الفصل الرابع

 
المقامات

- نماذج من مقامات المشيني

     

- الموشحات الأندلسية / مشروع دراسة

أ- المقامات

يعتبر كتاب المقامات أشهر مؤلفات بديع الزمان الهمذاني الذي له الفضل في وضع أسس هذا الفن، وفتح بابه واسعاً ليلجه أدباء كثيرون أتوا بعده وأشهرهم أبو محمد القاسم الحريري، وناصيف اليازجي، وإبراهيم المويلحي.

والمقامات مجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم جمعت بين النثر والشعر بطلها رجل وهمي يدعى أبو الفتح الإسكندري وعرف بخداعه ومغامراته وفصاحته وقدرته على الشعر وحسن تخلصه من المآزق إلى جانب أنه شخصية فكاهية نشطة تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الأعماق. ويروي مغامرات هذه الشخصية التي تثير العجب وتبعث الإعجاب رجل وهمي يدعى عيسى بن هشام.

ولهذا المؤَلف فضل كبير في ذيوع صيت بديع الزمان الهمذاني لما احتواه من معلومات جمة تفيد جميع القراء من مختلف المشارب والمآرب إذ وضعه لغاية تعليمية فكثرت فيه أساليب البيان وبديع الألفاظ وأراد التقرب به من الأمير خلف بن أحمد فضمّنه مديحاً يتجلى خاصة في المقامة الحمدانية والمقامة الخمرية... فنوّع مستعملاً الأسلوب السهل واللفظ الرقيق والسجع القصير دون أدنى عناء أو كلفة.

وتنطوي المقامات على ضروب من الثقافة إذ نجد بديع الزمان يسرد علينا أخباراً عن الشعراء في مقامته الغيلانية ومقامته البشرية ويزودنا بمعلومات ذات صلة بتاريخ الأدب والنقد الأدبي في مقامته الجاحظية والقريضية والإبليسية كما يقدِّم  الرستانية وهو السني المذهب حجاجاً في المذاهب الدينية فيسفه عقائد المعتزلة ويرد عليها بشدة وقسوة، ويستشهد أثناء تنقلاته هذه بين ربوع الثقافة بالقرآن الكريم والحديث الشريف وقد عمد إلى اقتباس من الشعر القديم والأمثال القديمة والمبتكرة فكانت مقاماته مجلس أدب وأنس ومتعة وقد كان يلقيها في نهاية جلساته كأنها ملحة من ملح الوداع المعروفة عند أبي حيان التوحيدي في «الامتاع والمؤانسة» فراعى فيها بساطة الموضوع وأناقة الأسلوب وزودها بكل ما يجعل منها: وسيلة للتمرن على الإنشاء والوقوف على مذاهب النثر والنظم وفيها - كذلك - رصيد لثروة معجمية هائلة كما انّ فيها الحكمة والتجربة عن طريق الفكاهة، وهي وثيقة تاريخية تصور جزءاً من حياة عصره وإجلال رجال زمانه.

كما أنَّ مقامات الهمذاني تعتبر نواة المسرحية العربية الفكاهية وقد خلَّد فيها أوصافاً للطباع الإنسانية فكان بحق واصفاً بارعاً لا تفوته كبيرة ولا صغيرة وأن المقامات هذه لتحفة أدبية رائعة بأسلوبها ومضمونها وملحها الطريفة التي تبعث على الابتسام والمرح وتدعو إلى الصدق ومكارم الأخلاق التي أراد بديع الزمان إظهار قيمتها بوصف ما يناقضها، وقد وفق في ذلك أيما توفيق.

وقد أدلى الأستاذ سليمان المشيني بدلوه في هذا المجال، وأسقط بعض قضايا العصر بأسلوب جميل ماتع، واخترت له أربع مقامات تُمثِّل هذا اللون الأدبي وهي: مقامات لسان حال الزمان، والمقامة المانشيتية، والمقامة العبدونية، والمقامة الخبزية.

* * *


 

مقامات لسان حال الزمان

قال لسان حال الزمان..

سرت في شوارع عمان

مدينة الرواء والحسن والافتتان

أطالع الروعة في كل مكان

والقلب بالنشوة والصبابة صنو وسنان

وتبدو عمان القرن العشرين

كخود تختال بالورد والنسرين

أو عروس في حلاها الرائعة تبين

فأسرني هذا السحر الحلال

وصرت أمضي في طرقاتها مختالا أيما اختيال

ولقد أصبح الوقت قريباً من الظهر

والنفس مفعمة بالأمل والبشر...

وبينما أنا على هذا الحال

أحظى بلقاء مدينة الجمال.

إذا برائحة شواء مع الأنسام تطوف

وتتحدى بطيبها الأنوف

ودونما تردد يدب إلى القلب

مددت يدي إلى آخر الجيب

فطالعني نصف دينار بهي

كأنه الجوهر المكنون النقي

فإذا أنا في نشوة وكبرياء

وإذا بمعنوياتي تطاول الجوزاء

فاقتحمت اقتحام الليث الهصور

أول مطعم واجهني أثناء المرور

وتوقفت قليلاً لدى الاقتراب

واجتلى طلعة الشواء الجذاب

وبادرت الجرسون الذي بأدب وقف

... أعطني ربع كيلو من كباب وشقف وبعض المقبلات

والألبان التي تصح بها الأبدان

فهذا معدل وجبتي

ومقوم جسمي وصحتي

وقد شاء لي حسن الطالع

أن أسأل بأدب بارع

كم ثمن هذه الوجبة من الطعام؟

فأجابني الجرسون برقة واحتشام

أنَّ ثمنها ثلاثة دنانير

فاطلب ما تشاء أيها الأمير

فلبثت برهة لا أنطق

وقلبي بعنف يخفق

وعدت أسال بلطف واتزان وروية

كم يكون الثمن... لو طلبنا نصف الكمية

فأجاب ديناران يا قمر الفرسان

فقلت له إنَّ أسعاركم زهيدة

وأفعالكم.. بإذن الله حميدة

سأعود إليك يا زين الشبان

فلي صاحبان ينتظران!

وما صدقت أن خرجت

ومن ضيق الأسر نجوت

فكيف تكون الأحوال

لو طلبت وجبتي في الحال....

ولم أكد أغادر الميدان

حتى ضجَّ في الجسم حرب عوان

والوضع أصبح في عنفوان

ولم يعد ثمة قدرة على الانتظار ثوان!

فطرقت باب التفكير

ألتمس حَلَّ الأمر العسير

فأشار علي إشارة ذكيهْ

فيها بعد نظر وعبقريهْ

فبادرت إلى شراء ما لذَّ من الخبز المفيد

وأنا في فرح ما عليه من مزيد

وصرت أتغذى على مقربة من الدخان

وأنا من المتعة نشوان

حتى اكتفيت وغدوت شبعان.

ومسحت فمي بالأردان

ثم اشتريت فيما تبقى معي...نكاشة أسنان!

وأنا أحمد الرحيم الرحمن

وأدرك لسان حال الزمان الصباح - فسَكَتَ عن الكلام

المباح

* * *


 

نحو البناء المقامة المانشيتية

نشرت أخبار الأسبوع الغراء إلى أهل الخير نداء، وصورة مواطن شقي تعرَّض لحادث سيارة أصابه بالشلل وهو طريح الفراش ولديه ستة أولاد صغار، وليس عنده أي دخل، ويطالبه صاحب البيت بإخلائه، فأوحى إلي «هذا الحادث المأساوي» الذي يمزق الفؤاد بهذه المقامة.. والتي أسميتها «المانشيتية» ومما جاء فيها..

«التأمين والضمان، والسلام والأمان».

شعار من قلب العروبة انطلق، موشى بالرواء والسناء والألق، يدعو العربي أن يودع القلق.

شعار هزَّ سمع الزمان، وكان له أي وقع في الآذان كنغم صادر من أروع كمان، وقعه عازف فنان عندما قيل في البيان، لا فاقة بعد اليوم أو حرمان..

وظنَّ الشعب أنه صادر عن إيمان، ويستهدف أول ما يستهدف إيقاظ الوجدان، وحسبه أن يحيا العربي بسلام واطمئنان، وظنَّ المواطن العربي أن عصر إنصافه قد حان، فلن يعيش بعد اليوم بأسى وهوان، بل سيكون له كل الاعتبار، وفي الرعاية والاهتمام سيبقى قبلة الأنظار، والعمل والرفاه والتأمين قد أصبحت منه قاب قوسين فأغمض الأجفان، وأحسّ بالراحة وهو هيمان... فالحكومات ستكرس كل ما لديها من أجل كرامته، وتضع إمكاناتها حفاظاً على سلامته..

إلى أن استيقظ على الواقع... فإذا به يهز منه المضاجع..

فما أكثر الذين يعانون من كرب وضنك وعناء وتعب..

وثمة من يحيون على عيش مرير..

فلا يبصرون أي لون من الشرور..

وساعاتهم خوف وثبور، لا يلونها لون من الحبور

أما نهارهم.. فخوف واضطراب وليلهم سهاد واكتئاب وإذا ما أصيب أحدهم بمرض خطير.. فليس له في مستشفى اختصاصي سرير، فهذا يكلف الكثير، وهو لا يملك شروى نقير، فلنترحم عليه وهو ما لم يزل في قيد الحياهْ، فلن يصل إليه حبل النجاهْ.. وسيمضي مثلما سواه، يمضي ويقضي كما الذئب في الفلاة يقضي ويعلم حين العلم لا يفيد.. ويتأكّد عندما لا يجدي التأكيد.

إن كلَّ ما كان يحلم فيه من ضمان وتأمين وامتيازات.. لا يعدو أن يكون مانشيتاً أو أمنيات... لا تستقر على حال، وإلى رب العالمين المآل.

* * *


 

المقامة العبدونية

دعاني صديق مأمون لزيارته في عبدون، وذلك لقضاء بعض السويعات في حديث الذكريات، فمضيت في الموعد المضروب، ومعي أوصاف البيت المطلوب، ووصلت على ما يبدو من بيت الصديق وأمضيت لحظات متفرساً في الطريق..

فراعني وأنا من سكان عمان، من زمان ما أبصره من قصور مبالغ في عمرانها كأنها كان ياما كان، ومع أصحابها خاتم سليمان..!.

فهذا قصر يبدو كإحدى الكاتدرائيات، والثاني يشبه حاملة طائرات، والثالث كأنه الخورنق والسدير.. والرابع كعراق الأمير وآخر كطائرة مروحيهْ وسادس كراقصة لولبيهْ..!.

فسرح بي الخيال وطوّف بي الترحال إلى الأربعينات والخمسينات حيث كانت البيوت بسيطة، والحياة دونما تعقيد، والناس في سلام وعيش سعيد..

وعدت أبحث عن منزل مأمون، وأبعدت عن مخيلتي كل خاطر مأفون، فمالي ولمن لا يحمل همّ الوطن سأتركه لكي يعظه الزمن وكنت على ثقة ويقين بأنني لست بعيداً عن البيت من الأمتار خمسين.... فقلت في نفسي دعني أدق جرس هذا المنزل الأنيق الفريد... عسى صاحبه يدلني على المكان الذي أريد..

وما كاد الجرس يدق ثلاث دقات حتى خرجت ثلاث سوداوات صنو الليالي الحالكات فلم أشك بأنهن سيرلانكيات...

وقبل أن أسأل أي سؤال قلن برطانة ليس هنا رجال اذهب في الحال فمضيت وقرعت باب قصر قريب... وظننت صاحبه يتحلى بمزايا إنسان أريب، فإذا بثلاثة كلاب تتجه نحوي كالذئاب، ويبدو أن صاحبها يطعمها لوناً معيناً من اللحوم والكباب!! وخلفها أطل صاحب البيت الكبير وقال بصوت كالهدير كأنه صادر من خلف الدهور...

نحن لا نعرف أحداً هنا، فاذهب يا فلان ولا تطل الوقوف بهذا المكان، ففكرت في الرجوع من حيث أتيت بعد أن تعذّر عليّ معرفة موقع البيت.

وإذا بصديقي مأمون على مقربة مني ويبدو أنه كان يفتش عني وقال لي لا شك أنك تهت بين هذه القصور وصعب عليك الوصول والعبور...

فقلت له بدهشة وكيف تسكن بين هؤلاء الأنام، فأجابني سكنت هنا قبل ثلاثين عام !... وهذا هو بيتي البسيط البناء الذي يبدو هنا ككلف في وجه الحسناء..

فعدت أقول ألا يعرفونك وأنت أستاذ في الأدب؟ فقال ليس كل من هنا يهتم بما تقول.. فهناك من يهتم بالطرب، وثمة من يُعنى بالتجارة والربح والخسارة وآخرون في إقامة الحفلات أو تمضية الوقت في الرحلات...

وبعد أن مكثت عند صاحبي ساعة ودعته والنفس ملتاعة وقلت لو فكَّر هؤلاء في جوهر البناء.. لما أُنفقت الملايين بهذه الطرق العشواء... وما جمدوا الأموال حديدا وأحجارا.. بل أغنوا الأردن أشجارا وأنهارا... وأقاموا المصانع التي تشغل آلاف العمال وأثروا الوطن بالازدهار والإقبال... ولكن لمن تقول هذه الأقوال؟

فليس هناك من يصغى إلى هذا الموال...


 

الـمقامة الــخبزية
 
(مهداة إلى أحزابنا الوطنية)

ألم تروا إلى شعبنا الطيب في كل عيد،

كيف يهجم على الخبز هجوم الصناديد.

ولا يترك مزيداً لمستزيد. ألم تروا إلى المواطن الذي يستهلك وعائلته من الأرغفة عشرين، اشترى في العيد تسعة وتسعين (لا يتصدق بها بالطبع على المحتاجين).

وهل شاهدتم الازدحام والتدافع، والتقدم والتراجع، والصفوف التي لها أول وليس لها آخر، واللهاث في الحناجر، علماً بأنَّ الأفران أيام العيد لم تحكم الأغلاق، وبقى العمل فيها على قدم وساق...

قلت في نفسي، وقد صدق حدسي.

ما بال شعبنا يحشد من الخبز والطعام، ما يلزم وما لا يلزم.

ولماذا غدت المثل العليا في وجدانه تتقزم..؟

وعادت بي الذاكرة إلى عام سبعة وستين عندما نشبت الحرب بيننا وبين الإسرائيليين، فاتصل بي عند الأصيل الأستاذ سعد جمعه الرئيس الجليل، ليطلع دولته على آخر التقارير، فهالني وأنا في طريقي إليه أنَّ شعبنا بدل أن يمضي للسلاح ويقول حي على الفلاح، نسى كل شئ وهجم على الأفران هجوم الفرسان.

كذلك في حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين أعاد الشعب الكرّة. وحمل من المؤن ما لا يطيق هذه المرة...

وفي حرب الخليج عام تسعة وثمانين في عاصفة الصحراء تكرر المشهد الذي يدعو حقا إلى الرثاء.

وعاد السؤال يلح على البال؟

أصحيح أن شعبنا العظيم الأصيل،

الذي لم يكن له في الترفع مثيل،

أصبحت رسالته اليوم ملء الكروش، وتعبئة الجيوب بالقروش؟

أحقيقة أن شعبنا العريق في السلم والحرب والشدة والكرب لا يعرف إلا خذ وهات وتكديس الأطعمة في الثلاجات؟

والله ما كان بالأمس القريب في هذا الوضع الرهيب، فقد عرف بالقناعة والإباء والكبرياء...

فلماذ اهتزت قيمه هذا الاهتزاز؟

وهجر كل ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز

فغدا في الأزمات يحشد الطعام بدل الكفاح والإقدام.

وحتى عندما ترتفع الأسعار ينطلق للشراء انطلاق المغوار ويقبل على السلع إيما إقبال، دون أن يدري أنه يشجع الجشع والاستغلال...

وأعود كمواطن ينزف قلبه ويأسى لما وصل إليه شعبه.

أعود للتساؤل... هل غدت رسالتنا في الحياة الأكل وجمع المال والكسب بأي أسلوب وملء البطون هو المطلوب..

أقسم أنَّ الموضوع خطير والوضع جلل.

الأمر الذي يفرض عرض الحقيقة دونما وجل.

انطلاقاً من مبدأ الديمقراطية الذي أعلنه جلالة قائد الوطن، لينهض الأردن في فترة تتجاوز حدود الزمن.

من هنا نتوجه بالسؤال لنحظى بالجواب، إلى من يهمه الأمر من الأحزاب..

لماذا أصبح شعبنا بالخبز مفتوناً وكان من قبل قنوعاً موزوناً، إنها بادرة خطيرة، وبالوقوف عندها جديرة..

لإعادة شعبنا إلى رفعته.. إلى استشعار عزته وأنفته، وإلى قيمه التي ورثها كابراً عن كابر لصنع الجُلّى والمآثر...

أقول قولي هذا من شغاف الوجدان.

وأستغفر الله المستعان.

* * *


 

ب- مشروع دراسة عن الموشحات الأندلسية:

* وهذا أستاذنا المشيني يكتب دراسة متميزة عن الموشحات الأندلسية، وفيما يلي مُلخَّص لهذه الدراسة، ويبدو للباحث أنَّ هذه الدراسة هي مشروع كتاب عند الأستاذ سليمان المشيني ويبدأ دراسته بتحية الشاعر الأندلسي الكبير ابن خفاجه لموطنه الأندلس.

قال الشاعر الأندلسي الفقيه الكبير ابن خفاجه في تحية موطنه الأندلس:

 

يـا أهل أنـدلس...... لله دركـمُ

مـاء وظل وأنهار وأشــجارُ

ما جـنة الخـــلد إلا في دياركــمُ

ولو تخيّرت هذا كنت أختارُ

لا تختشوا بعدها أن تدخلوا سقرا

فليس تُدخل بعد الجنة النارُ

سمّى العرب أسبانيا باسم الأندلس إشارة إلى قبائل الفنداليين الذين مروا وهاجموها في مستهل القرن الخامس للميلاد. وقد تمَّ الفتح العربي عام اثنين وتسعين للهجرة، بقيادة البطل طارق بن زياد واستمر الحكم العربي ثمانية قرون فقد خرج العرب من الأندلس عام ثمانمئة وثمانية وتسعين للهجرة.

وكانت عهود الحكم العربي في الأندلس كما يلي: عهد الولاة والعهد الأموي الذي ازدهر عندما تقلد الحكم عبد الرحمن الثالث الناصر وجعل الأندلس دولة واحدة، فبلغ مجد الأندلس القمة، فأخذت وفود السفراء تأتي من أطراف العالم من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والقسطنطينية إلى بلاط الملك الناصر بعد أن أصبحت قرطبة عاصمة الدنى في العلم، ثم جاء ملوك الطوائف عندما أخذ الضعف يدب في الدولة الأموية الأندلسية، فدولة المرابطين فالموحدين فبني الأحمر وفي عهدهم سقطت غرناطة.

 

أباح لمقلتي..... السهرا

وجار عليّ..... واقتدرا

غزال..... لو جرا نفسي

عليه.... لذاب وانفطر

ولكن عينه.... حشدت

عليّ.... السحر والحورا

ومن أودى به قمر

فكيف.... يعاتب.... القمرا؟

كان شعراء الموشحات الأندلسية يرون الطبيعة بعيون... لها عشق خاص وكأنها خُلقت مهيأة لرؤية السحر الذي لا يُرى إلا بها.

بل الذي لا وجود له.... وأعني السحر في الطبيعة الحية لولا عيون هؤلاء الشعراء..... كما لا وجود له في الجمال لولا عيون العشّاق.

والشعر كما نعلم هو في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها؛ ولهذا تمتاز مخيلة الشاعر الملهم بقدرتها على خلق الألوان النفسية التي تكون كل شيء لإظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفوس.

ولا شك أنَّ كل شئ تعارف عليه الناس في هذه الحياة يعطيهم مادته في هيئته فإذا ما انتهى إلى الشاعر منحهم هذه المادة في صورتها الحقيقة... فكشفت نفسها في شعره البديع بخصائص لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها.

بالشعر الأندلسي تكلمت الطبيعة في النفس، وتكلمت النفس للحقيقة ثم جاءت الحقيقة الخالدة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها، أي في البيان الذي تصنعه النفس الملهمة حين تتلقّى الوحي الأسمى وتعكسه في صناعة نورانية متموجة بالألوان في المعاني والكلمات والأنغام... لن أطيل فأقول بإيجاز.

لو سئل الزمن.... كيف فهم أهله معاني الحياة السامية وكيف رأوها في آثار الألوهية لكان الجواب من معاني النبوّة ومعاني الشعر الرفيع.

قال الشاعر الأندلسي الكبير محمد ابن زهر الإشبيلي (منتصف القرن الخامس للهجرة 595هـ:

أيها الساقي إليك المشتكي            قد دعوناك وإن لم تسمعِ

ونديم همت في غرته

وبشرب الراح من راحته

كلما استيقظ من غفوته

جذب الزقّ إليه واتكا                  وسقاني أربعا في أَرْبَع

ما لِعَيْني عشيت بالنظر

أنكرت بعدك ضوء القمر

فإذا ما شئت فاسمع خبري

عشيت عيناي من طول البكا          وبكى بعضي على بعضي معي

ويقول في خاتمة الموشح:

كبدي حَرّى ودمعي يَكفِ

يعرف الذنب ولا يعترف

أيها المعرض عمن أصف

قد نما حبك عندي وزكا               لا تقل في الحب إني مدّعي

الموشحات الأندلسية أولا وقبل كل شئ هي بحث ثقافي علمي نفيس وهي فن أندلسي خالص تفوّق به أهل الغرب الأندلسيون على أهل المشرق فبدوا فيها كالشمس الطالعة والضياء السنّي.

يقول المؤرخ ابن خلدون: إنَّ أهل الأندلس لما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية ابتكر المتأخرون منهم فناً أسموه (الموشحات).

ولعلّ الموشحات هي أروع ما خلّف الأندلسيون من تراث أدبي ولقد كان مقدم ابن معافي القبري أول من ابتكرها وكان ذلك في القرن الثالث الهجري ومن أشهر شعراء الموشحات بإيجاز عبادة بن ماء السماء، ابن القزاز، ابن اللبان، الأعمى التطيلي، ابن بقي، ابن حزمون، ابن عبد ربه، ابن زهر، ابن عربي، لسان الدين بن الخطيب بن زمرك، والموشحات بإيجاز هي بحور من النغم الرقيق تخلب العقول والألباب ذلكم زبدة الشعر وخلاصة جوهره وصفوته ويَلتزم بالتوشيح قواعد معينة من حيث التّقْفية، وعرّف ابن سناء الملك الموشح بأنه كلام منظوم مخصوص وعرّفه آخر بأنه قصيدة نظمت من أجل الغناء وقال ثالث الموشح فن قائم بذاته.

وقيل في الموشحات أنها تقليد لشعر غنائي أعجمي وهو شعر الطروبيين الذي عرف في جنوب فرنسا، ولكن الأدلة كلها تبرهن على أنه فن عربي أصيل ترجع أصوله إلى الشعر العربي وحده.

وقد اشتُق اسم الموشح من الوشاح بكسر الواو وهو كرسان (قلادة مزودجة) من الجلد يرصع بالجواهر تشده المرأة بين العنق ورأس الكتف.

والموشحات كما يقول مؤرخو الأدب الأندلسي تنقسم إلى قسمين:

الأول ما جاء على أوزان وأشعار العرب

والثاني فيه خروج  عن الأوزان التي اخترعها الخليل ابن أحمد الفراهيدي عام مئة وستين للهجرة، وهو علم العروض الذي استطاع أن يحصر فيه معظم بحور
الشعر ومجازئها.

والثاني فيه تنويع للوزن واختلاف عدد تفعيلات البحر الواحد ويبدو أنَّ مهمة التلحين اقتضت ذلك. وخلاصة القول إنَّ الموشحات تنقسم من حيث الوزن إلى خمسة أقسام:

الأول: ما كان على وزن شعري تقليدي

والثاني: ما أخرجه عن الوزن الخليلي حركة أو كلمة

 والثالث: ما اشترك فيه أكثر من وزن واحد

والرابع: ما له وزن من غير الأوزان الخليلية يدركه السمع 

والخامس: لا يوزن إلا بالتلحين. وذلك بمدِّ حرف أو ادغام حرف في آخر. ولا ننسى أنَّ التلحين كان المقياس لضبط الشعر، وعلى هذا الأساس حسب اعتقادي استطاع الخليل أن يكتشف بحور الشعر.

ومن أروع الموشحات الأندلسية هذه الموشحة لذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب الذي عاش في القرن السابع للهجرة. وفيها يقول:

 

جادك الغيث إذا الغيث هما

 

يا زمان الوصل بالأندلس

 

لم يكن وصلك إلا حلما

 

في الكرى.... أو خلسة المختلس

 

إذ يقود الدهر أشتات المنى

 

ننقل الخطو على ما ترسم

 

زمرا بين فرادي وثنا

 

مثلما يدعو الحجيج الموسم

 

والحيا قد جلل الروض سنا

 

فثغور الزهر فيه تبسم

 

وروى النعمان عن ماء السما

 

كيف يروي مالك عن أنس

 

فكساه الحسن ثوبا معلما

 

يزدهي فيه بأبهى ملبس

 

يا أهيل الحي من وادي الغضا

 

وبقلبي منزل أنتم به

 

ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا

 

لا أبالي شرقه من غربه

 

فأعيدوا عهد أنس قد مضى

 

تعتقوا عبدكم من كربه

 

واتقوا الله واحيوا مغرما

 

يتلاشى نفَساً في نفس

 

حبس القلب عليكم كرما

 

افترضون عفاء الحبس

 

يا شقيق الروح من جسدي

 

أهوى بي منك أم لَمَمُ

 

ضعت بين العذر والعذل

 

 

وأنا وحدي.... على.... خبلِ

 

 

ما أرى قلبي بمحتمل

 

 

أيها الظبي الذي شردا

 

تركتني مقلتاك سدى

 

زعموا أني أراك غدا

 

 

وأظن الموت دون غد

 

 

أين مني اليوم ما زعموا

 

 

أدن شيئا أيها القمر

 

كاد يمحو نورك الخفر

 

أدلال ذاك أم حذرُ

 

 

وهذا موشح آخر لابن زهر الأندلسي الذي عاش في القرن الخامس:

 

سلم الأمر للقضا

 

فهو للنفس أنفع

 

واغتنم حين أقبلا.....

 

 

وجه بدر تهللا

 

 

لا تقل بالهموم لا.....

 

 

كل ما فات وانقضى

 

ليس بالحزن يرجع

 

أنا أفديه من رشا

 

 

أهيف القد والحشا

 

 

سقي الحسن فانتشى

 

 

مذ تولّى وأعرضا

 

ففؤادي يُقطّعُ

 

ما ترى حين أظعنا

 

 

وسرى الركب موهنا

 

 

واكتسى الليل بالسنا

 

 

نورهم ذا الذي أضا

 

أم مع الركب يوشعُ

 

وقال الشاعر الأندلسي الفذ محمد بن باجه (عام خمسمئة للهجرة)

 

خضّب الزند منك باللهبِ

 

 

من لجين قد حُف بالذهبِ

 

 

تحت سلك كجوهر الحَبَبِ

 

 

مع أحوى وأعذب الشُنَبِ

 

 

أودعت كفه من السحر

 

 

جامد الماء وذائب التبر.

 

 

هاك نور الصباح.... قد لاحا

 

 

ونسيم الرياض... قد فاحا

 

 

فتأهَبّ... وشرّف الساحا

 

 

لا تقد في الظلام مصباحا

 

 

حين تنهلّ أدمع القطْر

 

 

فعلى الروض ناسم عطري

 

 

قال شيخ الوشَّاحين الأندلسيين عبادة بن ماء السماء (القرن الرابع الهجري):

 

من وَلِيْ في أمة أمرا..... ولم يعدل

 

 

يُعزَلِ إلا لِحاظ الرشا الأكحل

 

 

جرت في حكمك في قتلي يا مسرفُ

 

 

فانصف فواجب أن ينصف المنصف

 

 

وارأف فإن هذا الشوق لا يرأف

 

 

كيف لي تخلص من سهمك المرسلِ

 

 

فَصِل واستبقني حيا ولا تقتل

 

 

يا سني الشمس ويا أبهى من الكواكب

 

 

يا منى النفس ويا سؤلي ويا مطلبي

 

 

ها أنا حلّ بأعدائك ما حل بي

 

 

وقال الشاعر البارع محمد بن اللبان:

 

في نرجس الأحداق
 

وسوسن الأجياد

 

نَبْتُ الهوى مغروس

 

بين القنا الميّاد

 

وفي نقا الكافور

 

والمندل الرطبِ

 

والهودج المزرور

 

بالوشي والعصب

 

نادى بها المهجور

 

من شدة الحب

 

كواعب أتراب

 

تشابهت قدا

 

عضّت على العُناب

 

بالبرد الأندى

 

أوصت بي الأوصاب

 

وأثمرت وَجْدا

 

وأكثر الأحباب

 

أعدى من الأعدا

 

تفْتَرّ عن أعلاق

 

 

لآلئ أفرادْ

 

فيه اللمى محروس

 

بالْسُن الأغماد

 

لقد سبق أن قلنا إن الموشحات فن أنيق من فنون الشعر العربي اتخذ قوالب شعرية خاصة في نطاق تعدد الأوزان الشعرية وعندما ازدهرت استوعبت كل موضوعات الشعر وأغراضه واتخذ الموشح من حيث بناؤه شكلا مقننا وأصبح يشتمل على أجزاء بعينها في مجال مسميات اصطلح المشتغلون بفن التوشيح عليها: وهي،،،

·  المطلع أو المذهب

·  الدور

·  السمط

·  القُفل

·  البيت

·  الغصن

·  الخرجه

وسأوضح بإيجاز هذه الأجزاء من خلال هذا الموشح:

يقول الشاعر الأندلسي:

 

النهر سلَّ حساما

 

على قدود الغصونِ

 

وللنسيم مجالُ

 

 

والروض فيه اختيالُ

 

 

مدت عليه ظلال

 

 

والزهر شقّ كماما

 

وجدا بتلك اللحونِ

 

أما ترى الطير صاحا

 

 

والصبح في الأفق لاحا

 

 

والزهر في الروض فاحا

 

 

والبرق ساق الغماما

 

تبكي بدمع هتونِ

 

المطلع أو المذهب يطلق على مطلع الموشح النهر، سل حساما ويتكوّن من شطرين أو أكثر وهنا يتكون من قسمين أو غصنين.

أما الدور فمجموعة الأبيات التي تلي المطلع، وتتكون من مجموعة من الأقسمة:

 

وللنسيم مجالُ

 

 

والروض فيه اختيال

 

 

مُدَّتْ عليه ظلالُ

 

 

أما السمط فهو كل شطر من أشطر الدور....

والقفل يلي الدور مباشرة كقول الشاعر:

 

والزهر شق كماما

 

وجدا بتلك اللحون

 

ونأتي إلى البيت ويتكون من الدور وهو مجموعة الأشطر الثلاثة يضاف
إليه القفل.

والخرجة هي آخر قفل في الموشح وهي هنا:

 

والبرق ساق الغماما

 

تبكي بدمع هتون

 

والآن مع نماذج من الموشحات في الغزل والطبيعة والمدح وغير ذلك، قال أحد شيوخ صناعة الموشحات الأندلسية وهو أبو بكر بن زهر في الغزل، وهو الروض الفينان الذي بدأ فن الموشحات في ظلاله:

 

حيّ الوجوه الملاحا

 

وحيّ نجل العيونِ

 

هل في الهوى من جُناحِ

 

 

أو في نديم وراح

 

 

رام النّصيحُ صلاحي

 

 

وكيف أرجو صلاحا

 

بين الهوى والفتون

 

أبكى العيون البواكي

 

 

تذكار أخت السماك

 

 

حتى حمام الأراك

 

 

بكى شجوني وناحا

 

على فروع الغصون

 

يا غائبا لا يغيبُ

 

 

أنت البعيد القريب

 

 

كم تشتكيكَ القلوب

 

 

اثخنتهن جراحا

 

فاترك سهام الجفون

 

ومن أشهر الوشاحين في الغزل الأعمى التطيلي الذي قال:

 

آه مما أجد

 

شفّني ما أجدْ

 

قام بي وقعد

 

باطش متئد

 

كلما قلت قد

 

قال لي أين قد

 

وانثنى حوط بان

 

ذا مهزٍ نضر

 

عابثته يدان

 

للصبا والقَطْر

 

وهكذا انطلق شعراء الموشحات في الغزل يسحرون الناس بشعرهم الذي صاغوه من رقيق المعاني وبديع الصور وحشد هائل من الألفاظ التي تجسد الرواء والجمال والتحليق في سماء الخيال والغوص إلى لُبّ المعاني كقول إبراهيم بن سهل:

 

هل درى ظبي الحمى أن قد حمى

 

قلب صب حلّه عن مكنسِ

 

فهو في حرّ وخفق مثلما

 

لعبت ريح الصبا بالقبس

 

كلما أشكو إليه حرقي

 

غادرتني مقلتاه دنفا

 

تركت الحاظه من رمقي

 

أثر النمل على صم الصفا

 

وأنا أشكره فيما بقي

 

لست الحاه على ما اتلفا

 

فهو عندي عادل أن ظلما

 

وعذولي نطقه كالخرس

 

ليس لي في الحب حكيم بعدما

 

حل من نفسي محل النَفَسِ

 

ومن أشهر شعراء الموشحات الأندلسية يحيى بن بقي الذي تميز بالشعر الرقيق والعذوبة الرائعة وقد عاش في القرن الخامس الهجري:

 

أدرْ لنا أكواب

 

يُنسى بها الوجدُ

 

واستصحب الجلاس

 

كما اقتضى العهد

 

دن بالهوى شرعا ما عشت يا صاح

 

ونزّه السمعا

 

عن منطق اللاحي

 

والحكم أن يدعى

 

إليك بالراح

 

غزالنا قد تاب

 

غنّوا له واشدوا

 

فاعرض عليه السحر

 

عساه يرتدُ

 

وأشهر موشحةٍ قيلت في الغزل وترددت على مدى قرون هي التي سبق أن أشرت إليها ومطلعها معروف «أيها الساقي إليك المشتكى» لابن زهر.

لا نأتي بجديد إذا قلنا أنَّ الأندلس بلاد الطبيعة الخلابة الأنيقة والفتنة الساحرة والروعة الأخاذة.

فلا عجب إذا خلّد شعراء الأندلس جمالها، لهذا لم يتركوا مكاناً في رياضها إلا وتفنّنوا في وصفه فنظموا أبدع القريض في الأزاهير والأنهار والطيور والأشجار والغابات والجداول والشذى والأرج والصبا.

ومن الموشحات الجميلة في وصف الطبيعة موشحة الطبيب الشاعر يوسف بن عتبه الذي قال في الروض:

 

الروض في حلل

 

خضر عروسْ

 

والليل قد أشرقت

 

فيه الشموس

 

وليس إلا غصون سحر تميس

 

يفتر ثغر الكمام

 

عن باكيات الغمام

 

حيث الغصون تميل

 

سحرا مع الأنسام

 

أما موشحات المديح فيأتي في مطلعها موشح الشاعر الأكبر لسان الدين بن الخطيب في مدح ملك غرناطة محمد الغني وقد جاء فيها

 

مصطفى الله سمى المصطفى

 

الغني بالله عن كل أحدْ

 

من إذا ما عقد العهد وفى

 

وإذا ما عَبَسَ الخطب عقد

 

من بني قبس ابن سعد وكفى

 

حيث بيت النصر مرفوع العمد

 

حيث بيت النصر محميّ الحمى

 

وجنى الفضل زكيُّ المغرس

 

والهوى ظل ظليل ضمنا

 

والندي هب إلى المغترس

 

هاكها يا باسط أنصار العُلى

 

والذي إن عثر الدهر أقال

 

غادة ألبسها الحسن مُلا

 

تبهر العين جلاء وصقال

 

عارضت لفظاً ومعنى وحلى

 

قول من أنطقه الحب فعَال

 

هل درى ظبي الحمى إن قد حمى

 

قلب صبٍّ حله عن مكنس

 

وأسهم التوشيح كما أسلفنا في جميع فنون الشعر بما في ذلك التصوف، كقول الشاعر الكبير محي الدين بن عربي:

 

دخلت في بستان

 

الأنس والقرب كمكنسه

 

فقال لي الريحان

 

يختال في العجب في سندسه

 

أنا هو الإنسان

 

مطيب الصب في مجلسه

 

جنّان يا جنّان

 

اجن من البستان الياسمين

 

وحلل الريحان

 

بحرمة الرحمان للعاشقين

 

 

وهذا مقطع من موشحة ابن سهيل الأشبيلي المشهورة هل درى يقول فيه:

يا بدوراً أطلعت يوم النوى

غررا تسلك في نهج الغرر

ما لقلبي في الهوى ذنب سوى

منكم الحسن ومن عيني النظر

اجتني الأوهام مكلوم الجوى

والتذاذي من حبيبي بالفكر

كلما أشكوه وجدي بسما

كالربى بالعارض المنبجس

إذ يقيم القطر فيها مأتما

وهي من بهجتها في عرس

والآن مع مقاطع من موشحة ابن زمرك الشاعر الأندلسي الملهم:

 

بالله يا قامة المهيب

 

ومخجل الشمس والقمرْ

 

مَنْ ملّك الحسن في القلوب

 

وأيّد اللحظ بالحور

 

عجبت من قلبي المعنّى

 

يهفو إذا هبت الرياح

 

لو كان للصبِّ ما تمنى

 

لطار شوقا بلا جناح

 

وبلبل الروض إذا تغنى

 

أسهر ليلي إلى الصباح

 

عساك إن زرت يا طبيبي بالطيف في موعد السحر

               أن تجعل النوم من نصيبي والعين تحمي من السهر

 

لم يبقَ فيّ اصطبارُ

 

قد خلفوني وساروا

 

وللحبيب أشاروا

 

جار الكرام.. فجاروا

 

للـه ذاك الأوار

 

بانوا.... فما الدار دارُ

 

يا بدر أهلك جاروا

 

وعلموك التجنّي

 

كانوا من الود أهلي

 

ما عاملوني بعدل

 

أصموا فؤادي بِنَبْل

 

وضيّعوا لي عقلي

 

يا روح قلبي قل لي

 

أهم دعوك لقتلي

 

وحرموا لك وصلي

 

وحللوا لك قتلي

 

وهذه موشحة ابن سناء الملك...

كلّلي يا سحب تيجان الربى بالحلي

واجعلي... سوارها منعطف الجدول

يا سما... فيك وفي الأرض نجوم وما

كلما... أغربت نجما أطلعت أنجما

وهي ما... تهطل إلا بالشذا والدمى

من ظلم في دولة الحسن إذا ما حكم

فالألم... يجول في باطنه والندم

والقلم.... يكتب فيه عن لسان الأمم

من ولى في دولة الحسن ولم يعدل

يعزل إلا لحاظ الرشا الأكحل

وقال شهاب الدين العزازي:

واجن من السحر ثمار المنى

وواصل اليوم بما أمكنا

مع طيب الرفقة حلو الجنى

ذي مقلة أفتك من ذي الفقار

ذات احورار

منصورة الأجفان بالانكسار

قام وقد ألغى عقود الجفا

يختال في ثوب الرضى والوفا

فقلت والفكر به قد صفا

يا ساعة أنعم فيها وزار... شمس النهار

حييت من دون السويعات القصار

يا زهرة الأنس                روض المنى منك جديب

لولاك لم أمس                 في الأهل والدار غريب

رضاك للنفس                  منك الصبا بعد المشيب

والأمن للوسنان               واليسر بعد المعسر

وجنة الرضوان               بعد العذاب الأكبر

هل تستعاد أيامنا بالخليج وليالينا

إذ يستعاد من النسيم الأريج مسك دارينا

وإذ يكاد حسن المكان البهيج أن يحيينا

نهر أظله دوح عليه أنيق مورق فينان

والماء يجري وعائم غريق من جني الريحان

وقال الشاعر الوزير أحمد بن سعيد في موشحةٍ رقيقة يصف الطبيعة:

ذهبّت شمس الأصيل         فضــــــة الــــــنهر

أي نهر كالمدامة صيّر الظل فدامه نسجته الريح لامه

فهو كالعَضْبِ الصقيل حُفَّ بالشَّفَرِ

مضحكاً ثغر الكمام مبكيا جفن الغمام منطقا ورق الحمام

فلهذا بالقبول خط كالسطر

قال يحيى بن بقي وهو أبرع الوشاحين الأندلسيين عاش في القرن
الخامس للهجرة:

عبث الشوق بقلبي فاشتكى الم الوجد فلبت ادمعي

أيها الناس فؤادي شغف

وهو من نار الهوى لا ينصف

كم أداريه ودمعي يكف

أيها الشادن من علّمكا                 بسهام اللحظ قتل السبع

بدرتم تحت ليل أغطش

طالع في غصن بان منتشي

اهيف القد بخير ارقشي

ساحر الطرف وكم ذا فتكا             بقلوب الأسد بين الأضلع

ذاب قلبي في هوى ظبي غرير

وجهه في الدّجى بدر مستنير

وفؤادي بين كفيه أسير

إن من رام جناه هلكا                   فَأَزِل عنك سجايا الطمع

 

بقى أن نقول لقد أثبتت الموشحات الأندلسية وجودها كفن رائع خالد، ولاقت لدى ظهورها انتشارا عظيما لاعتمادها على الغنا ورشاقة بحورها وملاءمتها للنفوس.

فمثّلت العصر الذي نشأت فيه والدنى التي ترعرعت تحت سمائها، وهي أرض الأندلس الفاتنة الشذية، مثلما مثلت ازدهار الشعر العربي في هاتيك الحقب صفاء خيال وعمق معنى وجمال لفظ وقوة أسلوب وروعة رواء وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عظمة اللغة العربية وعبقريتها التي تتألق إزاء مواهب الشعراء المبدعين أصحاب الثقافة اللغوية المتينة فهم الذين ينهضون بفن القريض مستثمرين خصائصه الموسيقية وإمكانية حرية الوزن وتعدد القافية دون أن يفقدوه ميزاته العريقة الأصلية.

لهذا... كانت الموشحات الأندلسية فتحاً جديداً في الأدب العربي الأندلسي غذّى الفكر والذهن بما أسبغه من عاطفة وخيال وما أثارته موسيقاه من
نشوة سماوية.

ونختتم بحثنا بهذه الأبيات لشاعر الأندلس الأكبر ابن خفاجة حيث يقول:

 

إنَّ للجنّة في الأندلس

 

مجتلي حسن ورّيا نَفَسِ

 

فسنا أصباحها من شنب

 

ودجى ليلتها من لعسِ

 

فإذا ما هبت الريح صبا

 

صحت... واشوقي إلى الأندلس

 

Back