كلمة شكر
يُشكر كل من أَسهم في إصدار هذا الكتاب، سواءٌ أكان بتنظيم المادة
للطباعة أم بإصلاح الأخطاء المطبعية·

cover.JPG (69622 bytes)هــذا الكتـــاب
نضعه بين يديك أيها القارئ مُحب العلم والمعرفة· وفي سعينا لم نبغِ إلاّ الحقيقة على ما قدر الله لنا، فلا ندّعي الكمال ، فالكمال لله وحده· التاريخ حياة الإنسان ، والإنسان لا ندينه، بل نحبه، لأن خالقه أوصانا بذلك· وتاريخ الكنيسة جزء عظيم من إرث البشرية، وفيه كنز دفين، هو حبّ الله سبحانه وتعالى للبشر· وهذا الكنز الأسمى نحمله في إناء من خزف، فميّز بين الإناء والكنز· واقرأ ما كتبنا لك، ايها الأخ الحبيب، لا هروباً إلى الماضي ودفناً لفكرك بين سموه وإخفاقه ، ولكن لتصنع الحاضر وتبني المستقبل المشرق، فالتاريخ مسيرة إلى الغد لا عودة إلى الأمس·

horizontal rule

مقـدمـة عــامــة

أضفى القرن التاسع عشر بأحداثه الدينية والسياسية اللمسات الأخيرة على الوجود المسيحي في الأردن وفلسطين، الذي تعود أوائله إلى أسفار العهد الجديد، فالصورة الفسيفسائية للكنائس في الأرض المقدسة تمّت خلال عمر الكنيسة الذي يناهز العشرين قرناً· أمّا موضوع دراستي هذه فإنه يتناول كل ما طرأ على بُنية الوجود المسيحي في فلسطين والاردن في القرن الماضي·
ففي مطلع القرن التاسع عشر، صار انتخاب البطريرك الأرثوذكسي الأورشليمي في القسطنطينية وأقام فيها، ورعى حارس الأراضي المقدسة الفرنسيسي شؤون اللاتين في فلسطين، وجاب المنطقة عدد ضئيل من المرسلين البروتستنت في جولات قصيرة، وزّعوا خلالها نسخاً من الكتاب المقدس على المؤمنين· أمّا عدد المدارس والمؤسّسات الخيرية فكان قليلاً وفاعليتها تكاد لا تُذكر· فالنصف الأول من القرن التاسع عشر ما هو إلاّ امتداد لجمود العصر العثماني، الذي بدأ في فلسطين في مطلع القرن السادس عشر· أمّا في منتصف القرن التاسع عشر فنلاحظ أن الحيوية قد دبّت في هذه الكنائس القديمة: فأقام البطريرك الأرثوذكسي في القدس، وحاول العرب الأرثوذكس الوطنيون استرجاع حقوقهم التي فقدوها على مر العصور، وأُعيدَ تأسيس البطريركية اللاتينية، وأُنشِئَت أسقفية أنكليكانية، وظهرت الكنائس الشرقية الكاثوليكية على الأرض الفلسطينية من خلال أبرشيات أو نيابات بطريركية، وجاءت عشرات الجمعيات الرهبانية والمؤسّسات الكنسية الأجنبية إلى فلسطين من مختلف البلاد والكنائس· وفُتِحَت عشرات المدارس والمستوصفات والمستشفيات والمعاهد والأديار الرهبانية·
إنّ معظم الدراسات التاريخية قد عالجت قضية الأماكن المقدسة وتاريخ فلسطين السياسي، أما الجماعات المسيحية التي قطنت حول هذه الأماكن، فقد بقيت في الظل ولم تُذكر سوى ذكر عابر· وإن كانت بعض الدراسات الحديثة قد تمّت حول تاريخ الكنائس في فلسطين، فقد وجّه الباحثون جُلّ اهتمامهم إلى دراسة تاريخ كنائسهم الخاصة· ومن هذا المنطلق جاءت دراستي التي قدمتها لنيل درجة الماجستير في التاريخ من جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت عام 1981، وعنوانها >إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية الأورشليمية، 1847/1872<· وقد كانت رسالتي المذكورة ذات طابع تحليلي، أمّا دراستي هذه، فهي شاملة تحاول أن تلقي الضوء على تاريخ الكنائس مجتمعة وتطور بُنيتها ونمو رعاياها، من غير أن تركز على قضية الأماكن المقدسة، التي أسهب المؤلفون في بحثها ودراستها· إن القيام بدراسة تشمل قرناً كاملاً لتاريخ عدة كنائس لم يكن بالمهمة السهلة؛ لذا قمت بزيارة المكتبات في الأردن وفلسطين مراراً عديدة، ومن هذه المكتبات: مكتبة الجامعة الاردنية ومكتبة الجامعة العبرية ومكتبة الآباء البيض والفرنسيسيين الدومنيكيين ومكتبة البطريركية اللاتينية والمعهد الإكليريكي اللاتيني ومكتبة كلية القديس جورج الأنكليكانية ومكتبة مركز الطنطور للدراسات المسكونية وعدد من المكتبات الخصوصية· وقد واجهت صعوبات جمّة في الحصول على المصادر والمراجــع والوثائـق والمخطـوطـات، خـاصة في أرشـيفات الأديار والبطـريركيـات، إذ إن موضوع دراستي لا يتناول تاريخاً قديماً اندثر، بل تاريخاً حديثاً ما زالت احداثه وشخصياته ذات فعل في ايامنا هذه، وموضوع جدل بين أبناء الكنائس التي تشملها هذه الدراسة· وهذا أمر اضطرني إلى مقابلة عشرات الأشخاص المختصين للاستنارة بآرائهم والأخذ بنصائحهم، متوخّياً الدقة والموضوعية العلمية فيما أقرأ وأكتب·
وقد شجعني على القيام بهذا البحث رغبتي في تقديم دراسة شاملة بروح مسكونية علمية لتاريخ كنائس بلادنا المقدسة، ومعرفتي ببعض اللغات الأجنبية الحديثة كالفرنسية والإنكليزية والإيطالية· وإن كان جهلي بغيرها كالألمانية واليونانية والإسبانية قد حال دون التوسع في بعض المصادر والمراجع المهمة، غير أنني استعنت ببعض الأصدقاء لتعريب النصوص الضرورية·
وأخيراً وليس آخراً أشكر الأب الدكتور جان موريس فييه الذي أشرف على دراستي هذه في جامعة القديس يوسف بين عامي1982/1987 كما وأشكر كل من ساعدني حسب اختصاصه وتوجيهاته ونصائحه، وعلى رأسهم غبطة البطريرك ميشيل الصبّاح، والأب الدكتور بطرس مدبييل والاخت انيس اليعقوب والدكتور الاستاذ عادل زيادات والدكتور الاستاذ حنا حداد والاستاذ الأديب سليمان المشيني·

horizontal rule

تـمـهـــيـــــد

تمتاز الكنيسة الأورشليمية بتعدد سلطاتها الكنسية وتنوع طقوسها الليتورجية(1) وانتماءاتها العرقية، فهي اشبه بحجارة الفسيفساء في لوحة مختلفة الأبعاد والألوان· ولعل موقع فلسطين الجغرافي واحتواءها على الأماكن المقدسة هو السبب في اجتذاب المسيحيين اليها من شتى النِحل والاجناس، ومن ثم تعدد سلطاتها الكنسية· ولا يقوم التنوع في الكنائس وتعدد السلطات على أساس عقائدي فحسب: كالكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية، بل إن داخل أتباع العقيدة الواحدة تنظيمات متنوعة وتشعُباً في السلطة· فالكنيسة الكاثوليكية مثلاً تضم البطريركية اللاتينية وحراسة الأراضي المقدسة ونيابة بطريركية الروم الكاثوليك ··· وترتكز هذه التنظيمات بين أتباع العقيدة الواحدة على أسس إدارية وليتورجية ولغوية وتاريخية·
إن كنائس الأرض المقدسة تشترك بتراث ديني تاريخي واحد تمتد جذوره إلى القرون المسيحية الأولى، فقد خلّف كل عصر من العصور أثراً ما في حياة هذه الكنائس وبُنْيتها· فالكنيسة الأورشليمية هي أولاً كنيسة اليهود المتنصرين في القرنين الأول والثاني الميلاديين، وكنيسة الأمم الوثنية التي صارت على الدين المسيحي وأنشأت بطريركية القدس في القرن الخامس· وفي عهد أسقف القدس يوفنالس، الذي تحرر من تبعية العاصمة قيصرية (مدينة على الساحل الفلسطيني بالقرب من اللد) وحصل على الرتبة البطريركية في مجمع خلقدونيا عام 451م، لم تعد القدس تابعة لبطريركية أنطاكية بل اصبحت خامس بطريركية في العالم القديم، بعد روما وأنطاكية والإسكندرية والقسطنطينية· وامتدت سلطة البطريرك الأورشليمي على مناطق فلسطين الثلاثة: فلسطين الأولى والثانية والثالثة والجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وجزء من شبه جزيرة سيناء(2)·
وقد حافظت الكنيسة الأورشليمية على الايمان الخلقدوني الأرثوذكسي(3)، وإن مال بعض أساقفتها ورهبانها ومؤمنيها إلى المونوفيزية(4) في حقب قصيرة من التاريخ· وكان الفلسطينيون المحليون وهم من السُريان والعرب المتنصرين يؤلفون معظم مؤمني البطريركية الأورشليمية، في حين بقيت فلسطين ولا تزال "ملتقى الاجناس والأديان على مر العصـور"(5)· " فاســتقر حــول أمـاكـنـها المـقـدســة الـرهبان والتجار والحـرفيون وربما المزارعون"(6)· كما دان البدو بالمسيحية حتى اعتلى كرسي القدس البطريركي البطريرك إيليا العربي (494 - 518م) والبطريرك الدمشقي صفرونيوس (633 - 639م)· وشارك في أعمال المجمع الخلقدوني عام 451م ثمانية عشر اسقفاً فلسطينياً، كان احدهم الأسقف البدوي إسبفيت، المعروف باسمه الكنسي >بطرس اسقف المضارب< (الخيام)· وكانت أبرشيته في المنطقة الممتدة بين بيت لحم والبحر الميت·
ازدهرت الحياة المسيحية إبّان الحكم البيزنطي (330 -638م تقريبا)· فضمّت البط?ريركية تسعاً وأربعين أبرشية، وبنى المؤمنون الكنائس في جميع انحائها فنشاهد: "في مادبا أربع عشرة كنيسة وفي أم الجمال خمس عشرة كنيسة وفي جرش ثلاث عشرة كنيسة وفي عابود تسع كنائس"(7)· وفي وسعنا وصف الكنيسة الأورشليمية في نهاية العصر البيزنطي في مطلع القرن السابع الميلادي على النحو التالي: شرقية الجذور، بيزنطية الحكم دينياً ومدنياً، خلقدونية - أرثوذكسية العقيدة، كاثوليكية الانتماء تشارك مع الكنيسة العامة في إيمان واحد، وتستعمل في طقوسها الدينية ليتورجية ماريعقوب القديمة. وتؤكد ذلك الحاجّة اثيريا التي زارت فلسطين في الجيل الرابع الميلادي· "كانت ليتورجية مار يعقوب قائمة في البطريركية الأورشليمية كما هي الحال في أنطاكية، وظلت هذه الليتورجية مستعملة حتى القرن الثاني والثالث عشر ···· تُرى؟! في أي عصر اختفت؟ لا نستطيع أن نبتّ في ذلك على وجه التحديد"(8)· كانت دون شك فرصة البقاء لليتورجية ماريعقوب أفضل في القرى والأرياف منها في الأماكن المقدسة الكبرى وفي المدن، حيث استعملت اللغة اليونانية وغيرها من لغات الرهبان والشعوب التي أمّت فلسطين لاقامة صلواتها في جو من الانسجام والوفاق حول العقيدة، والتنوع في أساليب العبادة ولغاتها· أمّا لغة الحكام فكانت اليونانية، ولغة الشعب اللهجات السُريانية الغربية· وتؤكد ذلك الكتابات الفسيفسائية في جرش ومادبا وعابود إذ وجد علماء الآثار كتابات سُريانية وأخرى يونانية، كما وجدوهما معاً في بعض اللوحات الفسيفسائية كما هو الحال في إحدى لوحات مادبا·
وفي عام 638م (17هـ) دخلت الكنيسة الأورشليمية تحت الحكم الاسلامي فانتهى بذلك العهد الوحيد الذي كان فيه المسيحيون أكثرية ساحقة في فلسطين، كما تعرّب مسيحيو فلسطين مع مرور الزمن: "عندما فتح المسلمون الشرق الاوسط حوالي عام 640م أصبحت اللغة العربية عامل وحدة بين الجماعات المسيحية (الخلقدونية الأرثوذكسية والنسطورية(9) واليعقوبية)، بالرغم من الخلافات اللاهوتية راح مسيحيو الشرق يتكلمون لغة واحدة هي العربية، وانتقلت المؤلفات اللاهوتية من جماعة إلى أخرى وقامت بينها علائق قوية· فمثّلت اللغة العربية الدور الذي قامت به اللغة اليونانية في العالم المسيحي القديم، والدور الوحدوي الذي لعبته اللغة اللاتينية في الغرب المسيحي في القرون الوسطى"(10)
وقد أعطى الخليفة عمر بن الخطاب فاتح القدسِ، القدسَ وسكانها أماناً يُعرَف بالعُهدة العُمرية· ويورد التاريخ عدة صور للعهدة العمرية: فهناك رواية الطبري والطرطوشي والبلاذري وسعيد بن بطريق، وفي البطريركية الأرثوذكسية الأورشليمية عدة نصوص للعهدة العمرية أيضاً· وتقدّم العهود العمرية معلومات متناقضة أحياناً، وخصوصاً المتأخرة منها زمنياً: فبعضها ينسب إلى عمر شروطاً مذلة على نصارى القدس، وأخرى تمنح النصارى مكانة ممتازة في حِمىَ الإسلام، وأخرى تهب الأماكن المقدسة لملّة الروم الملكيين، وتصف الأماكن المقدسة وصفاً لا يتفق مع طبيعة هذه الأماكن في عصر الفتح الاسلامي· والتفسير المنطقي لتعدد العهود العمرية عظمة عمر في نظر المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فَنُسِبَت إليه عهود في مختلف الحقب التاريخية لتثبيت حق ما أو تكريس واقع قائم(11)· ولعل أقرب العهود العمرية إلى أن تُصدّق، العهدة العمرية التي يذكرها الطبري في كتابـه >تاريخ الأُمم والملوك< وهذا نصها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر، أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يَسْكُن بايلياء معهم أحد من اليهود·
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص) فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل أهل إيلياء من الجزية، ومن أحبّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يُؤخذ منهم شيء حتى يُحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية·
شــهد على ذلك خـالـد بـن الـولـيـد، وعـمرو بـن العـاص، وعبد الرحمن بن عـوف
ومـعاويـة بـن أبـي ســفـيـان· وكـتب وحـضر ســنة خمــسة عــشر"(12)·
تتفق رواية الطبري وبيئة الفتح العربي التاريخية، إذ إن الفاتحين أحسنوا معاملة المدن المفتوحة سلماً من غير قتال على أن تدفع الجزية وتظل على دينها· كما عانى المسلمون كيد اليهود، فلا غرابة أن يشترطوا على نصارى القدس أن "لا يسكن بايلياء معهم أحد من اليهود"· وشبّه الكاتب الروم أسياد البلاد القدماء باللصوص، "فعليهم أن يخرجوا الروم واللصوت (اللصوص)"· فمن الثابت أنه بعد الفتح العربي تمّ جلاء العنصر البيزنطي من فلسطين، إلا أنه لا يجوز المبالغة في ذلك(13)، فقد احتفظت فلسطين بعدد من سكانها اليونانيين في مدن الساحل· وظلّ الكرسي البطريركي الأورشليمي شاغراً مدة 65 سنة بعد وفاة البطريرك صفرونيوس عام 639م، دبّر خلالها بطريركية القدس أساقفة محليون منهم يوحنا أسقف فيلادلفيا·
أما الجماعات المسيحية غير الخلقدونية فقد تمتّعت بقسط وافر من الحرية في العصر الإسلامي، على الرغم مما جرى في فترة متأخرة من تضييق على المسيحيين، (العصر الفاطمي مثلاً)، من هدم بعض كنائسهم واجبارهم أحياناً على ارتداء سمات مميزة· كما استفادت الأقليات غير المسيحية من السياسة الجديدة التي عمل بها أسياد البلاد الجدد· وفي أعقاب الفتح العربي كان لا بدّ لكنائس الشرق أن تُجمد في المواقع التي قامت بها حتى وقتذاك· "وما حاولته الإمبراطورية المسيحية من فرض وحدتها الدينية على سائر المواطنين بها، وهو مبدأ لم يتحقق مطلقاً لأن اليهود لم يعتنقوا المسيحية ولم يجرِ طردهم، وخالفه العرب الذين اظهروا الاستعداد مثلما فعل الفرس من قبلهم لأن يُرضوا الأقليات الدينية بشرط أن يكونوا من أهل الكتاب· فأضحى المسيحيون والزرادشتيون واليهود من الذميين، أي الذين تقررت حمايتهم والذين كُفِلَ لهم حرية العبادة"(14)·
وفي مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، لم يجد الصليبيون كنيسة أورشليم كما وجدها عمر بن الخطاب في القرن السابع الميلادي، ففي غضون خمسة قرون من الحكم الاسلامي غدت الكنيسة البيزنطية كنيسة عربية، تعرّب شعبها وبطاركتها وليتورجيتها· ولم تكن كنيسة أكثرية ساحقة في فلسطين بل كنيسة أقلية ضعيفة مرهقة· وأقام الصليبيون بطريركية لاتينية زالت بزوالهم، وتابعت عملها حراسة الأراضي المقدسة· وأثناء الفتح الصليبي وبعده تحقق الانقسام الشرقي - الغربي الذي وقع في القسطنطينية عام 1054م، وتدريجاً انقطعت علائق بطاركة القدس مع روما، وحكم البطاركة العرب الكنيسة الأورشليمية·
تحددت هـويـة الكـنائـس فـي العـصر العثمانـي· ونـالت قسطاً جديداً من التطور في زعاماتها وبُنْيتها، وبرزت عدة حقائق سياسية واجتماعية أثّرت في تكوين هذه الكنائس واتجاهاتها· وأهم هذه الحقائق السياسية والاجتماعية ما يلي:
أ - نظام المِلَل العثماني: "الملة جماعة تتألف من المواطنين المحليين لا من الاجانب خاضعة للباب العالي، لها ديانة محددة، ولا تنتمي إلى أصل عرقي واحد، وتكوّن وحدة سياسية اجتماعية مستقلة"(15)· وفي نظام الملل نمت سلطة البطاركة الدينية والمدنية، "إذْ عُدّ البطاركة رؤساء الملل المسيحية دينياً ومدنياً، فهم وسطاء بين الله والبشر ويمثّلون جماعاتهم لدى الحكومة"(16)·
ب - تطور نظام الامتيازات العثماني من هبات قانونية مجانية منحتها السلطنة العثمانية للقنصليات الاجنبية في مجال القضاء والتجارة، إلى حماية الاقليات والملل المسيحية· فاخترق نظامُ الامتيازات نظامَ الملل، ومن جهة أخرى استنجد نظام الملل بالحماية الاجنبية، وخصوصاً في ظاهرة تخلّي موظفي القنصليات والمواطنين المسيحيين العثمانيين عن الجنسية العثمانية للحصول على جنسية أجنبية من القنصليات الأجنبية الموجودة في السلطنة: "بدأت الامتيازات تخترق تدريجاً نظام الملّة عبر توسعها كصيغة قانونية دولية تستجيب لتوسيع نطاق التجارة الغربية وزبائنها ووكلائها، وذلك من خلال تحويل الملّة غير الاسلامية إلى وجود لم يُعرف في التاريخ العربي الاسلامي، وجود يرتكز على مفهوم الأقلية القائمة على الحماية ومن خلال توظيف استقلالية الملّة المستوعبة في الأساس بصيغة رعايا السلطان في مفهوم يماثل الملّة والامّة (Nation)"(17)· في ثنايا الاختراق والاستنجاد بين نظامي الامتيازات والملل تكونت تدريجاً مقولة وحقيقة الحماية الغربية للمسيحيين، فعُدّت فرنسا حامية الكثلكة وروسيا حامية الأرثوذكسية وإنكلترا حامية البروتستنتية·
جـ - ظهور فاعلية الامتيازات وحقيقة الأقليات في السلطنة العثمانية في صراع الطوائف المسيحية على الأماكن المقدسة· فقد احتفظ اللاتين بحقوقهم منذ عام 1333م، وفي بداية العصر العثماني لم تمس هذه الحقوق على الرغم من سيطرة العناصر اليونانية على بطريركية القدس· ثم بدأ الصراع بين الفريقين عام 1630م، وتمتاز هذه الفترة بظهور الفرمانات والعهود غير الموثقة، ونُسبت هذه العهود إلى الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة معاوية وإلى سلاطين الدولة العثمانية محمد الثاني وسليم الأول وسليمان الثاني(18)· وفي الحرب السجال بين الطرفين وقفت فرنسا بجانب اللاتين وروسيا بجانب الأرثوذكس· ففي كل انتقال ملكية أو اكتساب حقوق جديدة في الأماكن المقدسة، قامت الهدايا بدور العامل المساعد لتتميم الصفقة· وكثيراً ما استقرت الهدايا التي قدمها بطاركة الأرثوذكس أو حراس الأراضي المقدسة الفرنسيسيون، والدول التي ترعاهما بين ايدي المسؤولين العثمانيين على أعلى المستويات كالصدر الأعظم نفسه، إلى أن صدر الفرمان العثماني المعروف بالستاتوكوو (Statu Quo)(19) سنة 1852م· ويختص هذا الفرمان بكنيسة القيامة والمهد وقبر العذراء مريم ومصلى الصعود (20)
إن الحقائق المذكورة آنفاً، شكّلت الخلفية التاريخية للتغييرات التي تمت في بُنية الكنيسة، إلا أنه في القرن التاسع عشر ظهرت عدة عوامل كنسية وعثمانية ودولية، أضفت اللمسات الأخيرة على وضع الكنيسة وبُنيتها ومؤسساتها، ونجملها فيما يلي:
أ - القرن التاسع عشر، قرن التغييرات السياسية والضعف في السلطنة العثمانية، فقد تطاول محمد علي حاكم مصر على الأستانة واحتلّ بلاد الشام (1831 - 1840م)، ولم يخرج منها إلاّ في أثر اتفاق القوى العظمى على عدم تصفية السلطنة الضعيفة والمحافظة على كيانها· وقد حّقق الحكم المصري في فلسطين قسطاً من الحرية السياسية والدينية، وأتاح للكنائس فرصة للنمو والتطور· ولم يَعُد بوسع السلطنة التراجع عمّا حقّقه محمد علي، ومن جهة أخرى، فإن تحرّك القوى العظمى لحماية السلطنة العثمانية من نفوذ محمد علي، أتاح لها فرصة التدخّل في شؤون السلطنة والعمل على حماية الأقليات ومساعدة الكنائس القائمة في فلسطين· فبدأت التغيّرات في بُنية الكنائس ونمو مؤسساتها من الاربعينات في القرن الماضي· ففي هذه الحقبة صار البطريرك الأرثوذكسي يقيم في القدس، وأعاد اللاتين تأسيس بطريركيتهم التي اندثرت بزوال المملكة الصليبية، وفتح الروس إرسالية كنسية، وأقام الأنكليكان أسقفية·
ب - القرن التاسع عشر، هو عصر التسامح والمساواة العثماني· إذ صدر في الأستانة خط شريف كلخانة عام 1839 وهمايون عام 1856· وأعلن الخطان مساواة رعايا السلطان أمام الـقانـون في الحـقـوق والواجـبات· فكـان هذان الخطـان بـادرة تحـررٍ وإيجاد أطر جديدة للعمل الكنسي على ضوء المتغيّرات المستجدة، وهذه الخطوة لم تكن ممكنة في العصور العثمانية السابقة·
جـ - القرن التاسع عشر، هو قرن القوميات وتحرر الشعوب· فأخذ عرب فلسطين أسوة بغيرهم من شعوب السلطنة يشعرون بكيانهم ودورهم وماضيهم، وانعكس ذلك على الصعيد الكنسي، خاصة بين اتباع الكنيسة الأرثوذكسية الذين تطلعوا إلى التحرر من الحكم اليوناني الكنسي وتعريب كنيستهم· وكانت روسيا وراء هذا التحرك العربي، وقد عَدّت نفسها حامية الشعوب السلافية والأمم الأرثوذكسية·
د - القرن التاسع عشر، هو قرن الإرساليات الكنسية في مختلف أنحاء العالم· فدبّ نشاط روحي إرسالي في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية، فأخذت تعمل على نشر التعاليم المسيحية في جميع أنحاء العالم، ونالت كنائس فلسطين نصيباً وافراً من النشاط الروحي الذي ألهب كنائس العالم المسيحي·
هـ - إن النمو والتطور الذي دبّ في كنائس البلاد المقدسة ما هو إلاّ ثمرة عدة عوامل ادّت إلى ذلك، منها ما نشأ في الخارج، في روما أو لندن أو بطرسبورج وامتدّ إلى فلسطين، وساعدت على ذلك ظروف داخلية مرّت بفلسطين تحت الحكم العثماني· فموضوع هذه الدراسة يدور حول المستجدات والتغيّرات في الكنائس في القرن التاسع عشر· ولن نعود إلى ذكر تاريخ الكنائس قبل القرن التاسع عشر إلا إذا دعت الضرورة لذلك، لرسم خلفية هذا التطور وجذوره· وتنقسم الدراسة إلى الأبواب التالية:

الباب الأول: البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية


الباب الثـاني: البطريركية اللاتينية الأورشليمية


الباب الثالث: الأسقفية الأنكليكانية


الباب الرابع: الكنائس غير الخلقدونية والشرقية الكاثوليكية

 

      غلاف الكتاب الخلفي             فهرســـــــت                 غلاف الكتاب الأمامي