيف الهجرة مجموعة سكانية هامة ولا تتوقف الآثار السلبية لهذه الهجرة على الجماعات المسيحية نفسها وإنما تتعداها إلى مجتمعاتها. ذلك لأن المسيحيين العرب كمواطنين استثمرت بلدانهم فيهم الخدمات التعليمية والمهنية وغيرها من الاستثمارات الحياتية، فهم بهجرتهم لا يقومون بدفع الاستحقاق لهذه الأوطان. ويجب أن لا يفهم هذا القول على انه انتقاد أو على انه حد لحق الإنسان في السفر والحركة من بلد لآخر. ولكن على أساس أن هجرة أية مجموعة سكانية هامة بخصائصها التعليمية والمهنية وبمهاراتها المختلفة هي فعلا خسارة للوطن ككل وتشكل نزيفا يئن منه جسد الوطن كله.

الهجرة من فلسطين
ترك الصراع العربي الإسرائيلي أثره على حركة الفلسطينيين القهرية وتهجيرهم خارج الوطن. فمع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في العام 1948 هُجّر ما يزيد على ثلاثة أرباع المليون فلسطيني الذين أضحوا لاجئين بين عشية وضحاها. ومن بين الذين عانوا تجربة اللجوء ما بين 50.000 إلى 60.000 من المسيحيين العرب والذين كانوا اكثر من ثلث السكان المسيحيين في فلسطين في العام 1948 (4). وفي مدينة القدس تحديدا كان مجمل السكان المسيحيين في العام 1944 يتجاوز 29.350 فرداً، اصبحوا 10982 فردا فقط في العام 1961 (5). [وفي العام 1967 بعد الاحتلال الاسرائيلي للمدينة كان عدد المسيحيين فيها هو نفس العدد الذي كان في العام 1961. وتعزى عدم الزيادة السكانية بين العامي 1961 و 1967 الى العوامل الدافعة والى أن الكثيرين من أهل القدس قد انتقلوا للسكن في عمان حيث توفرت الفرص اكثر بكثير منها في القدس.] ولا يتجاوز عدد المسيحيين المقدسيين اليوم ما كان عليه في العام 1961 إن لم يكن اقل. أي إن سكان القدس المسيحيين هم اليوم ثلث ما كان عليه عددهم قبل العام 1948 . ولو اتخذنا عدد السكان المسيحيين في القدس في العام 1967 واعتبرنا أن نسبة النمو السنوي كانت 2 بالمائة آنذاك، لوجب أن يكون عدد المسيحيين العرب في القدس اليوم 22000 (في العام 2002). ويستنتج المرء من هذه الأرقام أن ما يزيد على الثلاثة آلاف مسيحي مقدسي قد غادروا القدس خلال سنوات الاحتلال لينشئوا عائلات في المهاجر ويستقروا هناك. فلا غرابة اذاً أن يكون عدد المسيحيين المقدسيين في سيدني استراليا اكبر منه في مدينة القدس العربية!
وقد استقبل الأردن واستقبلت عمان تحديدا جموع الفلسطينيين اثر الهجرة في العام 1948. ورغم قلة الموارد وضيق اليد إلا أن الأردن بكافة فئاته وبقيادته الحكيمة تغلب على كل الصعاب واستقبل اللاجئين بكل ترحاب وقاسمهم لقمة العيش ودعاهم لتحمل المسؤوليات والواجبات كمواطنين كاملي الحقوق. وقد اندمج العديد من مسيحيي القدس وغيرها من مناطق فلسطين في حياة الأردن الاقتصادية والإدارية والمهنية والعلمية. إلا أن آخرين بفعل الظروف المحيطة بهم اتخذوا من عمان والأردن محطة عبور انتقلوا بعدها إلى بلدان جديدة في المهاجر المؤقتة والدائمة.

سنوات الاحتلال والهجرة
منذ العام 1967 وحتى بداية التسعينات من القرن الماضي كان معدل هجرة الفلسطينيين المتوسط، من الضفة الغربية وقطاع غزة، اكثر من 13.000 مواطن في كل عام (8.000 من الضفة و 5.000 من القطاع) أي إن اكثر من 338.000 فلسطيني قد تركوا الوطن ما بين 1967 و 1993 . ومن بين هؤلاء ما يقارب من ال 11.000 مسيحي فلسطيني أي اكثر من 20 بالمئة من مجموع المسيحيين الفلسطينيين في الضفة والقطاع. وقد كان للعامل السياسي والذي مثله الاحتلال مع ما واكبه من ظروف اقتصادية سيئة ومناخ اجتماعي صعب دوره الأساسي في دفع الناس إلى ترك البلد.
وفي بحث عن الهجرة اجري العام 1993 وشمل 964 أسرة فلسطينية في منطقة القدس الكبرى تبين أن الأسر التي تسكن في المدن وذات انتماء للطبقة الوسطى اكثر عرضة للهجرة من الأسر في المناطق الريفية أو في مخيمات اللاجئين. وحين سُئِلَ الذين يريدون الهجرة عن الأسباب التي تدفعهم إلى هذا الاختيار أشارت الغالبية العظمى إلى الوضع الاقتصادي السيء والى الظروف السياسية غير المستقرة. وحين سُئِلَت العينة بأكملها عن رأيها في الظروف التي يمكن أن تخفف من الهجرة كان الجواب الأول هو تحسين الظروف السياسية (46.7%)، ثم تبعه تحسين الأوضاع الاقتصادية وفرص العمل (40.1%). كما شكا البعض من الظروف الاجتماعية والدينية واضطراب العلاقة بين الناس في هذا المجال. ومن الملفت للانتباه، من إجابات الذين ينوون الهجرة، أن نصفهم تقريبا (48.5%) لن يهاجروا إذا ما حل السلام في المنطقة (6).
إذاً الوضع السياسي بما يلقي من ظلال على الوضع الاقتصادي وعلى الأوضاع الحياتية بشكل عام هو السبب الرئيسي لهجرة الفلسطينيين من بلدهم بمن فيهم العرب المسيحيون. وقد لا يرضي هذا الاستنتاج العلمي البعض ممن يريدون تصوير هجرة المسيحيين العرب من فلسطين على أنها مرتبطة بازدياد ما يسمونه "أسلمة" المجتمع. إلا أن هذا الادعاء، وإن كان هناك كما قلنا بعض الاضطراب في العلاقات على مستوى الأفراد، مردود على أصحابه لان التاريخ المشترك ما بين المسلمين والمسيحيين يتميز بالشراكة والتواصل في المجالات المختلفة، وهكذا سيبقى. إلا أن انتشار الخطاب الديني في زمننا هذا قد أثار مسألة الهوية ودفع بمن لا يعنيهم هذا الخطاب إلى التساؤل عن موقعهم في المجتمع، وإلى البحث عن حقيقة علاقتهم مع غيرهم من أبناء الوطن الواحد. ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذه المسألة هي المؤثر الحاسم في اتخاذ القرار لترك البلد والهجرة إلى غيره. لأن العوامل الأساسية للهجرة تبقى العوامل الاقتصادية والسياسية، ولا سيما في فلسطين. ومع هذا فانه من المهم أن ينتبه أصحاب الخطاب الديني إلى المشروع الاجتماعي والوطني المشترك والذي يشملنا جميعا دون فرق في دين أو ملة!
ولابد هنا من الإشارة إلى مقالة الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود حول هجرة العرب المسيحيين من العالم العربي والذي يقول فيه:
"لقد شكل العرب المسيحيون إحدى ركائز البناء العربي القديم والحديث على السواء، ففي فجر الإسلام كانوا ركنا ثقافيا وسياسيا وعسكريا من الدولة العربية التي توسعت شرقا حتى بلاد السند وغربا حتى إسبانيا وكانوا أحد عناصر القوة الدافعة التي حملت الإسلام إلى خارج جزيرة العرب وبلاد الشام، والتي شكلت أحد العناصر الحاسمة في توسع هذه الدولة ونموها وسيادتها على معظم العالم القديم. وفي عصر النهضة الممتد طول القرنين التاسع عشر والعشرين لم يغب العرب المسيحيون عن دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاري الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مرحلة التراجع العربي. شكلوا حلقة وصل واتصال، وعمقا ثقافياً أصيلا في العروبة ومتقدماً في العصرنة والحداثة."

    الأوضاع الحالية والهجرة
تؤثر الأوضاع السياسية الحالية في فلسطين في ازدياد الهجرة لدى السكان ككل ولدى المسيحيين بشكل خاص. ورغم أن إرادة الصمود والبقاء قوية لدى غالبية الناس إلا أن الاستنتاج العلمي في ما يتعلق بالهجرة هو أنها تزداد في زمن يتميز بانعدام الاستقرار السياسي والعسكري، والذي ينجم عنه عدم استقرار اقتصادي واجتماعي ولا سيما في العلاقات بين مختلف فئات الشعب بما في ذلك الفئات الدينية.
وبحسب مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن سياسة الإغلاقات الإسرائيلية المفروضة على حركة السكان هذه الأيام هي الأشد والأطول منذ احتلال هذه الأراضي في العام 1967. وقد أكد تقرير البنك الدولي عن الفقر في الضفة الغربية وغزة والذي نشر في كانون الثاني 2001 أن معدل الفقر في الأراضي الفلسطينية سيصل إلى 43.8% في نهاية العام 2001. [وفي واقع الأمر فان المصادر الفلسطينية تؤكد أن نسبة الفقر اليوم هي أكثر بكثير، وقد تصل في بعض المناطق إلى 70 بالمائة من السكان.
إن الأثر الاجتماعي والاقتصادي للأوضاع الحالية لم يترك قطاعا اقتصاديا إلا وأصابه بما في ذلك الزراعة والإنتاج والبناء والتجارة والمواصلات والخدمات. وقد تأثرت كل الجماعات السكانية بهذه الآثار بما في ذلك المسيحيون، وبالأخص في مدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، حيث يعتبر المسيحيون فيها مجموعةً سكانيةً هامة. وأسوة بجميع سكان المنطقة فإن مئات العائلات المسيحية قد أصبحت تعيش دون خط الفقر ولا تستطيع بالتالي الإيفاء بالتزاماتها الأساسية: مثل أجرة المنازل والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من الأمور الحياتية الأساسية. وهنا لابد لي من الإشادة بالدعم المتواصل المادي والمعنوي بالإضافة إلى تقديم الخدمات الطبية المميزة وغيرها من الخدمات والتي قام الأردن بتوفيرها نزولا عند التوجيهات الملكية السامية وتأكيداً على التلاحم الأخوي ووحدة المصير المشترك.
إن انعدام الاستقرار السياسي في بلد ما هو دافع هام للهجرة ويؤثر هذا الدافع على الفلسطينيين كما يؤثر على غيرهم. ولا يختلف الحال مع المسيحيين في الضفة والقطاع إذ يجد ما لا يقل عن 600 مواطن مسيحي نفسه على طريق الهجرة سنويا وبخاصة في هذه الأوقات. وقد يستهين المرء بهذا الرقم للمهاجرين إلا انه يجب التذكير بان مجمل المسيحيين في الضفة والقطاع اليوم لا يتجاوز عددهم ال 50.000.
وبالتالي فإن نسبة المهاجرين من المسيحيين تصل إلى اكثر من 50 بالمائة من النسبة المئوية لنمو المسيحيين سنويا والتي تقدر بـ 2و2 بالمائة من مجموع عدد المسيحيين أي ما يساوي تقريبا 1.100 فرد في كل عام.
وإذا ما استمر هذا النَزيف كما هو اليوم، فلا يتوقع والحال هذه أن يزداد عدد المسيحيين خلال هذا القرن، لا بل بالعكس سيظل في انخفاض، مما سيؤثر سلبا على تركيبة الجماعات المسيحية المختلفة وعلى تفاعلاتها في داخل كنائسها وحضورها ومساهماتها في مجتمعاتها. وللتدليل على حجم الهجرة المسيحية فانه إذا بقيت نسبة الهجرة على ما هي عليه اليوم فان ما يزيد على الستة آلاف مواطن مسيحي سيتركون ارض الوطن خلال السنوات العشر القادمة.

الآثار السلبية للهجرة
تؤثر الهجرة سلبا على تركيبة المجموعة السكانية التي يأتي منها المهاجرون. فمن ناحية يزداد متوسط العمر لهذه المجموعة بفعل هجرة فئة الشباب، وتصبح المجموعة اكبر سنا من بقية السكان مما يؤثر على نشاطاتها وفعالياتها. وتتأثر كذلك نسبة النوع في هذه المجموعة إذ تصبح لديها أعداد اكبر من النساء في مقابل الرجال. ولكن الأثر الأسوأ يكمن في ما يسمى بهجرة الأدمغة أي هجرة تلك الطاقات والمهارات الضرورية لاستمرارية ليس فقط الجماعة نفسها وإنما المجتمع ككل. وفي ما يختص بالمفهوم العربي-الإسلامي لهجرة المسيحيين العرب، فان هذه الهجرة تعني أن تاريخا طويلا من العيش المشترك ومن التلاحم في السراء والضراء ومن علاقات الانفتاح الديني المتبادل يهدده خطر الاختفاء والزوال. وكلنا يعلم أن أرضنا هي منبت الديانات التوحيدية ومنبع الرسالات السماوية، وبالتالي فإن هجرة المسيحيين العرب تهدد هذه التعددية التاريخية، وكذلك تنتقص من التجربة الحياتية الهادفة إلى حسن الجوار والإثراء الثقافي المتبادل على مر العصور.

تحديات البقاء تحديات مشتركة
إن كنيسة الأرض المقدسة هي الكنيسة الأم في التقليد المسيحي، وهي ما زالت شاهدة على ميلاد السيد المسيح وقيامته. ويربط المسيحيون في فلسطين والأردن وبلاد الشام قاطبة أنفسهم وكنائسهم بهذه الكنيسة الأم كما ويربطون أنفسهم وجماعاتهم بأوطانهم وبتاريخها وبتراثها الثقافي والسياسي والاجتماعي. إن التحديات التي تواجه الوطن تواجه المسيحي والمسلم على السواء، وبالتالي فان القلق على الوجود المسيحي في ربوعنا هذه هو قلق على استمرارية المجتمع كما عهدناه في حقب تاريخية مختلفة، وفي هذه الحقبة التاريخية بصورة خاصة.

ما العمل؟
أولا، العمل في سبيل العدل والسلام والخروج من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالحل العادل والنهائي، بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وبدون هذا الحل فان المنطقة بأكملها ستستمر في حال من عدم الاستقرار تؤثر على الأوضاع بمجملها، وتبقي نزيف الهجرة مستمرا. فاستمرار الاحتلال واستمرار الحصار على السيد الرئيس وشعبنا والتصعيد في عمليات القتل وسياسات الإغلاق لن تؤدي إلى العدل والسلام، بل ستؤدي إلى وضع يصبح معه العيش صعبا للجميع. ومن هنا أهمية التواصل مع المجتمع الدولي ومع الهيئات الدينية والمدنية العالمية من أجل رفع الظلم عن شعبنا وإنهاء الاحتلال.
ثانيا، العمل في سبيل توطيد القيم المجتمعية التي توثق العلاقات في هذه الأيام الصعبة، بين مختلف أبناء الوطن ولا سيما في المجال الديني.
ثالثا، مواجهة الأوضاع الاقتصادية الخانقة بدعم اقتصادي جاد، يولد الثقة والأمل في قلوب من يرون في الهجرة نجاة وخلاصا. الكنائس ومختلف المنظمات الخيرية تبذل جهودا جبارة في هذا المجال، إلا أن الحاجة إلى أكثر من عمل كنائس ومنظمات خيرية. كل مجتمع يحمل مسؤولية أفراده، ومن ثم فالمجتمع العربي يحمل هو أيضا مسؤولية هذه الهجرة. وهنا أشير مرة أخرى إلى ما كتبه الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود.   
يقول: "باختصار، إن هجرة العرب المسيحيين في حال استمرارها هي ضربة عميقة توجّه إلى صميم مستقبلنا. مهمتنا هي منع هذه الهجرة، وترسيخ بقاء هذه الفئة العربية في شرقنا الواحد، والتطلع إلى هجرة معاكسة إن أمكن".
فهناك حاجة ماسة إلى نظرة متكاملة لقضايا المنطقة وعمل جاد من قبل المسلمين والمسيحيين معا لمواجهة التحديات المختلفة.
أما من الناحية الكنسية، ففي استطلاع للرأي اجري في العام 1999 في كل من الأردن وفلسطين بمناسبة انعقاد السينودس للكنائس الكاثوليكية في الأراضي المقدسة أشارت الغالبية العظمى ممن شملهم البحث بأن الكنيسة تتفاعل مع احتياجات المجتمع بروح الانفتاح والمحبة مشددة على احترام الحياة البشرية دون اعتبار لأية خاصية أو خلفية دينية أو غيرها. وبالإضافة شددت الغالبية العظمى في هذا الاستطلاع على أهمية تحمل المواطن، بغض النظر عن دين المواطن، أعباء ومسؤوليات الحياة العامة، إذ ترى في هذا الأمر شهادة للانتماء وللولاء للوطن. وقد تمنت الغالبية المسيحية التي شملها الاستطلاع في كل من الأردن وفلسطين ازدياد أعداد المسيحيين ممن يخدمون في القطاع العام وذلك لما في هذا من تأثير إيجابي على تقوية العلاقات الأخوية في المجتمع والانصهار في معالجة القضايا الملحة أسوة ببقية المواطنين.

دولة المؤسسات والقانون وتحديات البقاء
في خضم انعدام الاستقرار السياسي في المنطقة، إن وجود دولة المؤسسات والقانون ملاذ للمواطن يقلل من الضغوطات التي يتعرض لها والتي تجعله يفكر بالهجرة. ومثل هذه الدولة تشجع المواطنين على البقاء وتوجد فيهم الرغبة في المساهمة ببناء الوطن وإعلاء شأنه. دولة المؤسسات والقانون توفر الضمان للفرد وللجماعة الشعور بالطمأنينة والحافز للعمل والعطاء والثقة بأن الحقوق مصانة. وفي المقابل فإن الشعور بالأمن والطمأنينة يدفع بالمواطن إلى البقاء في مجتمعه وإلى الانخراط بشكل كلي في خدمة المجتمع وفي تحمل مسؤولياته.
وتسهم دولة القانون والمؤسسات في خلق جو عام يقوم على التآلف والاحترام المتبادل مما يؤدي إلى إيجاد نسيج اجتماعي مترابط ومتماسك يصب في خدمة الوطن وخيره. ولا تتأتى سيادة القانون ومؤسسات الدولة في مجتمعنا من فراغ بل هي وليدة التاريخ المشترك والجهد المشترك في سبيل تجربة معيشية واحدة بين كافة المواطنين الذين توحدهم لغة واحدة وثقافة واحدة وآلام وآمال واحدة.

(1). Sabella, Bernard, "The Emigration of Christian Arabs: The Dimensions and Causes of the Phenomenon," in Andrea Pacini (ed.): "Christian Communities in the Arab Middle East: The Challenge of the Future", Clarendon Press Oxford, 1998. pp. 133-134.

(2) الدكتور جلال امين: "العولمة والتنمية العربية: من حملة نابليون الى جولة الاوروغواي 1798-1998". مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1999 صفحة 55.
(3) For estimates of Christians in Palestine and Israel, as well as in other countries in the Middle East, see Jean-Pierre Valognes: "Vie et mort des Chretiens d'Orient: des origines a nos jours", Fayard, Paris, 1994. For Christian population figures in the countries of the Middle East and changes in them over time, see Fargues, Philippe "The Arab Christians of the Middle East: A Demographic Perspective," in Andrea Pacini (ed.): "Christian Communities in the Arab Middle East: The Challenge of the Future", Clarendon Press Oxford, 1998 .

(4) Kossaibi, George "Demographic Characteristics of the Arab Palestine People," in Khalil Nakhleh and Elia Zureik: "The Sociology of the Palestinians", Croom Helm, London, 1980. p. 18.

(5) Tsimhoni, Daphne: "Christian Communities in Jerusalem and the West Bank since 1948: A Historical, Social and Political Study", Praeger, Westport, Conn. 1993 p. 19.

(6) Sabella, Op. Cit. "The Emigration of Christian Arabs…" pp. 138-152.
انظر لبعض نتائج هذا البحث في

(7) Prior, Michael and W. Taylor (eds.): "Christians in the Holy Land", World of Islam Festival Trust, London, 1994. p. 39.

BACK