الفصل الثاني

 


سليمان المشيني روائياً

 

- سبيل الخلاص (عرض وتحليل)

 

- زاهي وعنود (تلخيص)

 

- الشارع المعبد بالذهب (مخطوطه / تلخيص)

 

توطئة:

تعتبر القصة الطويلةمن أكثر الأشكال الأدبية تقلبا، وقد أخذت في مختلف مراحل تطورها من خصائص الأساليب الأخرى للكتابة - كالمقالات والرسائل والذكريات والتواريخ وكراسات الدعوة الدينية والبيانات الثورية والصور الوصفية التي يكتبها الرحالة والسياح.. وكافة أنواع النثر المعروفة([1])، وفي القصة الطويلة Novel([2])، يعالج القاص موضوعاً أو اكثر زاخراً بحياة تامة، فلا يفرغ القارئ منها إلا وقد ألمَّ بحياة البطل أو الأبطال في مراحلهم المختلفة، وميدان القصة الطويلة فسيح أمام القاص، يستطيع فيه أن يكشف الستار عن حياة أبطاله ويجلو الحوادث مهما استغرق من الوقت([3]).

إنَّ القصة الطويلة في الأردن متعثرة وفقيرة على الرغم من وجود بعض المحاولات([4])، وذلك مقارنة بألوان الأدب الأخرى التي نمت وازدهرت في
عصر الإمارة...
([5]).

الرِّوَايَة:

تنوعت عوامل التأثير والتأثر في الرواية العربية، فهناك من الروائيين من تأثَّروا بالتيار الكلاسيكي الأوروبي وباستلهام التاريخ، كجرجي زيدان ومحمد فريد ابي حديد ومعروف الأرناؤوط، وهناك من تأثروا بالرومانسية ومبالغتها في تصوير العواطف ورسم الشخوص والتركيز على الفرد كهيكل وجبران وعبدالحليم عبدالله والمنفلوطي والمازني، وهناك من تأثروا بالواقعية في تصويرها للطبقة الوسطى بصراعاتها وهمومها ووسائلها وطموحاتها لتحقيق حياة أفضل، فجاءت أعمالهم تعبيراً عن ذلك الواقع في البيئة العربية في القرن العشرين، كتوفيق الحكيم وطه حسين وعبدالرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ وتوفيق عواد.... وفي السنوات الأخيرة تحولت نقطة التركيز من تحري أوضاع المجتمع وصراعاته، إلى النفس ودواخلها وبدأ الروائيون يتحرون أسرار ضمير الإنسان، مستخدمين أساليب علم النفس الحديث على المستوى العلمي، واسلوب تيار الوعي والحوار الداخلي على المستوى الأدبي.. وقد بدا ذلك في أعمال أدباء مثل غسان كنفاني ونجيب محفوظ، وحليم بركات وجبرا ابراهيم جبرا وحنا مينا...

من خلال هذا العرض لنا أن نسأل أين تقف الرواية الأردنية؟ وما مستوى الروائيين الأردنيين؟ وهل استطاعوا  أن ينفذوا إلى أعماق المجتمع والإنسان ويصوروا تجربة الإنسان، أم ظلوا يقفون عند السطح، ويكتفون بالنقل الخارجي؟ وهل انعكست تلك  المذاهب والاتجاهات في رواياتهم؟

وإذا كانت الرواية نتاج المجتمعات المستقرة، والتجربة العميقة، والخبرة المتراكمة، والوعي القوي، والقدرة على الرصد والتحليل والإستنتاج... فإن هذه المواصفات لم تتوافر في المجتمع الأردني الذي كان يمر، في هذه الحقبة، بمراحل تحول اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية واقتصادية سريعة... وهذا ما يفسر ما بدأ في معظم هذه الروايات من افتعال ومبالغة وحماسة، تعود في الغالب إلى افتقار الكتَّاب للتجربة، وقصور فهمهم لطبيعة العلاقات الإنسانية والنفس البشرية، وعجزهم عن إدراك طبيعة التحول الإجتماعي في المجتمع الأردني، وتناولهم هذه الظواهرمن الخارج.

لا أراني مغالياً إذا قلت أنَّ السمة العامة لهذه الأعمال كانت الافتعال والافتراض.. افتعال الأحداث والعلاقات، وافتراض أشياء بعيدة عن المجتمع.. وهذا يعود إلى عجز الكتَّاب عن النفاذ إلى أعماق المجتمع، واستكشاف علاقاته عن قرب، كما يعود إلى محدودية الثقافة المتعلقة بشؤون النفس والاجتماع الإنساني والفلسفة وأسس بناء الرواية الحديثة من حيث هي تصوير حي لتجربة الإنسان والجماعة وليست سرداً لهذه التجربة، ووقوفاً عند الظواهر.

شهدت هذه الحقبة عدداً من الروايات المتفاوتة في المستوى، المتباينة في الرؤية والموقف والطرح، تغلب الحماسة والانفعال والسطحية على معظمها..وقد بلغ عددها خمسة عشر عملاً، لا يمكن أن تسلك في مدرسة معينة أو موضوع واحد، لذا ارتأيت أن أتحدث عن أهمها حسب تسلسلها الزمني، في محاولة لاستكشاف علاقة هذه الروايات بعضها ببعض، أو علاقتها بالمدارس والمذاهب، إذا كان هناك ثمة علاقة، ومدى فهم كل كاتب لمقومات العمل الروائي وفنيته([6]).

في الخمسينات نشر سليمان المشيني قصته «سبيل الخلاص»([7])، وحدِّد هدفه الأخلاقي باقتباس قول مكسيم جوركي في غاية الأدب التي تحدد في إعانة الإنسان على فهم نفسه، والإيمان بها، والطموح إلى الحقيقة، ومكافحة نوازع الشر في طبيعة البشر، وإرشادهم إلى الخير([8]).

هذا العمل بناء فني بسيط، يستند إلى تقديم الشخصيات والأحداث ضمن إحكام الحبكة، واعتماد الفاجعة والصدفة. ومع أنَّ هناك أسباباً تجعل إدراجها في باب «العاطفي» غير أنَّ جملة التوجه الاجتماعي فيها تقربها من ملامسة «النقدية المباشرة». فالقاضي النزيه (عزمي) يفشل في رفض الرشوة، وعندما يبدأ انحرافه لا يتوقف إلا وقد عمَّ الدمار حياته وشخصيته، وغدا، وهو المدافع عن الفقراء في صراعهم مع الأغنياء، والقانع بدخله من راتبه، يسعى الى الجاه والمال لأنَّ زوجته (سلوى) لا تريد الاستمرار في حياة أقرب إلى القناعة مع أنَّ زوجها قادر - لو قَبِلَ- أن يصبح ثرياً. و(سلوى) هذه ابنة رجل جشع، أخذت عنه آراءه في الحياة، وتآمرت مع (شوقي)، صديق زوجها، على تغيير موقفه.

لقد كان  انكسار (عزمي) سببا في الحكم ببراءة المدير الذي حاول الاعتداء على فتاة فقيرة عاملة عنده، وقد فقد أخوها عينه على يد المدير، لقد اختارت أم هذا الفتى (عزمي) لنزاهته، ففجعها بموقفه.

اشتد الصراع في نفس (عزمي)، وقاده (شوقي) إلى الخمر والمجون، وطرد (سلوى) وهي حامل في شهرها الرابع، وأنجبت في بيت أهلها طفلاً أسمته صفا، وماتت بعد شهور وخلفته في عامه الأول.

لم يستطع والد سلوى، بعد أن تغيرت أحواله وإمكاناته، رعاية الطفل، وهنا لا يظهر عزمي أبداً، بل تأخذ الطفل ممرضة لها خمسة أبناء، ويظل سبع سنوات ينتهي بعدها متسولاً، ينام على الأرصفة، وأبوه غارق في لهوه وتهوره ونسائه. وفي صدفة قصصية «مفتعلة» يصدم عزمي ابنه المتشرد بسيارته، وتقطع يد الطفل، وتتكشف الحقائق لعزمي في المستشفى اذ يلتقي الممرضة التي تروي الحكاية، فيكتشف ابنه، وتفاجئ القارئ صدفة أخرى، من غير تبرير وهي أنَّ الممرض الذي يتبرع بالدم لصفا، هو نفسه الموظف الذي فقد عينه واصدر عزمي حكمه ضده في أول انحراف له.

تنتهي القصة باستقالة عزمي من القضاء، وتفرغه للمحاماة، والندم والتوبة ونصرة المظلومين.

تتناول القصة واقع الحياة الاجتماعية، بما فيها من شرائح اجتماعية ظالمة ومظلومة، من منظور أسود، حيث يسقط المسؤول والقاضي أو الإنسان النظيف في حمأة الرذيلة تحت الضغوط الإجتماعية والاسرية، وحيث تنتشر الرشوة والفساد والاستغلال الوظيفي، ويتفشى الربا... وحيث تضغط قسوة الحياة على أعناق الفقراء، فتدفعهم إلى التخلي عن كثير من قيمهم ومثالياتهم، حتى يستطيعوا العيش في هذا المجتمع القاسي.

أشار سليمان المشيني في مقدمة روايته إلى أن غاية الأدب أخلاقي، وذلك باقتباسه رأي مكسيم جوركي: لعلك توافقني في الرأي حين أقول إنَّ غاية الأدب هي أن يعين الإنسان على أن يفهم نفسه بنفسه، وأن يؤمن بنفسه، وينمي فيه الطموح إلى الحقيقة، وأن يكافح نوازع الشر في طبيعة البشر، وأن يرشده إلى جانب الخير فيهم، وأن يستثير في نفوسهم جانب الطيبة والغضب لوقوع الشر، والشجاعة كيما يصبح الناس أقوياء عن سماحة خلق، ويستطيعون إثراء حياتهم الروحية بكل ما هو جميل.

ذلك هو أسلوبي في التفكير.. حقاً إنه لا يبلغ درج الكمال، فإنْ هو إلا مجرد تخطيط عام... أملاه إذن بكل ما من شأنه أن يثري الحياة ثم انبأني أنحن في
الرأي متفقان.

بناء على ما تقدم لا يستغرب إذا قام المؤلف بعملية توجيه للأحداث، وبأسلوب رومانسي، حتى يخدم هدفه... فعزمي قاض نزيه، من أسرة فقيرة له قيمه ومثالياته، يفسد تحت ضغط زوجه وإلحاحها في البحث عن الترف والجاه، فيرتشي لتبدأ رحلة طويلة له مع الوجه الفاسد للحياة، تكون زوجه احدى ضحاياها، حيث يطردها وهي حامل، فتنجب له طفلا دون أن يعلم عنه شيئاً فيتشرد الطفل بعد أن تتبناه ممرضة، ويكون ضحية حادث صدم من قبل أبيه، حيث تقطع يده فيكتشف الأب أنه صدم ابنه، ويفاجأ بأن الذي يتبرع له بالدم هو الموظف الذي حكم عليه، على الرغم من أنه فقد عينه على يد مديره... فيستقيل من القضاء، ويتفرغ للمحاماة وللدفاع عن الفقراء والمظلومين.

في هذه الرواية تركيز شديد على الجانب الموضوعي، وإدانة الانحراف والظواهر السيئة في المجتمع، وقد أدى هذا التركيز إلى انشغال الكاتب به، وتصديه للحوادث والصدف التي تساعد على تناوله،ونسيانه للجانب الفني الذي جاء باهتا تحت وطأة الوصف الخارجي الزائد، والإلكيشهات الأسلوبية، والتدخل والوعظ والتوجيه والمبالغة وبروز شخصية الكاتب.

وصف محمد عطيات هذا العمل بأنه رومانسي مشوب بالواقعية، وفيه مسحة رومانسية تدعو إلى الثورة والهدم وبناء العوالم السحرية والحنين إلى العوالم المجهولة السعيدة.

أما د. خالد الكركي فيأخذ على هذا العمل انشغاله بإدانة الإنحراف الأخلاقي على حساب نضج الشخوص والبناء.. ولو تمَّ للكاتب إقامة بناء متناسق من الأحداث والشخوص، بعيداً عن المصادفات والفضفضة، مشدود بحبكة منطقية متينة، لقدَّم لنا عملاً جيداً. ولكن ما لابدَّ من قوله إنَّ سياقه الزماني (خمسينات القرن العشرين)، لا بالرؤية النقدية الحديثة، تدفعنا إلى الإعجاب بالرجل في خلقه لشخوص الرواية وتحريكهم وتوجيههم، وبأسلوبه ولغته الساحرين، فهذه الرواية في زمنها كانت تعدّ من أروع ما أنتج في الأردن قبل سنة 1967، وهي الحد الذي بدأت بعده الرواية الفنية كما يقول النقاد([9]).

* * *

 

رواية (زاهي وعنود)، طبعة عمان، 1957 م *

 

تشكل رواية زاهي وعنود في جوهرها صراعاً حقيقياً بين المادة.. والمعنى، بين المال.. والحب العذري الطاهر المتمثل بين الشابين الجامعيين (زاهي وعنود) من جهة وذلكم الكهل المتصابي المليونير الذي أحبَّ هو الآخر (عنود) وحاول بشتى الطرق أن يُكرّس ماله لشراء الفتاة - إن صحّ التعبير - من أبيها المعلم المتقاعد الذي أثقل بالدين، فقد كان مستأجراً شقة في عمارة الكهل الضخمة، وتقاعده لا يكاد يكفي أسرته، وكان يُظهر له العطف ويكتفي بالشيكات بالمقابل!!

أما زاهي وعنود فقد ربطهما الحب العذري منذ كانا طالبين في الجامعة.. زاهي يدرس الطب وعنود تدرس في كلية الآداب، وكان زاهي وشقيقته زاهية يدرسان في الجامعة نفسها ويأتيان إليها بسيارة وفي الطريق يصادفان (عنود) زميلة (زاهية) في الكلية، وبنفس الصف،... فيطلبان إليها أن تأتي معهما وطالبين آخرين ممن كانوا ضمن مجموعة من الطلبة بانتظار الباص،... ويتعرّف زاهي إلى عنود، وتتطور المعرفة إلى حب حقيقي تعاهدا بعدها على الزواج عند التخرّج.

وكان زاهي ابن طبيب متوسط الحال.. طبيب عام ودخله لا بأس به يكفي أسرته الصغيرة ويتيح لها حياة كريمة وقد استطاع معه أن يعلّم ابنه طبيباً على حسابه، وابنتيه تعليماً جامعياً ليكون لكل منهم سلاحٌ ينفعه في المستقبل.

ونعود إلى زاهي الذي كان يعاني معاناة قاسية بسبب ذلك الكهل الثري الذي أراد أن ينتزع حبيبته من بين يديه.. وكان موقف (عنود) موقف الفتاة المخلصة كل الإخلاص لمن تحب وتهوى، فأبت أن تلين أو أن تغريها هدايا الكهل الثمينة والذي كان بدوره يمعن في إقراض والدها والصبر عليه، حسب خطة مرسومة.. حتى ترتّب عليه مبلغ كبير من المال أثقل كاهله.. إلى أن وصل الأمر أن اضطر والد عنود معه أن يصارح ابنته «التي فقدت والدتها ونصيرتها» بأنه سيدخل السجن إذا لم يف بما استحق عليه من الدين.. وكان موقف عنود كما أسلفنا صلباً جباراً.. لكنّ والدها عندما أطلعها على حقيقة الأمر لفت نظرها بصورة غير مباشرة إلى أنها مدعوة للتضحية دفاعاً عن كرامته، فقد كان عرض صاحب الدين المتيّم بعنود، إذا ما قبلته زوجاً إلغاء كل الديون و(تطويب) الشقة لوالدها، ووضع مبلغ ضخم باسمها.. عدا الحشم والخدم!!

وقد عانت عنود قبل اتخاذ القرار الذي كاد يودي بحياة من تحب ألا وهو زاهي معاناة هائلة لكنها أعلمت زاهي أنّ التضحية من أجل إنقاذ والدها وأسرتها، أمر يقتضيه واجب البنوة والحنان تجاه والدها وما يعاني، فكان آخر طلب لزاهي أن تحاول تأجيل إعلان الزواج ما أمكنها ذلك فكان له ما أراد إذ قام والدها الذي لم يكن يعلم عن هذا الاتفاق شيئاً بالتأجيل على أساس التطبيع فقبل صاحب الدين وكاد يطير فرحاً.. وأطلع زاهي والده على الأمر فحاول المساعدة ولكن المال المطلوب كان مبلغاً كبيراً.. فأسقط في يده..

عندها كاد اليأس أن يتطرق إلى نفس (زاهي) لكن القدر كثيراً ما ينظر بعين الرأفة إلى المحبين الشابين الطاهرين.. فقد أُدخل إلى المستشفى الذي يعمل فيه زاهي (والذي أصبح دكتوراً مختصاً في جراحة القلب) رجل في السبعين من العمر في حالة حرجة فقد أصيب بجلطة قوية أصابت شرايين القلب ويبدو أن حالته كانت صعبة للغاية.. فتولّى زاهي إجراء العملية الجراحية ببراعة فائقة.. أذهلت من كان معه من زملاء وزميلات... وقد استغرقت العملية حوالي ثماني ساعات تكللّت فيما بعد بالنجاح وتبيّن بعد ذلك أنّ المريض كان على جانب كبير من الثراء فخصَّ الأطباء والممرضات بالهدايا.. وتوجه بالشكر إلى الجميع ثم صافح زاهياً وسلّمه رسالة ضمن مغلف وغادر...

وظنَّ زاهي أنَّ الرسالة لا تخرج عن بطاقة شكر وتقدير على ما بذله من جهد عظيم فلما فتحها تبيّن له أنها شيك بمبلغ كبير فلم يضع الوقت بل بادر إلى دفع ما كان قد ترتب على والد عنود إلى صاحب الدين وأفسد عليه خطته.. بعد أن تدخل بالطبع من لهم القول الفصل.. وعادت عنود إلى زاهي.. وانتصر الحب العذري الطاهر ورفرف بجناحيه على الحبيبين..

* * *

يلاحظ الباحث أن هذا العمل الروائي يقترب في طرحه من العمل الروائي الأول (سبيل الخلاص)، من حيث افتعال الأحداث والعلاقات، والمبالغة في وصفها، ... كما يلمح تلك الروح الرومانسية المحلّقة في سير هذه الأحداث وطبيعتها، وتوجه الشخوص وصولاً إلى ختام هذه الرواية (زاهي وعنود) بانتصار الحب العذري... وعنصر المصادفة مسيطر في تسلسل أحداث مثل هذه الروايات.

* * *


 

رواية «الشارع المعبد بالذهب» - مخطوطة

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة مساء..

وحسني يتطلع إليها ويقول في نفسه.. بقيت ساعتان على.. الموعد مع (ثريا) الفتاة التي سحرته بجمالها وأناقتها وجاذبيتها في كل ما يصدر عنها..

كان حسني يطلُّ على الأربعين.. وقبل أن يلتقي ثريا استقر في ذهنه البقاء أعزبَ، فقد تدخلت عائلته في أول حب له عندما كان في مستهل شبابه.. إذ أحبّ فتاة من جيرانه اسمها (حسناء) وكان أول حب.. أحبها من كل قلبه ووجدانه ثم أعلم والديه والعائلة عن عزمه على خطبتها.. فقامت القيامة، وقالوا له: إذا أردت الزواج فهذه ابنة عمك زهرة الفتيات خلقاً وجمالاً. وعبثاً حاول إقناعهم فصرف النظر عمن عشق قلبه بعد أن أعيته الحيلة.. ومرّت أربع سنوات تزوّجت خلالها (حسناء).. ثم شاءت الظروف أن يطرق الحب قلبه ثانية.. فتعرف على (سُهاد) ثانية زميلته في العمل في الشركة ووجد فيها ما يهواه فؤاده وأيقن أنها ستكون خير شريكة لحياته بعد أن أدرك أنه يحبها وأنَّ الصفات التي يحبها متجسّدة في هذه الحبيبة فبادر إلى اطلاع العائلة وكان موقفهم الثاني هو الموقف الأول نفسه وعطّلوا عليه أحلامه!!

وكانت تجربة حبه الثالث القشة التي قصمت ظهر البعير -كما يُقال- فقد أحبّ فتاة أجنبية تعرّف عليها في حفلة أقامتها الشركة.. وكانت النتيجة باختصار الزواج من ابنة عمه كما حدث في حبه الأول والثاني، فلابدّ من الزواج من ابنة عمه وقد قامت قيامة عائلته -كما أشرنا في البدايات- وبخاصة أنَّ الفتاة الجديدة أجنبية وقد حاول شرح عاطفته نحو (زهرة) وأنه يحبها حباً أخوياً والحب العاطفي الذي يسبق الزواج ويعمّر فيما بعد هو الحب الصحيح، لكن والده بخاصة لم يتفهم موقفه، وأخيراً وبعد أن تجاوز الثلاثين أخذ ميله إلى الزواج يقل ويتضاءل حتى اعتقد أخيراً أنه سيعيش طوال حياته (أعزب).

لكنّ القدر عاد يلعب لعبته مع حسني إذ عرّفه صديق له على (ثريا) فقد دعي هذا الصديق إلى حضور حفل عيد ميلاد أقامته عائلة برجوازية على جانب كبير من الثراء فدعا حسني كي يرافقه لكن حسني في بادئ الأمر  اعتذر لأنه ينتسب إلى أسرة متوسطة الحال.. وأقل من ذلك فلم يكن يرغب في التعرف على هذه الأسر والتي لها حياتها الاجتماعية المثقلة بما يلزم وما لا يلزم والبعيدة عن العاطفة التي يحس بها!!

لكن صديقه ألحَّ عليه وقال له: احضر يا أخي ولن يترتب عليك أي التزام.. ثم إنك يا حسني صاحب قلم وأديب تكتب دائماً في الصحف، فوافق حسني وأثناء الحفل تعرّف على (ثريا) الابنة الوحيدة لصاحب الحفل، والذي رغم بلوغه الستين كان يبدو كأنه في ربيع العمر نشاطاً وحيوية، وأثناء حديث حسني مع ثريا أشارت برقة إلى أنها تقرأ له ما يكتب وأنها معجبة بآرائه وكانت (ثريا) على جانب من الجمال الأخّاذ وحسن المنطق، ثم تكررت اللقاءات فعاد الحب يطرق قلب حسني إلى أن غامر ذات يوم وفاتح (ثريا) برغبته في عقد القران إذ كان ثمة تجاوب عاطفي، فقد تجرأ على القول... إنّ جمالها وذكائها وجاذبيتها جعلته يعدل عن البقاء دونما زواج، وكان قد حدّثها عما مرّ به فأظهرت لوناً من الشعور العاطفي الجيّاش تجاهه وقد كان حسني رغم اقترابه من الأربعين لم يزل وسيماً أنيقاً ووظيفته في الشركة لا بأس بها ويملك شقة، ولديه سيارة، وكان ردّ ثريا مشجعاً.. ولكنها قالت إنّ شقيقها الموظف كقنصل في السفارة الأردنية بلندن قد أصرّ على دعوتها للحضور إلى العاصمة البريطانية حيث سيقام مهرجان مسرحي مميز وهي بطبيعتها تحب المسرح والرواية.. ووعدته بالحضور.. ولن تطول الرحلة أكثر من أسبوع فاتفقا على ذلك وأخذ حسني يفكر كيف سيكون عقد القران وأين وكم سيدعو.. وبخاصة أنه الآن يملك أمره ويتصرف بمعزل عن رأي العائلة الذي كان يسير في اتجاه معاكس لرأيه وفي اليوم الثالث لمغادرة (ثريا) عمان حدث ما لم يكن في الحسبان إذ تلقت الشركة دعوة من الشركة الرئيسية في (أثينا) لحضور معرضها السنوي الذي تعرض فيه أحدث منتجاتها الصناعية.. ووقع الاختيار على حسني ليكون أحد أعضاء الوفد فسافر إلى أثينا، وفي اليوم التالي لوصوله (أثينا) أصرّ عليه أعضاء الوفد ليذهبوا إلى أحد النوادي الليلية ليشاهدوا الرقص اليوناني ويتمتعوا بالموسيقى اليونانية فذهب حسني.. وكانت السهرة تبدأ بعد الحادية عشرة مساء.. وبعد أن أمضى ساعتين ورفاقه حانت منه التفاتة فرأى مشهداً كاد يفقد معه صوابه.. رأى وكاد لا يصدق ما رأى.. إذ أبصر ثريا.. أجل ثريا التي كان يقدّسها وقد ملكت عليه فؤاده مع مجموعة من الصعاليك تشرب وترقص وهي ثملة.. وقد قالت له إنها ذاهبة إلى لندن... انتهت زيارات حسني إلى منزل ثريا، ولم يفاتحها في شيء.. ولم تفاتحه.

ورأى الذين يزورون دور الكتب في واجهة أكثر من مكتبة قصة حسني بل روايته الجديدة في كتاب بعنوان.. (الشارع المعبد بالذّهب).

* * *

نحن إذا إزاء هذا العرض والتلخيص أمام ثلاثة أعمال روائية للأستاذ سليمان المشيني هي: سبيل الخلاص، وزاهي وعنود، والشارع المعبد بالذهب. وهي روايات تقليدية متأثرة بالمنهج الرومانسي، والمبالغة في وصف الأحداث ورسم الشخوص، كما ركّزت هذه الروايات على العواطف وثنائية الأبطال.

وقد ذهب الدكتور سمير قطامي في وصف روايات هذه المرحلة - مرحلة البدايات والتأسيس للرواية الأردنية - بالافتعال، وافتراض أشياء بعيدة عن الواقع والمجتمع. وقد شهدت هذه الحقبة عدداً من الروايات الرومانسية المتفاوتة في المستوى والأسلوب، المتباينة في الرؤية والطرح، تغلب عليها الحماسة وتناول سطوح الأحداث لا الغوص في أعماق الشخصية وتعقيدات النفس الإنسانية.

فقد حدّد سليمان المشيني هدفه من رواية «سبيل الخلاص)، وطرح أبعاداً أخلاقية تُحدِّد غاية الأدب في إعانة الإنسان على فهم نفسه، والإيمان بها، ومكافحة أنواع الشر في طبيعة البشر، وإرشادهم إلى الخير - كما طرحنا آنفاً - ولذا يؤخذ على صاحبنا روح الوعظ والإرشاد في قصصه، واعتماد المصادفات في الأحداث، والفجائعية في صراع الأبطال، بل ومحاولة تحريك مشاعر المتلقي.

إنها تعرض الواقع الاجتماعي الظالم، والفروق الطبقية الحادة، والقسوة في الحياة، وشيوع الفساد والاستغلال الوظيفي... بل إنّ المؤلف يكاد يوجه الأحداث ويتدخّل في الشخوص، ولا يجعل الأمور تسير سيراً طبيعياً مقنعاً، وأنا هنا لا أنقد الأستاذ سليمان المشيني بقدر ما أعرض نماذج قصصية من تلك المرحلة، مرحلة البدايات والتأسيس للرواية الأردنية؛ فقد كانت تلك الروايات بعامة متأثرة بالمنهج الرومانسي إلى أبعد الحدود.

وقد برز صراع بين شخوص رواية (زاهي وعنود)، بين المادة والروح الإنسانية المحلقة، بين المال والحب العذري الطاهر - كما يقول الأستاذ سليمان المشيني في تلخيصه لهذا العمل - إنها سيطرة المال على العاطفة، ولتعرض القصة بعامة قصة حب عذري رومانسي حزين، توحي للمتذوق لمثل هذه الأعمال بأفلام الأربعينات والخمسينات في تلك المرحلة، أفلام الحزن والغرام، أفلام الحب والانتقام، إنّها قصص مغلّفة بالألم، وصراع العواطف، لتنتهي هذه القصة بحصول (زاهي على مبلغ كبير من المال من خصمه إثر عملية جراحية ناجحة، وعودته إلى محبوبته (عنود)، وانتصار الحب العذري الخالص على الحب المادي المزيّف!!

أما في قصة (الشارع المعبد بالذهب) فهي لا تختلف كثيراً عن الروايتين السابقتين من حيث اصطناع الأحداث وتعدد المحبوبات،وسيطرة المفهوم التقليدي في بعض مفاهيم المجتمع الأردني، ذلك أنّ العاشق المحب ملزم بابنة عمه، فمن (ثريا) الفتاة التي سحرت البطل (حسني) بجمالها، إلى ابنة عمه (زهرة) التي يحاول أهله إجباره عليها، إلى (حسناء) فتاة الجيران، إلى (سهاد) زميلة حسني في الشركة، إلى حبه لفتاة أجنبية، وقد انتهى هذا العمل القصصي الرومانسي بصدمة العاشق الوله عندما يبصر (ثريا) في ملهى ليلي مع مجموعة من سقط القوم في أثينا، وقد سجّل (حسني) قصة حبه التي أفلت تحت عنوان (الشارع المعبد بالذهب).

* * *

 


([1]) علي شلش: في عالم القصة، (ص 179).

([2]) المنبثقة من كلمة Novells الايطالية، ويطلق عليها بعض النقاد: Long Story.

([3]) انظر محمد زغلول سلام: دراسات في القصة العربية الحديثة، (ص5-14)، ومحمود ذهني: تذوق الأدب طرقه ووسائله، (ص137-138).

([4]) ومن هذه القصص «قتلت أمي» لمحمد سعيد الجنيدي، الجزيرة، ع 1763-1767 و«فاتنة المقهى» لمحمد سعيد الجنيدي، الجزيرة، ع 1838-1841، و«عازف الكمان» (ترجمة) عقلي راجي دبية، الجزيرة، ع 17902-1794.

Social Gieal Novel: وقد انتشرت هذه الروايات في ألمانيا إبان القرن التاسع عشر وعرفها (شاجيل) عام 1804، و(جوته) عام 1927 بأنها حادثة واحدة غريبة ولكنها واقعية، وعرفها (نيك) عام 1829 بأنها تتميز بتحول غير متوقع، انظر: علي شلش: في عالم القصة، (ص184-187).

([5]) انظر كتابي: صحيفة الجزيرة الأردنية: دروها في الحركة الأدبية، (ص 164).

([6]) د.سمير قطامي: الحركة الأدبية في الاردن، منشورات وزارة الثقافة، عمان، 1989، (ص 170-171).

([7]) صدرت عن دار الطباعة العربية في عمان 1955(؟). وظهر على صفحة عنوانها توضيح إضافي يقول مأساة حقيقة ما يزال أحد أبطالها على قيد الحياة. وقد أشار محمد  عطيات إلى صدورها سنة 1953. انظر دراسته: القصة الطويلة في الأدب الأردني، (ص 63).

([8]) في سبيل الخلاص، (ص 3)، مقدمة.

([9]) انظر الدكتور خالد الكركي: الرواية في الأردن، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1986، (ص37-38 )، ود. سمير قطامي، مرجع سابق، (ص 174-175).

* تلخيص موجز لعدم وجود الأصل.

Back