الفصل الخامس
سليمان المشيني ناثراً
أدب المقالة
المقالة فن أدبي حديث العهد لم يعرف إلا عن طريق الصحافة، لأنه بطبيعته عمل مكتوب للنشر في حيز معين منتظم، وإذا كنا نستطيع أن نعتبر القصة عملاً أدبياً وجد مجالاً للنشر في الصحافة، فنستطيع أن نعتبر المقالة عملاً صحفي النشأة وجد فيه الأدباء قالباً رحباً للكتابة (1). وأدب المقالة الصحفية هي ما يقابل فن تحرير المقال الصحفي، وقد حددت الصحافة طريقاً يسلكه أدباء المقالة في العصر الحديث، والمقالة الصحفية بهذا المعنى ليست أكثر من فكرة يتصيدها الكاتب الصحفي أو يتلقفها من البيئة المحيطة به، ومتى انفعل الكاتب الصحفي بفكرة ما أحس في نفسه حاجة ملحة إلى الكتابة ليعبر عن إحساسه ومشاعره تجاه هذه القضية العامة أو القضية الخاصة ذات الطابع العام.. وهنا يلتقي الكاتب الصحفي بالأديب... حيث يعبر كلاهما عن تجاربه وملاحظاته، والرواسب التي تتركها انعاكاسات الحياة. وتمتاز بروعة المفاجأة وتوقد الذكاء، ولا تخلو من السخرية الناعمة أو الحادة، تبعا لاتجاه الكاتب وألوان شخصيته...(2).
جاء في «الموجز الحديث للأدب الإنجليزي»: أنَّ المقالة تأليف غير مطرد يتعلق بموضوع خاص دائما أقصر من الرسالة الأدبية، أو هي بحث قصير.. ([1])، وقد حدد الدكتور زكي نجيب محمود شروط هذا النوع من المقالة واتجاه الكتّاب فيها بقوله: «شروط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع منها لون باهت من التفكه الجميل»([2]).
وعلى هذا فإنَّ هناك نوعين من العمل الأدبي نطلق عليهما لفظ «المقالة» وهما يتشابهان في الظاهر ويتصلان في بعض المواقع، فإحداهما انفعالية والأخرى تقريرية... والخاطرة في النثر تقابل القصيدة الغنائية في الشعر، وتؤدي وظيفتها في عرض التجارب الشعورية التي تناسبها، وتمتزج مع المقالة والرسالة الأدبية إلى حد يصعب التفريق بينهما أحيانا، حيث ينساب الكاتب مع أحاسيسه، وقلما توجد الفكرة الواعية سلفاً قبل أن تجول في نفسه خواطر مبهمة، وأحاسيس منسابة.. كل هذه السمات يمكن أن تنطبق على الخاطرة في عالم النثر، وكثيراً ما يوجد لون من الإيقاع فيها يقابل الوزن في الشعر، ونوع من التوافق في المقاطع يقابل القافية في طبيعة التجارب التي تعالجها لا تستغني عن قسط قوي من الإيقاع. في حين أن المقالة فكرة قبل كل شئ، فكرة واعية، وموضوع معين، يحتوي قضية يراد بحثها، قضية تجمع عناصرها وترتب بحيث تؤدي إلى نتيجة وغاية مرسومة من أول الأمر، على الرغم من لحمة هذه الفنون كما أشرت آنفا.. ([3]).
لقد غدت المقالة عنصراً رئيسياً ولوناً مميزاً في الأدب الحديث، وعن طريقها نال عدد كبير من أدباء الأردن شهرة واسعة دون أن يكون لأي منهم كتاب مطبوع بعد. وقامت شهرتهم على صلتهم الوطيدة بالقراء عن طريق الصحافة، وظل الأدب الأردني فترة طويلة من حياته أدب مقالة أكثر من أدب كتاب. ذلك لأن مجال المقالة واسع في الصحافة اليومية والدورية... ولهذا كان أدب المقالة أوسع ألوان الأدب انتشارا في العالم كله([4]). وقد أصبح البحث في فن المقالة اليوم لا يدخل في نطاق دراسة النثر الفني، بل أصبحت قواعده وشروطه أدخل في قواعد المباحث العلمية..([5]).
إنَّ مقالات الأستاذ المشيني تجاوزت الألف مقالة، وقد رصدنا منها جانباً يسيراً، كما قدّم في الإذاعة الأردنية خمسين مسلسلاً وكل مسلسل يقع في ثلاثين حلقة، كما قدّم ألف حلقة من برنامج «صبا من الأندلس»، بدأت عام 1980م، وأنهت الإذاعة البرنامج ولديها ثلاثون وإذا رصدت هذه المادة وجدتها اثنتي عشر ألف صفحة، وللأسف فإنَّ هذا الأدب الإذاعي مفقود، ولم يوثق حق التوثيق ويتساءل الباحث: أين أدب هؤلاء الرواد على مدار خمسين عاماً؟ ومنهم صاحبنا الأستاذ المشيني الذي يتربع على رأس هؤلاء، فثمة فرق بين من يقود الإذاعة أو التلفاز كواجب أو وظيفة رسمية، وبين من يدير الإذاعة أو التلفاز بإبداع وتمّيز وانتماء أصيل.. كيف لا وهو أديب وكاتب وشاعر وروائي ومسرحي وقاص قبل أن يكون مديراً أو صاحب وظيفة؟!
كما قدّم المشيني ما يربو على ألفي حلقة خلال عشر سنوات للجيش العربي/ مديرية التوجيه المعنوي، عدا عن مئات البرامج والحلقات الدرامية، و«مرحباً يا صباح»، و«عبقريات عربية»، و«شعر وموسيقى»، و«شموع مضيئة»، و«نافذة على الأدب العالمي»، وغير ذلك من البرامج الثقافية والأدبية والدرامية المتنوعة.
* * *
مع كتاب العبقريات([6])
ترجم سليمان المشيني في هذا الكتاب لاثنين وعشرين من الأدباء القدامى والمحدثين، بدءاً بالجاجظ ومروراً بجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمود سامي البارودي، وانتهاء ببشارة الخوري، وقد طبع الكتاب بعنوان مع العبقريات، وكانت هذه الترجمات قد قدّمت في برنامج إذاعي متعدد الحلقات سنة 1965، بدا فيها طابع الكتابة الإذاعية والمشاهد التمثيلية، وقد عاد المشيني لأكثر من مائة كتاب ومرجع لإعداد هذه المادة، ولكن تظل بعض الأسئلة تلح في هذا الإطار: هل أضاف المشيني جديداً لما كتب عن هؤلاء الأعلام؟ وهل كانت له طريقته الخاصة أو أسلوبه الجديد في الطرح؟ ولماذا وقع اختياره على هؤلاء؟.
يتناول المشيني في ترجماته بعض جوانب من الشخصيات بما يشعر القارئ أنه ملم إلماماً واسعاً بكل جوانب الشخصية المترجم لها، ويحسن فهمها، ويكشف أبعادها، ويقدمها بأسلوب أدبي جميل.
يقول عن ابن المقفع:
«إنّ ابن المقفع في الحقيقة رجل مثل طور الانتقال أصدق تمثيل، فكان صوت الثقافة القديمة في اختلاف شعابها... كان رجل العقل الذي يعصر الثقافات عصراً، ويستخلص منها زبدة الدهور حِكَما وتخطيطات مسلكية، راميا إلى تقويم اللسان والفكر بالمنطق الأرسطوطاليسي، وإلى تقويم السياسة بالتاريخ الفارسي، وإلى تقويم الحياة الاجتماعية والفردية بالحكمة الهندية.
كان ابن المقفع رجلاً من أغنى الرجال طبيعة، فقد جادت عليه السماء بكل ما يصبو إليه الإنسان من ذكاء ونشاط، وراح يبني شخصيته بالثقافة والكسب، فعمد إلى تاريخ الفرس يعبّ منه نماذج المجد، وعمد إلى فلسفة اليونان يسير عقله ولسانه على مقاييس منطقها، كما عمد إلى حكمة الهند يغذي قلبه ونفسه من ثمارها اليانعة».
اختار المشيني مجموعة من القدماء لما يملكونه من فكر حر، ورأي موضوعي، ونزوع للإصلاح، وأدب جميل، وهو يتمثل الشخصية التي يريد الكتابة عنها بعد أن يقرأ حولها كثيراً، ثم يضع خلاصة ما خرج به أو استنتجه، بأسلوبه الجميل، ولغته العذبة، وبطريقته الخاصة في الترجمة التي يمزج فيها أحياناً بين السرد والوصف والحوار والمشاهد التمثيلية، مركزاً على جوانب يراها أهم ما في شخصية المترجم له، فإذا بما كتبه يخرج مختلفاً عن كل ما كتب عن الشخصية من قبل، فيه شخصية المشيني وذوقه وبصمته وروحه، وتحس بعذوبته وجدته وسحره، وهو في كل ما يكتب يكون العقل رائده، والموضوعية ديدنه، والحرية مبتغاه..
ويقول في ترجمته للكواكبي:
«حمل مشعل الإصلاح والحرية بيد لا تكل ولا تهون، وكان سيفاً مشهوراً على أعداء الحرية والأمة العربية.
هذا هو الكواكبي، الكاتب المفكر، والزعيم المصلح، والاجتماعي العالم، والسياسي الفذ، والمفكر الحر، ورجل الدين العالم، والوطني المؤمن، والعبقري النابغة... نقد كل ما كان في مجتمعه الفاسد، ولم يغفل عن حال المرأة في عصره، فهي نصف البشر وموضع رفعة الرجل، أو انحطاطه، لذلك رأى لها من الحقوق ما لا يرى أعمق أدعياء التقدّم المصلحين اليوم، ولهذا يعتبر رجلاً عظيماً من رجال الإصلاح الإسلامي، وعالما من علماء العمران، وحكيماً من حكماء الاجتماع البشري».
اختار المشيني عدداً من الشعراء المحدثين وتحدث عن تجاربهم وأدوراهم وقيمتهم، كما اختار عدداً من الأدباء والمفكرين والمصلحين، كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وأمين الريحاني ومي زيادة... متحدثاً عن أدوارهم في الحرية ونشر العلم والتفكير العقلي ومحاربة الاستبداد والتأخر... وكان في كل ما اختار يرمي إلى تحقيق هدف نبيل لأبناء أمته، وإلى خدمة اللغة العربية.. يقول عن إبراهيم اليازجي: «إن فضله على اللغة العربية جمّ، وعلى بعث النهضة الفكرية عميم، وعلى إحياء القومية العربية في صميم الأفئدة عظيم، وهو صاحب رسالة آمن بها، فوهب لها حياته بصدق وأمانة وإخلاص، حريصاً على أن يعيش عيش الكفاف، ضارباً كشحاً عن زخرف الدنيا والمصانعة، حريصاً على إنجاز تلك الرسالة التي كان لها أكبر الأثر في نهضتنا الفكرية هذه، إذ رفع قدر اللغة بعد انحطاط بإنشاء لبق لا تعتوره ركاكة، ولا يتخلله تعقيد، فكان في طليعة الذين أسسوا النهضة ومشوا بها إلى الإمام».
لم يفارق المشيني في كل ما كتب حسّه النقدي وذوقه الأدبي، فقد وقف وقفات نقدية نافذة في حديثه عن بعض الأدباء والشعراء تنمّ عن فهم عميق لماهية الأدب وقيمته وأسسه ودوره... في حديثه عن القصة عند بديع الزمان الهمذاني يطرح سؤالا: هل المقامة قصة؟ ويجيب: نعم هي قصة والفرق بينهما وبين قصص اليوم كالفرق بين هندامك أنت وهندام جدّك.. وفي حديثه عن ابن زيدون يقول:
«لا نبالغ إذا قلنا إن ابن زيدون أعظم شاعر وجداني ظهر في الأندلس، فهو أستاذ هذا الفن، وهو أول من اعتصر فؤاده شعراً عذباً فيه هوى ولوعة وحنين، وقد استخرج من اللغة كل ممتلكاتها ليشدو ألحانه المشجية، ويتميز هذا الشاعر الملهم بملكة التعبير الأدبي والإبداع الفني.. أما شعره ففيه جمال الديباجة ورونق الأسلوب، وصفاء الأنغام وسلاستها، وفيه أيضاً تجربة نفسية كاملة، فهو يعطينا نفسه من خلال الطبيعة التي يصفها، يعطينا ألمه وحزنه، واضطرابه وحنينه في صورة شعرية رائعة تنبض بالحياة».
ويقول عن حافظ إبراهيم:
«كان شعره لا يمله القلب، فإن روحه الحلوة تنساب فيه فقد كان ينظم بقلبه لا بخياله، لذا كانت لا تمل قراءة شعره الأذهان، ففي شعره جاذبية غير واضحة ولا مفهومة يحسها القلب وحده، وقد ينكرها الذوق الفني»
ويقول عن أحمد شوقي: «وشوقي كان بعيد الرمية في التصوير عندما يصف كامل الصورة، عندما يبرز اللوحة الفنية من الغرض الموصوف، ولعله ثاني اثنين من الشعراء، ابن الرومي وهو، وكما برز شوقي في الوصف برز في الرثاء فكان يتعرض في مراثيه إلى كل سبل الموت يخترقها منقباً متأملاً، فإذا ظفر بها سلك فجاجها،
ونشر أسرارها».ويقول عن خليل مطران:
«شاعر ا لعصر العبقري الذي يمثل مذهباً جديداً في الشعر العربي، إذ نقله من الإطار القديم في المعاني والأسلوب إلى الإطار الجديد في الأفكار والصياغة.. في شعره خطوات جريئة في تجديد الشعر العربي الحديث، وأشتات رائعة من المعاني والأفكار في غناء بالطبيعة ساحر، ومعان سامية في الحب والزهرة والريف، ومواطن فاتنة في دقة الوصف وسمو التعبير، وإلى جانب هذا رنّة أسى كالتي تسيطر على شعر الرومانسيين فتضفي عليه سحراً وجلالاً، وينطق هذا الشعر بوجدانية مسرفة وعواطف ملتهبة..
إن مطران شاعر مطبوع مكنته ثقافته الواسعة من الوصول إلى حقائق المعاني وجذور الأفكار فابتكر وأنتج، وقد امتزجت الفكرة الفلسفية عنده بالانطباع الشاعري فوفق إلى أن يجمع بين الفلسفة والشعر جمعاً أحال الفلسفة شعراً، والشعر فناً يستهوي النفوس.
ويقول عن بشارة الخوري: «إنه واحد من شعراء الجيل فقد جمع في شعره المدرستين التقليدية والتجديدية فحفلت قصائده برنين اللفظ والميل إلى التقريرية، طابع المدرسة الأولى، وبالموسيقى الداخلية والصور الحركية، ملامح المدرسة الثانية.
يتميز شعر الأخطل الصغير بوحدة القصيدة، والوجدانية الخالصة، والاندماج في الطبيعة، والشعور بالألم، ويعدّ من أكثر شعراء الحب ثروة، ومن أرفعهم ذروة، ومن أوفرهم تفنناً، وأوصفهم لشجون الفؤاد ومطارح الهوى والصبابة.»
فهذه الآراء تنمّ عن ناقد حصيف منفتح العقل يفهم الشعر ويدرك أبعاده وأسسه، ويعي علاقته بالعصر والبيئة والظروف ونفسية الشاعر.
انطلق المشيني من نقطة حب أمته ووطنه، إلى حب لغته وخدمتها والارتقاء بها، لذا لا أغالي إذا قلت إن ما قدّمه المشيني في أحاديثه وبرامجه، كان حجارة بناء قوية في أساس وبنيان أمته فكراً وأدباً وثقافة ولغة، وهذا ما يجعلنا نكبر في هذا الرجل حماسته وغيرته على لغته وأمته ووطنه،ونغبطه على قدرته وطاقته الخلاقة في ميادين الأدب والفكر والشعر والنقد، على الرغم من كل المثبطات والمعيقات([7]).
لقد تنوعت المقالات التي خطّها يراع الأستاذ سليمان المشيني، فمن المقالة الأدبية الخالصة، إلى المقالة الاجتماعية، إلى المقالة السياسية... ونفخر في هذه الدراسة بأنّ سلسلة المقالات التالية تجمع لأول مرة، وتُظهِر تميز أديبنا بنثره الفني، كما تمّيز بشعره وأناشيده وأهازيجه، ولتبدي للدارس تلك اللغة الماتعة الرائقة، وتلك الألفاظ العذبة في انسيابها وكأنها النبع الرقراق.. ولعلَّ في جمع هذه المختارات من أدب المشيني ما يضيف إلى سلسلة إبداعاته ولتعكس وجهاً من وجوه حياته الأدبية. وفي جانبٍ آخر اهتمَّ سليمان المشيني بحيوات الشعراء والأدباء وكبار الكتّاب، فهو يكتب دراسة مميّزة عن الشاعر إبراهيم طوقان([8])، وهو يكتب دراسة أخرى عن الشاعر الكبير حسني زيد الكيلاني نثبتها ضمن هذه المختارات - ولابدّ من الإشارة إلى كتاب الأستاذ سليمان المشيني الموسوم بـ«شموس لا تغيب» وهي سلسلة مقالات عرضت لكبار أعلام الأدب والفكر نشره ليستفيد منه الدارسون وطلبة الجامعات، ومن هؤلاء الأعلام الذين تناولهم المشيني:
الجاحظ، وابن المقفع، وابن قتيبة، وأبو الفرج الأصفهاني، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو حيان التوحيدي، وابن سينا، وابن رشد، وابن زيدون من القدماء.
ومن المحدثين تناول المشيني: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وعبد الرحمن الكواكبي، وأحمد شوقي، وخليل مطران، وجبران، وأمين الريحاني، ومي زيادة وغيرهم.
إنَّ الدنيا عند سليمان المشيني ذوق، والحياة فن رفيع، وهو ينحني إجلالاً للرعيل الأول، وهو يستذكر حقوق الإنسان ويدعو إلى العمل وبناء نهضة الوطن،... وهو يستذكر عيد الأم.. ويبرز رسالة الإعلام العربي، ويتحدث عن معركة عين جالوت، ومعركة عمورية،.. وينظر إلى الحياة برومانسية محلّقة... إلخ... وهذه دعوة إلى الذي يقرأ هذه المقالات، ليسرح بعيداً بعيداً في عوالم الشاعر والروائي والقاص والناثر والإعلامي سليمان المشيني.
كما اطلع الباحث على مخطوط كبير للأستاذ المشيني بعنوان «نافذة على الأدب العالمي»([9]) وممن عرض لهم في دراسات شمولية واسعة أذكر: ادغار الن بو شاعر وروائي صنعه الألم، وليوناردو دافنشي رائد العصر الحديث، ولود فيغ فان بتهوفن، و«ابسن في ذكراه الثمانين»، و«برتراند رسل في غمرة الحديث عن السلام العالمي»، و«البير كامو بمناسبة مرور ستين عاماً على ميلاده»، وشاعر الإنجليز الكبير «شكسبير»، وغيرها كثير([10]) وهو يرى أنَّ الإخراج ليس مهنة فحسب وإنما هي رسالة مثلى يؤدي المخرج من خلالها خدمة جُلّى لأمته ووطنه وللتراث العالمي العظيم. مما يشير إلى موسوعية الثقافة عند شاعرنا وأديبنا سليمان المشيني، وأحسب أنه بإزاء هذا هو بحاجة إلى مزيد من الدرس والتحليل، وتناول شتى مناحي إبداعه، وما هذه الدراسة إلا مساهمة متواضعة في بداية الطريق، أرجو أن تتبعها خطوات وخطوات.
وهذه طائفة مختارة من مقالات المشيني التي تنوعت بين الأدب والفكر والثقافة والاجتماع والوطن، والدراسة الأدبية والنقدية.
الدنيا ذوق
الذي تتاح له فرصة زيارة البلدان الراقية، يلمس بصمات الذوق الرفيع في كل مكان، ويطالعها في النظام الذي يسود الحياة هناك فليس ثمة من يختلس مكانه في السيارة والقطار والمترو أو أي وسيلة من وسائل النقل، أو يزاحمه على دوره في البنك والسينما والمطعم والمتجر، وليس هناك من يحاول المسّ بكرامته أو يمنحه موعداً ولا يجيء في الوقت المحدد، أو يتصرف تصرفاً شاذاً يسبب له أي مضايقات كرفع صوته أو الحديث على الهاتف بصوف مرتفع أو فتح جهاز الراديو على أعلى مستوى للتشويش عليه ولا يرى ما ينغص متعته مثل طرح القاذورات إينما اتفق. لهذا فإن النظافة ناشرة أعلامها في الشوارع والأماكن العامة والمتنزهات والأناقة أينما سرح طرفه فهو إذن لا يطالع أو يسمع أو يبصر إلا ما يسر الناظرين الأمر الذي يجعله يمدد فترة إقامته ويحس بطول عمره لما يلمسه من نظام وهدوء وأدب واتزان ونظافة وأناقة واحترام حريته ومشاعره كإنسان... وباختصار فإنَّ التزام الناس هناك في الذوق وقواعده الذهبية ظاهرة بارزه إن دلت على شيء فإنما تدل على تحضر تلك البلاد ورقيها، وغني عن التعبير أن التمسك بالذوق يسهم في بناء حضارة وارفة الظلال. حضارة لا تكلف الدولة المستمسكة بها عبئاً مالياً... اللهم إلا إقران القول بالعمل وحتى نتبصر في معنى الذوق وضرورته وأهميته وعلو كعبه في المدنية سنستعرض بعجالة ما قيل عنه وفيه على لسان كبار رجال الفكر.
قال مونتسكيو الذوق هو مقدرتنا على أن نكتشف بسرعة فائقة مقدار اللذة فيما تسببها المعاملة الحسنة للناس.
وقال ايمرسون الذوق هو الإحساس فورا بالجمال والقبح والسماحة وبالتلاؤم والتنافر وتمييز المقابح ورؤية الخفي منها في المحسوسات والذهنيات.
وقال لابروير المميّزون هم الحائزون على روح مسلحة بذوق صادق.
وبعد، إذا كنا ننشد الغد الأمثل والأنبل فلنعلِّم أبناءنا الذوق ليجسدوه فعلاً لا قولاً وعندما يصبح الذوق جزءاً لا يتجزأ من حياتنا يلازمنا كظلّنا نحسّ بأننا حقاً واكبنا مدنية الإنسان.. ولنتصور المجتمع الذي ينتظمه الذوق كيف يكون.. كيف يحدد النظام وجه حياتنا، فيأخذ كل إنسان دوره ويمارس عمله بيسر وطمأنينة بعيداً عن الزحام والفوضى وتطل النظافة بوجهها الناصع فلا يرمي المواطن ما بيده في الشارع والمتنزه والطرق العامة ولا يزعج جاره برفع مذياعه لأنه يريد أن يستمتع بوصلة غناء، ولا تملأ السيارات الفضاء ضجيجاً في الأعراس شعوراً مع الذين يودون أن ينعموا بالهدوء وإذا استعار أحد كتاباً رده من باب الذوق وكذلك لا يقوم بزيارة صديقه دونما موعد أو يعاكس بالمهاتفة التافهة أو غير ذلك من المضايقات... وهكذا نرى كيف يطور الذوق المجتمع ويخطو به خطوات سريعة إلى الأمام بعد أ ن يلفظ العادات السيئة ويراعي أحاسيس الناس ومشاعرهم وحقهم وحريتهم الشخصية إننا بتجسيد الذوق في حياتنا ننهض بوطننا نهضة حقيقية لا تكلفنا موازانات ولعمري ما النهضة وجوهرها بعيداً عن المظاهر والزيف.. إلا النظام والانتظام والأدب والمعاملة الحسنة واحترام حق الإنسان ووقته.. والحفاظ على المتنزّهات العامة نظيفة أنيقة والأزاهير تملأ الحدائق والرياض، والبسمة تضيء الوجوه التي لا تحس بالمضايقات لدى ممارستها الحياة... وجدير بنا ألا ننسى أن الدنيا ذوق.
الحياة فن رفيع
(ف. نورمان) أحد كبار علماء النفس يقول في كتاب «الفن الجديد للحياة» إذا أردنا أن نعرف كيف يمكن أن نتمتع بالحياة.. فلا بد لنا أن ندرك أن سر الحياة السعيدة الناجحة، يكمن في حرصنا على أن نرى ما فيها من روعة... ذلكم أن روعة الحياة في جوهرها الأصيل... في العمل الذي نؤديه، في شعورنا ونحن نستقبل يومنا الجديد كل صباح، في الحماس الذي يفعم نفوسنا ونحن نؤدي واجبنا على أكمل وجه... في اللحظات القصار التي نخلد فيها إلى أنفسنا، ونتأمل بإمعان مفاتن الطبيعة من حولنا.
إنَّ الحياة فن رفيع، قمين بنا أن نتعلمه... ولكي نلم بهذا الفن، لابد لنا أن نفرّق بين الحقيقة والصورة فما أكثر من يشدهم المظهر دون الجوهر، وأكثر منهم الذين لا يعرفون كيف يميزون بين الحقيقة الأصيلة وبين الأشياء المزيفة.
مما لا شك فيه، أنَّ عصرنا العتيد، قد أضاف إلى حياتنا تعقيدات لا حصر لها، جعلها من الصعوبة بحيث يجب أن نبذل من الجهد أضعاف ما كان يبذله آباؤنا وأجدادنا من اجل توفير حياة سعيدة إلى حد ما لأنفسنا في هذا العصر عصر الكماليات التي لا تحصى.. هاتيك الكماليات التي تجعلنا أبدا في شغل دائب دائم بالعديد من الأمور والمشاكل والصيانة واستبدال الأجهزة والديكورات إلى غير ذلك.. ولكننا بالرغم من هذا نستطيع إذا أردنا أن نسعد بكل لحظة تمر بنا في حياتنا ونبتهج بها.
لقد تقدم العلم وغدونا نعيش زمان الآلة، والأزرار الكهربائية وحسبك أن تضغط على زر صغير فيأتيك النور الذي لا غنى لك عنه لتقرأ وتنعم بالدفء وتغني سمعك بروائع الموسيقى.. ولكن هذا التقدم الكبير قد صاحبه برزخ من الهموم والقلق والتشنج والتوتر والاضطراب التي أصبحت من أمراض عصرنا هذا ولا جدوى لصلاح هذه الأمراض والتخلص منها إلا بإدراكنا للمعنى الحقيقي للحياة..
ونقف عند هذه الجملة الصغيرة الكبيرة فنقول إنَّ المعنى الحقيقي للحياة هو إذا عرفنا كيف نسخر من الشدائد ونتصدى للصعاب ونبتسم تحت مياه المطر المتساقطة على رؤوسنا المبللة لأجسامنا ونواجه الفشل والإخفاق بروح رياضية عالية.. أجل في هذه المعرفة لمواجهة ما أشرنا إليه يكمن معنى الحياة الحقيقي وسر الاستمتاع بها.. في كل صورها الوضاءة.. والقاتمة..
وصدق الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي.. في قوله:
فتمتع بالصبح ما دمت فيه
لا تخف أن يزول حتى تزولا
أحكم الناس في الحياة أناس
عللوها فأحسنوا التعليلا
* * *
فلنُحْنِ الهام إجلالاً للرعيل الأول
عندما سئلت إذا عادت بك الذاكرة إلى الأربعينات أو الخمسينات فماذا تؤرخ لها.. أجبت أنني اعتبرها العصر الذهبي بالنسبة لهذا اليوم رغم ما يميزه من تقدم علمي هائل وترف في السيارات والقصور والكماليات ووسائل العيش والرفاهية ولزوم ما لا يلزم.. في الأربعينات كان سوق العروبة والوحدة والوعي العربي رائجاً، وكانت الوطنية الخالصة لوجه الله والوطن وكان الانتماء الحقيقي والخلق الرضي والتنافس على الجُلّى.
أما المشاعر القومية ففي الذروة فإذا جرح عربي في تطوان ضج الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.
كذلك على المستوى الأدبي فقد كان الشباب العربي يحفظون قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي في اليوم التالي لنشرها.. وأذكر أنني كنت أصحو في السلط أحيانا على صوت الزغاريد فأسأل والدي رحمه الله عن سر هذه الزغاريد الصباحية فيقول باعتزاز لقد استشهد بالأمس فلان في فلسطين وعشيرته تحتفل باستقبال جثمانه الطاهر... وكان الحديث في مجالسنا يدور حول المروءة والفضيلة والنّدى والنخوة والقيم الرفيعة والأمانة والشهامة والوطنية ويتبارى الناس في عمل الخير والمكارم، أما أحاديثنا اليوم فيتناول معظمها أحدث موديلات السيارات، والفلل الفاخرة، وارتفاع أسعار الأراضي.
أما المدارس فلم تكن تنعم بما تنعم به اليوم من كماليات.. وكان الوصول إليها على الأقدام ولم تكن ثمة كماليات.
لكن الطلاب كانوا يحفظون عشرات الأناشيد وغني عن التعبير أن النشيد له فعل السحر في النفس فيضاعف حب التلاميذ لأمتهم واعتزازهم بتاريخها المجيد والعمل في المستقبل على استعادة هاتيك الأمجاد التي شدا بها فم الزمان.
كذلك كانت المناهج العلمية والتاريخية والاجتماعية الفنية على أرفع مستوى يتناسب وأرقى المناهج المدرسية العالمية.
وبعد فلست أزعم أننا كنا نحيا عصر المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا ولكنني على ثقة بأن الشعور القومي والوطني الوحدوي العربي كان أصيلاً وأن الإيمان بأهداف الثورة العربية الكبرى كان وطيدا وأكاد أقول أن الوحدة العربية كانت شبه قائمة بالفعل وكان للأخلاق الفاضلة القدح المُعَلّى وللانتماء صولة وجولة ولدينا اكتفاء ذاتي أما الأدب فأكتفي بالقول بأنه كان يعيش عصره الذهبي والفضل في ذلك أولا وقبل كل شيء لله تبارك وتعالى وللرعيل الأول فرسان الأربعينات والخمسينات.
فالرعيل الأول، الذي أصبح اليوم بكل أسى شبه منسي، نحني الهام إجلالا وإكباراً فهم الذين صنعوا هذه النهضة الوارفة الظلال وهم البناة الحقيقيون
والرواد الأماثل.
الشاعر الكبير حسني زيد الكيلاني
البلبل الغريد
والنغم الفريد
والقلب الهدار والقلم المكثار
والشعر الشاعر
والنظم الساحر
ذلكم هو الشاعر الكبير الأستاذ حسني زيد الكيلاني تغمده الله برحمته ورضوانه... صحوت وجيلي على عذب أغاريده وحلو أناشيده، فقد لقى شاعرنا الفذ الأيام مبتسماً ونشأ بروائها مترنماً.. يستقبل إطلالة الفجر مرحاً مع الطيور ضاحكاً مع الزهور يروقه جلال الأفق وتشده إشراقة الشمس في مواكب الضياء وتسحره الظلال الوارفة وإطلالة البدر من وراء الربى الخضر، فيتأمل الورود في أشعته الفضية، ثم يرفع بصره إلى الجو الساجي فيبصره مزيناً ببساط أزرق موشى بالنجوم فتهتز نفسه تأثراً بهذه الروائع وينطلق القريض من مخيلته رحراح الابتسام، ومثلما كانت الطبيعة تأسر فؤاده ببهائها وفتنتها كان الجمال يشده كذلك فيرى في كل حسن سراً يجذبه إليه.. كان عندما يرنو للجمال تطبعه عينه على صفحة جنانه... فإذا هو على لسانه في ثوان.. كان كل شئ في شبابه من حوله يبعث الأمل ويجدد الحياة وكأن الدنى طوع الخيال. والمستقبل وضاء وكل ما في العالم ضياء، فلم يبق حُسن إلا وأبدَعَ في وصفه ولا بهاء إلا تفنن في رسمه ولا روض إلا نشر عليه بديع ورده. إلا أن فكره المجنح أخذ ينفذ فيما بعد إلى ما وراء الظاهر وتجاوز إلى اللب.. أجل تجاوز الضحضاح إلى العباب فإذا بريشة شاعرنا العملاق تحاوره ترسم ملاح الأسرار المحجبة وتشق عباب الأمواج المتلاطمة على شاطئ المحيط الأعظم.. فجاء شعره في هذا المجال نهرا لا يُسْبَر غوره ويحسر الفكر دون موانيه، ويعيا دون غايته وكان فيه لون من الصوفية تتبدى في صور جميلة يتجلى فيها القلب بأرقى مداركه وأصفى منازعه، كان قريضه رقراقا ينساب انسياب النهر في الفلوات وتضرب معانيه السامية في المخيلات فتسطع فيها كما تسطع الكهرباء، كانت قصائده العصماء تحمل بين أبرادها الجمال ظاهرا وخفيا، وتنطلق أوزانها بموسيقى حالمة فتردد الآفاق أصداءها ويدوي الفضاء بأنغامها.
كان شاعرنا الخالد قيثارة تسر وتشجي، وهو الصخرة تقدح الشرر وينشق عن الينبوع السلسبيل.
كان نايا ساحرا يبعث نفثاته كأنفاس الصبا ترفه عن القلوب الحيرى حتى تنبسط أساريرها كان بلبلا فاتنا ملأ سماء الأردن والعروبة غناء وطربا وشدوا وترجيعا.
كان شعره عقدا يتلألأ على صدر الأردن يصور الجمال والحق والحب والخير ومكارم الأخلاق التي هي وحي العقيدة واستجابة الوجدان لم يشبه تكلف ولا رياء وقد وشح بالنزعات الروحية العالية التي تسمو بالإنسان عن الأهواء التي تتقسمه والمطامع التي تستعبده مثلما وُشّج بالمقاصد الجليلة التي تجمع النفس على السمو والإيثار.
أما شاعرية حسني فكانت تكهرب الحرف تبعث في أعصاب القوافي هزة البقاء وتفجر عروقها بالحياة فتسيل روعة وتشتعل سحراً وسناء وكان يسيطر على الكلمة فيجعلها تصرح بمكنونها وتبين عن ضميرها فتفجر معاني الحق والجمال في ديباجة مشرقة إطارها سهل من الشعر ممتنع، وعندما تقرأ شعر شاعرنا الكبير في الطبيعة تسمع الطير مغردات وترى الأماليدَ تهتز والفراش قلقا بين النوار، وكأن كل فراشة زهرة طائرة أو قبلة حائرة وكان شعره ينافس شعر فطاحل الشعراء روعة وبلاغة وبيانا، وفي غزلياته تحس بأن كل قصيدة روضة هوى حافلة بأزاهير المنى.. لقد كان في دقة وصفه نسيجا وحده كما كان في تصويره لأدق اختلاجات أهل الهوى مصورا ساحر الريشة والألوان فأولع بشعره الناس من كل جيل وحفظوه. أما الوطنية في شعره فدعوةٌ لتنبيه الأمة من الغفلة لتنظر في حالها وتعرف نقائصها وتقيس ما بينهما وبين الكمال متجهة إلى الغاية المرجوه.
واتخذ حسني تغمده الله برحمته من الذكرى العظيمة نجوما تهتدي بها الأمة في ظلمات الأيام وأعلاما تستبين بها الطريق في ضلالات الزمان ودعوات إلى المجد تدوي على مر السنين.
وبعد، وقد صمت البلبل الغريد، والنغم الفريد، واستراح الشاعر المعذّب من وطأة الآلام المبرحة.. فإلى روحه الطاهرة أقول..
شاعر الحق والجمال سلاما
طبت في أربع الخلود مقاما
سوف تبقى على الشفاه نشيداً
وعلى دولة القريض إماما
وإنما الخالد من خلدته آثاره
وسيبقى قريضك حياً بعد ارتحالك إلى الدار الباقية مثلما كان مدوياً في حياتك يبعث العزائم ويحيي الهمم. وسلام عليك في الخالدين.
* * *
البرقاوي أستاذ الجيل في ذكراه
ثلاثة عشر عاماً مرت على ارتحال أستاذ الجيل أبي محمد حسن البرقاوي ولما يزل ملء السمع والبصر لا يذكر أساتذة البلاغة إلا ذكر، ولا يشار إلى أمراء البيان إلا أشير إليه. وتتجدد ذكراه مع تخرج أفواج جديدة من شبابنا في مواسم الحصاد والجنى أو إرساء دعائم دار للعلم والمعرفة أو صدور كتاب من كتب الفكر القيمة أو انبثاق عبقرية أو ميلاد ذهنية فالبرقاوي طيب الله ثراه أمضى خمسين عاماً أغناها علماً وعرفاناً وبلاغة وبياناً وإبداعاً وآداباً وارتحل من الفانية إلى الباقية والكتاب بين يديه والعلم في فكره يفيض على لسانه درراً فريدة وعقياناً نضيدة وصدق من قال:
يطوي العبقري في عمر واحد أعمار أجيال سبقته وأجيال رافقته وأجيال تأتي بعده فيموت ليحيا. أجل كان البرقاوي كاتباً عبقرياً، هذا ما لا ريب فيه تتميز يراعته بالبلاغة وجمال الديباجة وإشراقة الأسلوب وكان في كل ما يكتب داعياً إلى الفضيلة والسمو والخلق الكريم فإذا ما عالج في كتابته أمراً تطرّق إلى هاتيك المعاني الرفيعة والمثل العليا.. يقول الجاحظ عقل الكاتب في قلمه وأنا أقول وقلب الكاتب في قلمه ولقد كان قلب البرقاوي فياضاً بالإيمان والطهر فإذا كتب في الإصلاح وما يتصل به تسامى إلى حيث تضمحل المطامع وحلق في دنى العقيدة ملاكاً يحيا الحقيقة العلوية والسمو الروحي والنزعات السماوية وهو كاتب صاحب قلم فذ يأخذ المعنى البسيط لأي حدث في تراثنا وتاريخنا فيجعله فصلاً بليغاً في الحكمة والموعظة الحسنة. وكفنان ذي باع طويل في فنه فقد كتب عن الجمال فيما كتب فبث في العالم معانيه وطرح عليه ألوانه فتبدّى جمالاً على جمال ورواء على رواء.. إنه يبدع من حزمة النور.. بدراً ومن قطرة الماء نهراً.. ومن الزهرة روضاً ثم يستطرد في الإبداع فكأنه تفسير للجمال لأن يراعه يسبر غور المنظر فيصوره في جوهره وتبين محاسنه وتتبدى مفاتنه. كما تناول الحب فيما كتب فكان بارعاً في طوافه بسماء الحب حريصاً على نقاء معناه ليعيش من يحب في أجواء نور ونَوْر. وكان يحيا في صميم المجتمع يعيش آلامه وأوجاعه ويحس أسقامه ويصفها ويعرب عما في الضمائر ولا يزال بالمعنى الذي يراه غامضاً يعمل فيه أسلوبه البليغ حتى يخرج منه السنا والنور وعندما نقرأ له سطوراً في هذا المعنى نسمع الأنات ونرى العبرات وكأنه يأخذ بيد من يقرأ إلى تلمس الأخطاء، وتقويم المعوج لتسود الفضيلة ويخفق لواء المحبة والرحمة والعدالة الاجتماعية. أما محاضرات البرقاوي وما أكثرها وأبلغها فكان ينفذ بها إلى الأفئدة ببيانه الساحر وأسلوبه المبتكر البديع وهو في كل ما يسطر يخاطب العقل والقلب معاً باثاً الطموح إلى الخير والنفور من الشر.
فمقاصده أبدا جليلة ونزعاته أبدا سامية، وأسلوبه أبدا مميز بجمال الحروف وروعة المعاني لأنه نسيج وحده في ابتكاره ورسمه وفكره وبلاغته ولا حدود أمام رؤاه، لأنه يحطم حدودها، ويصلها بالإنسانية. يقول أحد كبار الأدباء العالميين:
إنَّ الكاتب الملهم يرى الخليقة أسباباً متصلة ومعاني متجاوبة وصوراً متجاذبة فما يبصر ذرة إلا رأى وراءها الفلك. ولا يقابل شعاعاً إلا جذبه إلى الشمس وكأنّ كل شيء في الوجود عين تطل على العالم غير المحدود.
وأختتم حديثي في هذه العجالة بنص برقية أرسلها البرقاوي تغمده الله بالرحمة بمناسبة وفاة أحد بناة النهضة العربية جاء فيها:
«إنَّ موت العبقري في الزمن المستيقظ كخسارة جيل» ونحن نستأذنه من وراء الغيب لنرثيه بكلماته لأنه أحق الناس بها فقد كان حقاً عبقرياً وكان حقاً أستاذ جيل وسلام على أبي محمد حسن البرقاوي في الخالدين.
* * *
ذكرى إعلان حقوق الإنسان
في العاشر من كانون الأول يحتفل العالم بذكرى إعلان حقوق الإنسان، ولا شك أن إقرار هيئة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان هي أكرم مبادئها طبيعة وأنفسها قيمة وأحسنها للرغائب الجليلة أنها خير حلية زينت بها المدنية الحديثة، وأروع ثمرة حملتها شجرة الحضارة الراهنة. ولقد جاء الاعتراف بحقوق الإنسان أثر كفاح مستميت صفحاته بيض كإشراق الندى وسطوره مخضلة حمراء ذلك أنَّ الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان حراً، وكلمة الله هي العليا، من هنا توج كفاح الشعوب المستعبدة بالنصر والظفر عبر العصور وباء بالهزيمة الساحقة كل من تصدى للحرية من أعداء الشعوب والإنسانية واليوم والعالم يحتفل بهذه الذكرى الكريمة يحق لنا القول أن أمتنا الماجدة هي التي أرست دعائم حقوق الإنسان فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يهز سمع الدنيا عندما خاطب بقوله عمرو بن العاص وقد ضرب ابنه القبطي لأنه فاز عليه بسباق الخيل.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. ثم أخذت صحائف الحق والعدل تترى، فهذا المأمون الخليفة يقول عندما تقدمت بالشكوى على ابنه العباس امرأة من الشعب.. وأخذ كلامها يعلو كلام العباس ويعترض أحد الحاضرين قائلاً يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين ابنه فاخفضي من صوتك.. يقول المأمون دعها فإنَّ الحق أنطقها والباطل أخرسه، وهذا عطاء ابن أبي رباح يقف أمام هشام بن عبد الملك يقول له يا أمير المؤمنين قسِّم الأرزاق والأعطيات على الجميع فإن لهم فيها حقاً وهذا محمد بن عمران القاضي يمنح الجمّالةَ حقهم كاملاً من أبي جعفر، ويحكم شريك بن عبد الله على موسى بن عيسى برد الضيعة لامرأة كانت تملكها، وكذلك يفعل عبيد بن ظبيان مع الأمير عيسى ويتبعه القاضي إسماعيل بن اسحق مع الخليفة المعتضد بشأن حق اليتيم والأمثلة على احترام حق الإنسان في تاريخنا لا تحصى.
ويبقى احتفال العالم بذكرى إعلان حقوق الإنسان احتفالاً بالحرية والمساواة والعدل، والعدل أساس الملك وهو ميزان الله في الأرض الذي يؤخذ به للضعيف من القوي والمحق من المبطل، والدول التي لا تحترم حقوق الإنسان، دول غير متحضرة، ودولة الظلم ساعة ودولة الحق حتى قيام الساعة.
ومن دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه وما أجدر الإنسان أن يذكر عند الظلم عدل الله فيه وعند القدرة، قدرة الله عليه، ومن آمن بحقوق الإنسان فإنما يؤمن بما أنزل الله من آيات ومثل سامية وهو يحسن السياسة ويقود الناس بالحسنى ويدفع عجلة المدنية إلى الأمام.
من آمن بحقوق الإنسان فإنما يؤمن برسالة البشرية في أسمى صورها وأنبل معانيها ويضفي على الحضارة أبراد البقاء ويرسي حجر الأساس في بناء صرح السلام العالمي والإخاء الإنساني ويسهم أسهاماً خيراً في استئصال شأفة الحروب الطاحنة التي اكتوت البشرية ولما تزل بنارها وعانت صنوف الهول من عنف أوارها.
* * *
العمل.. وبناء نهضة الوطن
أرجو ألا أجنح إلى المبالغة إذا قلت إنَّ أهم صفة من صفات هذا العصر الذي نعيش فيه، هي العمل وكذلك إنَّ أهم مكتشفات هذا العصر هي.. قيمة العمل. قيمة العمل في بناء حياة الفرد وبناء نهضة الوطن وأهميته في توطيد أركان المجتمع... وأثره في دعم بناء الإنسانية..
وعلى الرغم من أننا في زمان لمّا تزل للوراثة فيه قيمة كبرى ونعني بالوراثة هنا وراثة الأملاك والثروة أو وراثة اللَّقب أو المصنع والعقارات أو غير ذلك من أشكال الوراثة الاجتماعية، رغم هذا فإنَّ قيمة الإنسان اليوم فيما يحسن من عمل.. والحقيقة الجلية أنَّ العمل هو الطريق الأوحد والأسمى والإيجابي لتنمية الشخصية الإنسانية وصقل الطبع البشري وإبراز المواهب الفردية وتمكين الإنسان من التمتع بالسعادة... والطمأنينة والرضى.
إذاً ما أجدرنا والحالة هذه بأن نولي العمل في عصر العمل وقيمة العمل.. كل تفكيرنا واهتمامنا وقوتنا... وهنا نأتي إلى الخطوة التالية مباشرة وهي إتقان العمل. إنَّ إتقان العمل لا يمكن أن يكون صدفة أو لوناً من الحظ، بل إنّه جهد وبذل وعرق وعناء وتفان وإخلاص وإيثار.
ولما كان إتقان العمل هو سر النجاح فيه والرضى عنه فإنَّ إتقان الإنسان لعمله أياً كان هذا العمل يقتضيه كما أسلفنا كفاحاً صلباً ومثابرة، وقد قيل قديماً أنَّ تسعة وتسعين بالمائة من النبوغ عرق جبين لهذا... فإنه جديرٌ بنا الإصرار والعزم على إتقان عملنا ولا ننسى أنَّ عصرنا هذا هو عصر علم وثقافة والوطن الذي ينتظر منا الكثير لم يعد ينظر بعين الرضى إلى أولئك الذين لا تقوم معرفتهم بعملهم على أساس من ثقافة عامة عميقة واسعة، وتخصص علمي دقيق، وبديهي أن لا غنى في العمل. وإتقانه عن هذا التخصص القائم على أساس واسع من الثقافة. بقي أن نقول إنَّ الحديث عن العمل يقودنا بشكل غير مباشر إلى الحديث عن السعادة.. وإنَّ السعادة كما أجمع علماء النفس أو معظمهم هي في القيام بالعمل الذي نحب على الوجه الأكمل وبالجهد اللازم ولنحذر أن نظن أنَّ السعادة تطرق باب المتواكل الكسول أو المقصر أو تأتي عن طريق الأعمال البسيطة السهلة وتنبع من الأعمال الروتينية.
السعادة الحقيقة في العمل وأدائه على الوجه الأكمل فإذا ابتغينا السعادة الحقيقة تحتم علينا أن نجهد في القيام بعمل محبب إلينا، وعلى وجه صحيح ولنضع في اعتبارنا أنَّ العمل يجعلنا مواطنين صالحين لأننا استكملنا كل عناصر بناء ذلك المواطن الصالح الذي يُقبِل على عمله ويتقنه ويجد في قيامه بواجبه خير مسرة ومتعة... بل يجد فيه السعادة الحقيقية وفي الوقت الذي يحقق كل هذه المكاسب الشخصية الخاصة يحقق لوطنه الكثير إذ يسهم في توطيد أركان نهضته وبنائه ورفع لواء كرامته.
* * *
قدسية القانون تكريس للمُثُل
الذين يقومون بزيارة الدول الراقية يعودون وملء أعطافهم الإعجاب بشعوب هاتيك الدول ويضفون عليها من حميد المزايا ورائع الشيم مالا حصر له ويتوجون ذلكم المديح بقولهم إنَّ أبناء الدول الناهضة في كل ما يصدر عنهم يُجسِّدون المثل العليا، وينسون في غمرة الثناء السر الذي يكمن خلف تحليهم بالقيم. ويختتمون حديثهم بنقد وتجريح مجتمعاتنا العربية إلى الحد الذي نحس معه بأنهم قد نفضوا أيديهم من أي إصلاح وأنَّ اليأس قد تطرق إلى نفوسهم. فإلى هذه الفئة نقول. «صبراً جميلاً فما يذهلكم في البلدان المتقدمة وما يتصف به الناس هناك من مزايا خلقية لم يرثوه كابرا عن كابر ولم ينادِ به تراثهم فليس لديهم خير من تراثنا ولكنهم يتميزون عنا بقدسية القانون في بلدهم وقدسية تطبيقه بحذافيره على الكبير والصغير تطبيقاً عادلاً منبثقاً عن الجوهر، فإذا ما رأينا الأوروبي على سبيل المثال لا يطرح لفافة حيثما اتفق أو لا يرمي أي لون من ألوان القاذورات أو يرفع جهاز الراديو أو التليفزيون ليستمتع بأغنية أو مسلسل على حساب راحة الآخرين أو لا يسبب إزعاجاً إلى من هم في جواره، وإذا رأينا أبناء الدول الراقية يقدسون الوقت ويدفعون ما يستحق عليهم من ضرائب من تلقاء أنفسهم أو يَعِدون ويفون ويقومون بعملهم خير قيام ويحرصون على الذوق العام والنظام ويبذلون كل ما بوسعهم لتكون بلدهم آية في الجمال والرواء والكمال إلى غير ذلك.. جدير بنا أن نعلم أنهم لم يرثوا هذه المثل عن آبائهم وأجدادهم أو لديهم من الحكمة أو التراث ما يحفزهم على هذا أكثر منَّا ولكن ما يتميزون به عنا نحن دول العالم الثالث أو الدول النامية إن صح التعبير أن للقانون كما أسلفنا قدسية في بلادهم وقدسية القانون في تطبيقه نصاً وروحاً.. فإذا خالف المواطن في هاتيك الدول القانون عوقب بما نص عليه مهما تكن منزلته من هنا، فالمواطن هناك يحرص على ألا يخطئ ليتجنب العقاب ومع الزمن يتحول هذا الحرص إلى عادة فمثل رفيع أو لون من الخلق الرَّضي وليس ثمة قانون في الدنى لا يدعو إلى العدل والحق والمساواة ولا ينادي بالنظام والأمن والحرية الشخصية في حدود المنطق ولا يستهدف المصلحة العامة. ولكن المهم تطبيقه انطلاقاً من مبدأ سيادته وقدسيته.
وما القانون في جوهره إلا مجموعة من المثل العليا والأخلاق الكريمة والمعاني السامية والأنظمة السوية منبثقة من الرسالات السماوية الخالدة وأهل التقى والهدى، إنه تراث إنساني عظيم لا تستقيم حياة المجتمع بمعزل عنه أو تتجدد وترتقي فإذا ما أردنا أن نكرس المعاني الرفيعة في مجتمعنا فلنقدس القانون، ونعاقب من يخرج عليه عامداً متعمداً، و«لكم في القصاص حياة » بقي أن نقول إن الذي يقدس القانون هو أقرب الناس إلى قلب الله تبارك وتعالى فقدسية القانون.. كلمة من نور.. كتبتها يد من نور على صحيفة من نور.
القانون قبس من الإله يقيم في روح الإنسان وهو مشيئة الحق والكلمة الأولى التي تتكلم بصوت العدل.. وهي أبعد الأعماق وأرفع الأعالي لأنها تسحق الباطل بقدميها الجبارتين.. وعربة القانون تمر فوق عربات الضلال وتدوسها وتنتصر عليها وأبراجه تظل أبدا مرتفعة تطاول الجوزاء.
التحدي والاستجابة
قال المؤرخ العالمي الكبير توينبي، التحدي طابع العصر الحديث، وهذه حقيقة جلية نلمسها ونعيش أحداثها فلا يكاد ينقضي يوم حتى نقرأ أو نسمع هذه الكلمة (التحدي) في معظم الأحاديث والندوات.. وباعتقادنا أنَّ التحدي ليس طابع هذا العصر فحسب وإنما وجد منذ وجد الإنسان، فالحياة نفسها أعظم تحد له.. فالكائن الحي إذ يخرج إلى الدنيا يجد نفسه مهدداً بالفناء مذ أول لحظة فهناك الجوع والظمأ وظروف الطبيعة الصعبة.. كل هذه تسعى للفتك به والقضاء عليه بمعنى تتحداه فعليه إذاً أن يحدد موقفه من ذلك التحدي فإما أن ينهزم أمامه ويتحطم وإما أن يواجهه بقوة فيبحث عن الماء ويصارع للحصول على القوت ويتحمل أحوال الطقس ويواجه الصعاب فيظل في قيد الحياة. وإما أن يحتال على الظروف فيتعود الصبر أو يقطع المسافات الشاسعة للحصول على ما يبتغي وهكذا، بالصبر والصمود وتعوّد المعاناة يستطيع أن يتغلب على الظروف التي تتحداه وينشئ لنفسه إطاراً حيوياً واقياً يقيه الشر ويحصنه أزاء أخطار الطبيعة الجغرافية. وقد اصطلح العلماء على تسمية هذا الإطار الواقي (الحضارة) في مواجهة التحدي. والاستجابة التي قد تكون إيجابية أو سلبية، فقصة الحضارة إذاً حسب رأي المؤرخ الكبير تويبني، لا تخرج عن كونها لقاءات ومصادمات بين أنداد متعارضة فهذا التصادم هو الذي يولد وينتج شرارة المدنية مثلما تخرج الشرارة من تصادم حجرَيّ صوان.
والذي يعنينا مما أشرنا إليه أننا نحن العرب أصحاب حضارة أصيلة وراقية قامت على ترابنا، ومرت بكل أدوار النشوء والارتقاء والسمو والارتفاع والانخفاض، وقد عبرنا المراحل التي لا مفر من عبورها من قوة وضعف ووحدة وتجزؤ.. وطبيعي أنًَّ أعداء هذه الأمة الطامعين بثرواتها الهائلة، الحاقدين عليها يتحدون عملية التجمع العربي والالتفات للأمس والتراث لأنَّ هدفهم القضاء على تلمُّسها سُبُلَ النهضة، الأمر الذي يفرض على أمتنا مواجهة هذا التحدي بالتجمع، وها هو ذا نحن نرى في غياب التجمع العربي ونعني به الوحدة كيف يتمكن العدو من ضرب أمتنا وتحقيق الانتصار تلو الانتصار وتوسيع مناطق نفوذه وفرض المعركة في الزمان والمكان الذي يريد متحدياً قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ضارباً عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية ممتهناً الكرامة الإنسانية مقترفاً من الآثام ما يضيق عن الحصر. نعم في غياب التجمع العربي لم يجد العرب بديلاً إلا الشكوى ملاذاً، وهم يعلمون بعدم جدواها لأنَّ المنطق أمس واليوم وغداً هو منطق القوة فالحق الصراح الذي لا تدعمه القوة الضاربة الرادعة حق مضيع مهدور، فمنذ كان البدء ومنذ وجد الإنسان على الأرض والقوة، ببساطة لا تكون إلا بالتجمع ولو استعرضنا تاريخ نهضات الأمم لوجدنا أن ألمانيا لم تصبح ذات شأن إلا عندما وحّدها (بسمارك) وكذلك إيطاليا عندما وحّدها (غاربيا لدى) وأمريكا عندما وحدها (لنكولن) ذلكم هو منطق التاريخ ولا نأتي بجديد إذا قلنا أنَّ في التجمع بقاء الكيان ومقاومة أحداث الزمان. وأمتنا لم يتمكن منها أعداؤها إلا عندما تفرقت كلمتها واحتربت أفكارها ولا سبيل لها إذا ما أرادت الإبقاء على كيانها من لم شعثها وهذه حقيقة أزلية تاريخية. ويلح علينا نفس السؤال المطروح في مستهل الحديث وهو كيف نواجه التحدي.
نواجه التحدي بالاستجابة له استجابة موفقة ويكون باستيعاب تراثنا وفهم الحضارة الراهنة وتمثّلها في كيانها والتماسك وعدم الخوف والثبات في وجه كل صعب، وما كتب ويكتب بيض الصحائف في التاريخ إلا الأولى واجهوا التحدي مواجهة قوة.
فلا يبتني المجد الأثيل من لم يحمل الخطر، ولا ينال المعالي من كان حذراً، ويبقى التحدي عبر المدى القوة المبدعة الخلاّقة في الإنسان، والقوة التي تنسج الحضارة، وتدفع عجلة الحياة والارتقاء إلى الأمام.
عام جديد... وانبثاق آمال
عبر صخب الأمواج المزبدة. أمواج الاضطراب والمعاناة والأسى والعذاب التي عاناها الإنسان في العام المنصرم على يد الإنسان القوي المتكبر العاتي الذي تتحكم فيه نفس يغلب عليها حب البطش والسيطرة والاستعباد وخنق الكرامة..
عبر ازدحام الأيام بكل ما هو حالك وكئيب في السنة الفائتة تبسط أيها العام الجديد جناحيك وتطل على الدنى وقد سكنت حركة العام الماضي وعانق السبات روحه وطويت صحائفه فأقبلتَ مثلما يقبل المشوق أثر غياب طويل باسطاً يديك... لتفتح سجلك الأزلي ليُكتب فيه كل جديد... ولسنا ندري أي جديد سيُسَطَّر؟ ولكن الإيمان بالرحيم الرّحمن يدفعنا إلى الرجاء بأن تُملأ أوراقك بألوان زاهية من الخير والحق والعدل والرحمة والسلام فتغدو سويعات البشرية ربيعاً وأغنيات وومضات طمأنينة وهناء.
ولن يتأتَّ ذلك... إلا إذا استشعر الإنسان إنسانيته، وانصرف عن الوهم إلى الحقيقة إلى الجوهر وطرح الأنانية جانباً، وأبعد نوازع الشر والإفك والضلال والظلم عن حمى نفسه وأشرق أفق حياته بالإيمان والمحبة... فيا أيّهذا العام الجديد أيها القادم من الفضاء كجمرة قذفت من موقد اللانهاية وبذرة ألقيت في بطن الأثير المترامي لتكون غرسة وارفة الظلال في أرباض المعرفة الكلية الأزلية... ألف ألف تحية... وسلام.. تحية لنظامك وناموسك وسننك العجيبة العظيمة المثيرة... تحية لما تثيره في الأفئدة المؤمنة من أشواق حارة تثير فينا الحافز أثر الحافز إلى ترك بصماتنا على رمال الحياة بسلاح من المثل الكريمة والقيم الرفيعة، ومن نفحات إنسانيّةٍ فيها صدى تاريخنا المجيد، ومن دعوة خيِّرة إلى العمل المتصل لنجلو عن واقعنا الدجى ونستبدل اليأس بالتفاؤل ونصوغ ملحمة سؤدد جديدة باتحاد قلوبنا وجمع كلمتنا والاقتداء بذلكم السلف الصالح الذي صنع ميراثاً من ظفر مالت دونَه العلياء وإذا صلحت نياتنا وكان الإقدام رائدنا والحق غايتنا... وبقلوب موقنة بالاستجابة نبتهل إلى الله تبارك وتعالى أن يجعلنا نسر مع إطلالة العام الجديد وأن يلبسنا ثوب الأمل ويشملنا برداء الصبر والإيمان... فكما أن الأرض تُخرج نباتَها كذلك يثبت الله السلام في النفس ويغمر الحياة بالبِشْر.
وبعد، سلام أيها العام الجديد.. سلام أيها النور الغامر الظلمة أيها الزمن الضابط أعنة الكون، سلام أيتها القلوب التي تقدر أن تهذي بالسلام رغم ما يكتنف الواقع البشري من مرارة وأسى.. وكل عام وأنتِ يا بلدي بخير ورفعة وسؤدد.
* * *
يوم الأم أكرم الأيام
الأم هي الجانب المنظور من وجه الله. الجنة تحت أقدام الأمهات. الأمهات الفاضلات المثاليات اللواتي يزرعن الحياة بشراً وخيراً ويغنين الأيام فضائل وقيماً ويتفانين في أداء رسالتهن السامية على أكمل وجه ويحرصن على تربية الأجيال تربية صالحة تعز الوطن وتصوغ العظمة وقديماً قيلْ المرأة الفاضلة من يجدها إنّ ثمنها يفوق اللآلئ، فلأمثالها العيد وتحية العيد.
قيل للرئيس الأمريكي (إبراهيم لنكولن) ما اسم أعظم كتاب قرأته فقال أمي أعظم كتاب قرأت. وقال الفيلسوف (راسِلْ) ليس في الطبيعة من البهجة والفرح مقدار ما تحس الأم بالتوفيق الذي لاقاه ابنها والحقيقة أنه لا يمكن للغة أن تعبر عن صفات القوة والجمال والشجاعة التي ينطوي عليها حب الأم فهي لا تحجم عندما يحجم الرجل وتتقوى عندما تهون عزيمته وتُري ابنها في صحراء هذا العالم أشعة أمانيها وإخلاصها كأنها نجم من السماء. يقول شكسبير لا توجد وسادة في العالم أنعم من حضن الأم ولا وردة أجمل من بسمتها. وقال حكيم عربي: الأمومة هي رسالة المرأة على الأرض وشأنها الأول في الحياة وهي حجر الأساس في الأسرة وقواعد المجتمع وأركانها منذ قام إلى يوم ينفض. وفيها اجتمعت سجايا البر والحق والخير والنبل وتبعات الواجب. وصور الفضائل والإيثار والصبر الجميل والأمومة تاج تلبسه المرأة وإكليل من الغار يتوج هامتها... أما جمالها فلمحة من جمال الحياة وشعاع من رُوائها وهذا هو الجمال الحقيقي، وهو أحفل أياماً وأطول مُقاماً وأصدق أحلاماً ويبقى حب الأم ما بقيت الحياة ولا يخبو إلا بذهابها... أما لذتها فمعنى قدسي، وسر لا يبين وحال كناعم الخلد، ليس منا إلا من قرأه في تلكم المآقي التي سهرت علينا صغاراً وحنت علينا كباراً. من هنا كان تفاني الأم جسراً يصل الشباب بالشيخوخة.... وما هذا الإنسان الذي ترى أخاديد الهرم على مُحَيّاه، سوى طفل في روحه مادام يذكر وفؤاده يحن للتذكار، رعاية تلك الصديقة الوفية أمه، التي ما منحنا الحق تبارك وتعالى أفضل منها. فما أروعَ يومَ الأم بل عيدها... وأعظم به من يوم يشع الخلد من أهابه.
* * *
إعلامنا العربي لا يتجاوز حدود الوطن (*)
أجل إعلامنا العربي لا يتجاوز حدود الوطن العربي.. فإعلام العرب على ما يبدو للعرب... لأننا لا نُحدِّث أنفسنا بأنفسنا بما نعلم فحسب ولا نأتي بجديد... وهل ثمة جديد إذا قلنا عبر صحفنا ونشراتنا وإذاعاتنا ومجلاتنا وتلفزيوننا أن الصهيونية تتميز بالعدوان وحب السيطرة وأن تاريخها مفعم قتلاً وإرهاباً وسفك دم وإزهاق أرواح، لقد ابتلينا بما ابتلينا منها خلال نصف قرن فلم يعد مفاجئاً لنا نحن العرب ما تقوم به من بطش وتنكيل ومآسي..
بالأمس كنت في أمريكا، ومن قبل أتيح لي أن أذهب إلى أوروبا، ولا أكاد أمضي أسبوعاً حتى يشتد بي الحنين إلى الحمى والأهل والأخبار، فأبدأ التجوال في الشوارع ودور الكتب وأجوب أكشاك الصحف أنقب عن صحيفة عربية فلا ألقى.. وعن كتاب فلا أجد، فأعود خالي الوفاض... ثم أرجع أراقب عشرات القنالات التلفزيونية التي تعمل ليلا نهاراً فلا يطالعني أي وجه عربي أو صورة أو صوت... فأحس عند ذلك بالغربة وأحس كذلك أن بيننا وبين العالم، في غياب صوتنا وصورتنا ورأينا وفكرنا بونا شاسعاً..
ترى، ألم يحن الوقت لتنظر الجامعة العربية إلى هذا الأمر نظرة الجد فتوليه الأهمية الكبرى والأولوية العظمى. ألم تلاحظ غياب «العربية» عن الدنى موقفاً وقضية وحقاً وعدلاً، وطائرتنا العربية تجوب الفضاء وتهبط في معظم مطارات العالم الكبرى.
لماذا لا نرى صحفاً عربية وأخرى مترجمة تعبر عن رأينا وعن عدالة
قضيتنا.. لماذا؟ونحن نملك الثروات الطائلة أم نصر على أن يصدق فينا قول الشاعر...
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
أليس من المفجع للوطنية حقاً أن أرى في أمريكا عشرات القنالات كما أسلفنا التي تبث آلاف البرامج فأرى كل شيء في الدنيا ما عدا الوطن العربي.
وأسمع كل شيء ما عدا لغة العروبة وأطلع على أخبار العوالم، باستثناء عالمنا..
وأشاهد ما أشاهد من عجائب وغرائب دونما جدوى، حتى غزو الفضاء يمكن معرفة الكثير عنه، هذا الغزو الرائع المغلف بالأحاجي والأسرار أمّا عرض شيء عن قضيتنا وعن حقنا وعما يتعرض له شعبنا الصامد العظيم في الضفة من وسائل قهر وإبادة، فيحدث به بعضنا بعضا... ولكنه حديث جديد قديم، بالنسبة لنا، فقد عرفنا الاحتلال على حقيقته..
أما العالم فألف حجاب بينه وبيننا وألف ستار يحجب عنه صوتنا بسبب تمزقنا وتفرقنا وإصرارنا على هدم قوتنا الذاتية الأمر الذي سهّل على العدو غزو
إعلام العالم.حتى كاد أن يصبح الباطل حقاً والوهم حقيقة والبربرية مدنية.. ورُبَّ قائل.. إن الصهيونية ستسد علينا المسالك فلن يتسنى لنا التعبير عن وجهة نظرنا بأي وسيلة من الوسائل... والحقيقة أن شأن هذا القائل شأن البخيل الذي يعتذر عن تقديم القرى بحجة الحفاظ على صحة الضيوف من السّمنة وسوء الهضم.. وما أجدر من يتبنى ذلك أن ينزوي ويقبع في بيته لأنه كما يبدو يغيب عن مخيلته جوهر الصراع وتنازع البقاء، وأن من أراد عظيماً خاطر بعُظيمته فمن البديهي أن الصهيونية تكشر عن أنيابها الأفعوانية كي لا نطلق الحقيقة من قمقم الساح العربية إلى الرأي العام العالمي فينكشف أمرها ويُقضى عليها بالثبور لهذا لابد أن يكون بالحسبان التصدي والتحدي والمواجهة لانتزاع الحق في التعبير عن الرأي لنسقط أقنعة العدوان وتبين رؤاه البشعة..
وبعد، فليس باعتقادنا ما يمنع سفر الكلمة العربية وارتحالها إلى خارج حدود الوطن العربي، إنَّ وسائل النقل الجوي والامكانات العربية العادية الهائلة عليها أن تثبت وجودها، وملايين الشباب العرب المنتشرين بالخارج جدير بهم نشر إعلام أمتهم، وأنصار الحق في العالم كثرانا نملك كل مقومات الأمة العظيمة التي تسندها عقيدة سياسية، ويدعمها أمس وضَّاء وتاريخ مجيد، ومستقبل مشرق بحول الله.
وقبل هذا وذاك توفر إرادة الحق، وإرادة الحياة والتوق إلى الحرية... بقي أن نقول ماذا يجدينا ويجدي قضيتنا الكبرى أن يظل إعلامنا ضمن جدران الوطن العربي ماذا يجدينا أن نحدّث أنفسنا بأنفسنا عما يفعل الاحتلال الصهيوني بالمساجد والكنائس وماذا يدنس من مقدسات، وماذا يزور من تاريخ، وماذا يقترف من إرهاب..
إنَّ أمر الاحتلال ليس جديداً علينا وإننا إذ نكرس إعلامنا ليبقى ضمن حدود العروبة فإنما نكون كمن يحرث البحر أو يحصد الهشيم أو كالصّارخ في واد.. من هنا لا بد من اقتحام العالم... أعني الرأي العام العالمي الذي على ما يبدو لمّا يزل يجهل الكثير عن الحقيقة الجلية، وأعتقد أننا نغبن أنفسنا بأنفسنا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار البالغ والاهتمام الشديد هذا الرأي العام العالمي وأثره الحاسم في الأحداث خاصة ونحن بأمس الحاجة لدعمه لأسباب لا تخفى... وليس ثمة مستحيل إزاء الإرادة القوية...
وبعد، فإننا نهيب بالجامعة العربية أن تأخذ بهذا الرأي وهو ليس جديداً على أي حال... ليتعدى إعلامنا أسوار عالمنا العربي إلى العالم ويكشف لكل شعوب العالم عدالة قضيتنا وقدسية نضالنا وهمجية الاحتلال وبربرية من ينادون زوراً بالسلام.
* * *
الجامعة منارة علم وصرح اقتصاد
رسالة الجامعة بصورة عامة مشرقة كالشمس جليلة كالحقيقة إنها رسالة علم وخلق وأدب وعندما نقول رسالة علم فإننا نعني البحث العلمي ووضع القضايا العلمية والأدبية على بساط التنقيب والاكتشاف والرؤى، وبديهي أن العلم لا يمنحك بعض أسراره إذا لم تكرس له كل ذاتك بالتفرغ وإشاحة النظر عن الكثير من لذائذ الدنى. وغني عن التعبير أن العلم أشرف ما رغب فيه إنسان وأفضل ما جد وطلب فيه، وأنفع ما اقتناه وكسبه لأنه إمام العقل وقائده ونوره يصنع العظمة، عزه عز سامق وهو أنقى ما يدخره المرء في الحياة. ولكن من أراد العلم عفواً بلا عناء مضى ولم يقضِ من أطرافه الوطر. من هنا، كان مثل من التحق بالجامعة مثل من وطّن نفسه على خدمة العلم وخدمة الأمة والإنسانية عن طريقة لا هدف له أسمى من ذلك الهدف. والعلم مثله الأعلى وبهجته الكبرى ورفيق في كل دقيقة من دقائق حياته في أكله وشربه وفي راحته وفي بحثه العلمي هذا إذا كان يستهدف الحقيقة وينجيها ويهتم بها ويرى أن لا سبيل إلى نهضة وطنه ورقي الإنسانية إلا في الإخلاص في الفكر والإخلاص في العلم والحق والمثل العليا.
كما يحرص على أن يكون مثلاً... مثلاً حياً في سمو الخلق وغلبة المعنويات على الماديات كذلك يقوم بالواجب ولا يخدم إلا العلم والخلق... العلم... كعلم عالمي لا وطن له، والخلق كخلق إنساني... وإنما الأمم الأخلاق... أما الأدب الذي يتحلى به الجامعي، فقد قيل فيه أنه كنز عند الحاجة أنس في الوحدة تعمر به القلوب الواهية وتنفذ به الأبصار الكلية ولعل سر روعة الأدب أنه رسائل الأرواح في مبدأ الحب والخير والجمال ومرآة تتجلى فيها سرائر النفوس ونزعات الأهواء وهو من خصائص كل أمة رهفت في بنيها الأحاسيس وسمت الأرواح لأن النفس تهفو أبدا إلى الفن الرائع مادامت طليقةً من قيد الماديات ولقد كان الأدب وسيبقى مقياس الرقي عند الأمم.
بقي أن نقول إن مكاسب الجامعة كمنارة علم وخلق وأدب لا يستوعبها إحصاء... ثمة مكاسب للجامعة مادية أيضاً لا تقل أثراً وخطراً عن هاتيك المكاسب المعنوية الهائلة إن صحّ التعبير فالجامعة تدخل إلى الدولة بما توفره من عملة صعبة مالا تدخله عشرات المصانع. ونظرة شاملة إلى آلاف الطلبة العاكفين على العلم في جنباتها كم كانوا سيدفعون لو درسوا في الخارج وكم يوفرون بتلقيهم العلم في وطنهم نرى أن حصيلة ذلك عشرات الملايين توفرها الخزينة. يضاف إلى هذا ما ينجم عن وجود هذه الأعداد الكبيرة من الطلبة من تنشيط للصناعة الوطنية والأسواق والتجارة بشكل عام. وبعد، فإن بقاء الطلبة في وطنهم يجعلهم أكثر اعتزازاً بأمتهم وتقاليدها فلا يؤثر فيهم بهرج المدينة الزائفة ومحاولات التشكيك الخارجية بحضارتهم وتاريخهم فيبقون أبداً مستمسكين بالعروة الوثقى والجوهر مستشعرين الواجب والمسؤولية كمواطنين صالحين وقدوة في كل ما يصدر عنهم من أعمال.
وتحية للجامعة ورسالتها الخيرة الخالدة.
* * *
أدبنا العربي الكلاسيكي كنز الكنوز الثقافية
أعتقد بأنني لا أجيء بجديد إذا قلت إنَّ عظمة الأدب تكون بمدى ارتباطه بالجذور التي ينتمي إليها.
فالأعمال الأدبية الجليلة الحديثة، لم تنفصل عن الأدب الكلاسيكي الذي هو نتاج مميز لطبيعة الإنسان الروحية وأول تعبير له عمّا يمكن تسميته الفكر.
وهو القانون الأدبي الأعلى وقنطرة البناء الثقافي للمعرفة، وهو أيضاً وأيضاً جامعة الجامعات والمصباح المشع لإنارة الفكر والحافز إلى الفن الخالد لأنه زاخر بكل ما يقود إلى ذلك.
إنَّ مطالبتنا بالاطلاع على تراثنا والاقتباس منه والسير على هدْيه لا يعني اعتزال آداب العالم، أو الوقوف بوجه الحداثة، فنحن نؤمن بالقول المأثور، كل قديم رأيته في حياتي، فإذا كنت تملك الجديد فهات، والتجديد لا يأتي بمعزل عن العلم والمعرفة، فلا يمكن لأي إنسان مهما كان صاحب موهبة أن يجدد في علم الطب أو الهندسة أو الاجتماع أو القانون وسواه، إذا لم يقم بدراسة ذلك العلم حق الدراسة، كذلك الأدب، فلا يعقل أن يجدد فيه الكاتب إذا لم يكن صاحب إلمام ومعرفة وثيقة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وإذا ما كنا منصفين فإننا نقولها بجرأة وصراحة: إنَّ ما اكتنز به الأدب الكلاسيكي في أيّ أمّة من الأمم من عظمة، بقي القمّة التي لم يصل إلى ذروتها أحد من كبار الأدباء والشعراء المعاصرين، فعلى سبيل المثال، فإنَّ بريطانيا لم تنجب حتى اليوم شاعراً كشكسبير، لهذا لا يمكننا الإشاحة بوجهنا عن أدبنا الكلاسيكي الذي هو أغلى ما نملك من تراث. والذي أقوله كأحد أنصار التمسّك بالكلاسيكية في الشعر العربي، لا يعني اننا نعادي الحديث الجيّد لأن التطوّر سُنّة من سنن الحياة، والتجديد علامة الديمومة، لكننا ضد الانقطاع عن جذورنا تحت أي حال من الأحوال.
في الخمسينيات من هذا القرن، أخذت تتبدّى في الوطن العربي ظاهرة ثقافية على شكل تحوّل عن أدبنا الكلاسيكي وما ضمّه في أبراده من تراث ثقافي عظيم لم يتح مثيله لأمّة من الأمم، ثم تحوّل إلى التجاهل، فإلى لون من النسيان، نسيان الأدب الذي يجب أن يكون مصدر اعتزازنا وفخارنا مثلما يجب أن يغدو حادي أدبنا الحديث، ومضى أصحاب التعلُّم والإبداع يكرّسون كل إمكاناتهم لدراسة الآداب الأجنبية، وكانت النتيجة عشق كل ما هو أجنبي ومحاولة تقليده في أسلوبه المتّبع في الشعر والنثر والقصة والرواية والمسرحية؛ وفي نفس الوقت، أخذ أصحاب الأمر فيما يتعلق بالنّشر يقللون من شأن الأدباء والشعراء العرب الذين حاولوا السّير على هَدْي أولئكَ العباقرة العِظام من أبناء الضّاد ليكونوا امتداداً لهم. وإذا ما ألقيْنا نظرة على أصحاب القلم في الدول الأجنبية، وجدناهم يقدّسون أدبهم الكلاسيكي ويقدّرون كلّ التقدير القدامى من أدبائهم وشعرائهم ونوابغهم، فنرى الرّوس يفخرون ببوشكين، والانجليز يعتزّون بشكسبير، والفرنسيّين يتباهَوْن بفكتور هيجو، والإيطاليين يزدهون بدانتي، والألمان يقدّسون غوتيه، ويحتفلون بذكراهم كما يحتفلون بذكرى كبار أدبائهم وشعرائهم، ويحرصون على نهْجهم في الكتابة، بينما نحن، تمر بنا ذكرى المتنبّي والبُحتري وابن تمّام وشوقي وحافظ وابن طفيل والفارابي والكندي وابن الهيثم، وأعداد من أعلام الفكر العربي، فلا نعيرهم التفاتاً بل على العكس، فثمّة من يحاول النّيل من مكانتهم وعبقريّتهم، فهناك فئة تقول: «ومَنْ هو المتنبّي»؟ ألمْ يكن مدّاحاً للخلفاء، وأخرى تقول:«إن فلاناً العالِم ليس عربياً»، وثالثة تزعم بأنه لم يأتِ بجديد، إلى غير ذلك من النّعوت التي لا تتطابق والمنطق والحس القومي الانتمائي، ولعمري ان هذا لَكُفْر، وانها إشارات لا تبشّر بخير، ويجب الوقوف عندها طويلاً. فكيف سنعزّز شخصيتنا القومية العربية ونجعلها مميزة وهناك عدد ليس بالقليل من أدبائنا يحاولون الانتقاص من عظمة أدبنا القديم؟
لقد قيل قديماً:
مَنْ لا يحب أدب أمّته لا يمكن أن يحب شيئاً، وان دم من يحب ثقافة أمّته يسقي شجرة خلودها.. نعم، إنَّ للثقافة العربية جذورها العميقة في الغرائز
والعواطف، ففيها:تكمن روح الزمن المجيد..
وفيها كل ما صنعه مفكّرونا وفكّروا وأبدعوا..
إنها حياتنا وحسّنا وحقيقتنا، وهي قوة مقدّسة ووحي كل حكمة وفلسفة وثقافة راقية. بقي أن نقول إن في خزانة أدبنا العربي الكلاسيكي (القديم) من الكنوز الثقافية ما يسهم إسهاماً عظيماً في إغناء المُخيِّلات العربية بما زخر به عبر القرون من الثقافة الرّفيعة وأروع الأمثولات والآراء النيِّرة والاختبارات الذهنية التي خلّفها السّلَف الصالح للأجيال بشعرهم وأدبهم وأقوالهم التي كانت المفتاح السحري إلى فهم أوسع وأشمل للحياة.
إن أدبنا الكلاسيكي بروعة بيانه، ينبوع إلهام ووحي دائم لا ينضب له معين، والآراء النّفيسة التي عبّر عنها في تراثه الخصيب مَنَحَتْنا خلاصة حضارتنا وحضارات أمم شتّى تعايشتْ معنا، فهو بحر خِضَمّ يصطخب بالمعرفة والمعاني العميقة والرّؤى السامية لشعرائنا وأدبائنا وفلاسفتنا وعلمائنا وقادتنا وفنّانينا.
قال حكيم عربي كبير:
إنَّ الأموات يرشدون الأحياء، وهذا القول يترجم الفكرة الأساسية والنظرية العلمية القائلة بأن كل حضارة هي ثمرة الماضي، ولن نتعايش والأدب العالمي الراهن بما يعود علينا بالجُلّى، إذا لم نرجع باستمرار إلى تراثنا الثقافي لأسلافنا وأجدادنا حيث يُلْهمنا الكتابة البلاغية ويوحي إلينا آي الفكر المميّز لروحانية الشرق. ومعرفة أدبنا الكلاسيكي معرفة صحيحة لا تلبي الحاجة إلى العلم الواسع فحسْب، بل تلبّي ضرورة الاهتداء إلى الأسلوب البياني الزّاخر بأسمى المعاني التي تكيّف ثقافتنا العربية وتوطّدها بحيث تتفاعل مع ثقافات الدُّنى فتتأثّر وتؤثِّر ولكن تبقى لها شخصيّتها الفريدة المميزة على الزّمن.
* * *
القــدس قدسنا وفلسطين بلادنا
ها هو ذا الخامس عشر من أيار يطل بوجهه البشع فيذكرنا بانقضاء ثمانية وثلاثين عاماً على وقوع أفدح مأساة في العصر الحديث مأساة اضطرار شعب عربي عريق أصيل عظيم للهجرة من وطنه أرض آبائه وأجداده لتسليمه إلى مشردي يهود في الدنى. وفي هذه الذكرى السوداء القاتمة نردد ما قاله مؤرخو التاريخ فنقول إذا كان لليهود ماض في فلسطين فللعرب ماض وحاضر إذا كان لليهود تاريخ انقطع منذ عشرات القرون فللعرب تاريخ متصل منذ عشرات القرون وما تاريخ الصهيونية في فلسطين سوى تاريخ قسوة صفحاته حالكة السواد وقد انقطع بجلائهم عنها ويأسهم من العودة إليها أما تاريخ العروبة في فلسطين فهو تاريخ مجيد زاخر بالبطولة إذ دافع أبطال العرب والإسلام عن هاتيك الديار دفاعاً مستميتاً واستقروا أعزاء كراماً وإذا كان لليهود في فلسطين بقايا آثار عفا عليها الزمان فللعرب آثار قائمة مشيدة شامخة كالطود تصل الماضي بالحاضر وتشهد بالمكارم والمآثر وإذا كان لليهود صفحات في الكتب فللعرب مجلدات مفعمة صحائف خالدة ومواقف باسلة في كل شبر بفلسطين وحسب العرب فخراً أنهم هزموا قوى الصليبيين مثلما هزموا التتار في معركة عين جالوت واجلوهم مثلما أجلوا الصليبيين في حطين إلى غير رجعة وأقروا مجد العروبة والإسلام فيها.
إن صاحب كل ضمير حي يعرف حق المعرفة أن الحق والخير هما إلى جانب العرب وأن الباطل والضلال والإفك تمثل اليهود ويمثّلونها ولسنا نقول ما نقول جزافا نعم لنحتكم إلى التاريخ ونقلب صحائفه لنرى كيف حمى العرب اليهود فيما مضى وأحسنوا إليهم وفسحوا لهم مكاناً في بلادهم يعيشون أحرارا ويغشون معابدهم ويتولون أمورهم الدينية دونما حرج وعندما فتح العرب فلسطين عام ستة عشر على يد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الروم يسيطرون على فلسطين وكان اليهود من بعض سكانها وظلوا يعيشون في كنف العرب أحراراً وعندما عبس الدهر بوجه العرب بدأ اليهود يزحمون أصحاب الديار في ديارهم أثر معاهدة سايكس بيكو ووعد بلفور ونسي اليهود أو تناسوا تاريخ العرب كله وأخذوا يرمونهم بكل ما في سجاياهم وتاريخهم من عداء وحقد للبشرية إلا من كان يهودياً وأخذت أجهزة إعلامهم تنادي بأن فلسطين بلادهم وهم أولى بها لأنهم عاشوا فيها زمنا وسيطروا عليها حقبة وأخذوا يقولون بتبجح لسنا نبالي أن يكون العرب استوطنوا قبلنا وبعدنا وعاشوا فيها أكثر مما عشنا وسيطروا عليها أكثر مما سيطرنا ودافعوا عنها ونحن مشردون تحت كل كوكب وهي ملأى بآثارهم ومآثرهم وعمرانهم.
ولسنا نأتي بجديد إذا قلنا أن منطق الصهيونية زور وبهتان وتزوير التاريخ وسيلة من أبسط وسائلهم وبعد فاليهود لا يعترفون بالمنطق ويشوهون الحقائق وإعلامهم إعلام تضليل وإفك وخداع وبهتان ولسنا نذكر أنهم استطاعوا خداع العالم ووظفوا ما يسمى بمذابح النازية لعطف الدنى عليهم ومؤازرتهم والوقوف بوجه الحق العربي الخالد في فلسطين.
فالمنطق إذن غير وارد حتى أن اليهود استخفّوا بهيئة الأمم المتحدة وأسمى أهدافهم أن يصبح أنف الحق راغماً وتغدو دعوة العدل صاغرة لتبقى الأرض لهم وأهل البلاد الحقيقيون مشردين مبعدين أو أسارى إنه منطق اليهود واضح فهم يزنون الأمور بميزان المال والمنفعة ويقدرون الأشياء بالفائدة فما دام الأمر كذلك وما دامت لغة الحق والمنطق والعدل معطلة فلا بد لنا نحن العرب وفي الذكرى الثامنة والثلاثين للنكبة وأي نكبة من الوحدة والتضامن والتلاحم لابد لنا نحن العرب من الدفاع عن حقنا بالدماء والأرواح والعتاد والمعدات لا بالقريض والتباكي والكلام والوعود لابد من دفاع فيه سنا من مواقف آبائنا الذين دافعوا عن قراهم بكل ما أوتوا من قوة ولنا وطيد الأمل بالله بأن الحق منتصر وبأن دولة الباطل ساعة وبأن دولة الحق إلى قيام الساعة وبأن الزبد سيذهب جفاء وأنف الصهيونية راغم ورأس الضلال صاغر بإذن الله ولا يأس مع الحياة فالحياة عقيدة وجهاد.
وفي هذا اليوم الخامس عشر من أيار نخاطب القدس فنقول:
القدس تُفَدّيها المُقلُ
القدس القلب لها نُزُلُ
والروح لأرْبُعِها مهر
والموت لنصرتها يحلو
والأقصى الخالد قبلتنا
وقيامة عيسى لن نسلو
يا أرض المعجزة الكبرى
الفجر المشرق سيطل
يا زهرة كل مدائننا
سيولي وينحسر الليل
والنصر ستبدو آيته
وسيخرج منك المحتل
ما كانت بلدي مذ كانت
إلا بركاناً يشتعل
واسوداً همّتها لهب
وسيوفاً للحق تُسَلُّ
يا أرضاً باركها الباري
ورحابا عاش بها الرسلُ
لن يبرح طيفك خاطرنا
فمكانك في القلب يحلُ
وعيون العرب صباح مساء
لربوعك أبداً ترتحلُ
وشفاه الأطفال صلاة
من أجل خلاصك تبتهلُ
من قال نسينا قبلتنا
الحر المؤمن لا يسلو
القدس تعيش بأعيننا
وفداء للقدس الكلُ
قسماً بالمهد وبالأقصى
قسماً بكماة ما ذلوا
سنعود لأرضك ياوطني
سنعود ويجتمع الشملُ
* * *
صحائف مشرقة من تاريخ الآباء معركة عمورية
معركة عمورية من المعارك التاريخية الحاسمة، وقعت عام مئتين وثلاثة وعشرين للهجرة.. وكان بطلها المعتصم وهو من أعاظم خلفاء الدولة العباسية، وقد أرخ الشاعر الخالد أبو تمام حبيب بن أوس انتصار المعتصم في هذه المعركة الفاصلة بقصيدته البائية المشهورة، ومطلعها:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحدُّ بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح ساطعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
ومما يروى عن أسباب معركة عمورية أنَّ رجلاً وقف على المعتصم وقال له... كنت بعمورية، وجارية من أحسن النساء قد لطمها علج رومي في وجهها فنادت وا معتصماه. فقال العلج.. وما يقدر عليه المعتصم، يجيء على أبلق وينصرك؟ وزاد ضربها.. فغضب المعتصم ورد وجهه إلى جهة عمورية وقال لبيك أيتها الجارية.. هذا المعتصم أجابك.. وتجهز في أثنى عشر ألف فرس أبلق..
ثم كان ما كان وهذه القصة بما فيها من إثارة لا نقدر أن نعتبرها السبب الرئيسي لتلكم الوقعة الكبرى، بل كانت أحد الأسباب أو بالأحرى أحد العوامل التي عجلت بإعلان المعتصم الحرب، لأن رجلاً داهية صنوه لا يمكن أن يجري إلى ساح الحرب اعتباطاً.. لكنه كان أبداً يستعد لحرب الروم استعداداً هائلاً يصل معه ليله بنهاره فقد كان معاصراً لأحد ملوك الروم وهو توفيل الذي كان ينتهز الفرص للانتقام من العرب الذين قهروه فكان له المعتصم بالمرصاد يعد الجيش ويزوده بالقوة والبناء والعتاد وعندما أتيحت الفرصة لملك الروم المشار إليه يوم وجه المعتصم جيشاً كبيراً لحرب أحد الخارجين على الدولة وهو بابك زحف توفيل في مئة ألف مقاتل حتى أتى «زبطره» فاحتلها وأعمل سيفه في الرقاب ثم أحرق المدينة، ومضى من فوره إلى «ملطيه» فأغار على أهلها وفعل بها كما فعل في «زبطره» وأكثر من القتل والسبي فبلغت أخبار فتكه أسماع المعتصم بسامراء.. فاشتد عليه وصاح النفير وبادر بإرسال طليعة عسكرية لتكون مدّادة للثغور العربية التي ذكرناها فلما شارفتها وجدت ملك الروم قد رحل عنها ليتحصن في عمورية. مسقط رأسه... ولم يضيع المعتصم وهو القائد الفذ البطل الوقت فتجهز جهازاً عسكرياً لم يتجهزه قائد قبله من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والخيول والقرب وآلة الحديد والنفط. وأقف عند النفط لأشير إلى أن العرب عرفوه قبل ألف ومئة سنة تقريباً. وكانت التعبئة هكذا.. وقسم المعتصم الجيش ثلاثة أقسام: الميسرة والقلب وفيه المعتصم، والميمنة وبين كل قسم فرسخان. فسارت هذه الأقسام الجبارة على تعبئة.. حتى بلغت عمورية إحدى مدن الروم وأمنع وأحصن معاقلها وبينها وبين أنقرة سبع مراحل، وقد تحصن أهل عمورية وتحرزوا فحاصرها الجيش المعتصمي ونصب المجانيق فضربت الأسوار بها وبالشعل النفطية لإتلافها.. حتى سقط منها جانب في ناحية القائد العربي بعد معاناة شديدة وأعمال بطولية خارقة قام بها أبطال العروبة ثم حصل التحام شديد وقتال ضار في ناحية الثلمة بعد أن ردمت الخنادق.. فاقتحم المجاهدون عمورية وهزموا الروم وانتقموا منهم بما فعلوه في الثغور العربية في ملطية وزبطرة وعندما عاد هذا الخليفة المقدام إلى سامراء كان دخوله إثر النصر يوماً مشهوداً.. وقد امتدحه أبو تمام بالقصيدة التي ذكرنا بعض أبياتها في مقدمة هذا الحديث، ومن أروع أبياتها قوله:
إن كان بين صروف الدهر من رحمٍ
موصولةٍ وذمام غير مقتضب
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسب
وكان من صفات المعتصم الشجاعة والإقدام وشدة البأس.
وكان يحب الزراعة ويقول إن فيها أموراً محمودة فأولها إحياء الأرض وعليها يزكو الخراج. وتكثر الأموال وتعيش البهائم وترخص الأسعار ويكثر الكسب.. وكان همه الأول الجيش وتقويته وتدريبه ليظل حامي الحمى ودرع الوطن وقد بنى للجيش مدينة سامراء التي ضاهت بغداد عمراناً وحضارة وازدهاراً.
وسلام على المعتصم في الخالدين.
* * *
معركة عين جالوت
قال أحد كبار مؤرخي التاريخ العالميين:
لو أنصف العالم الغربي العرب والملك المظفر سيف الدين قطز بصورة خاصة لأقاموا لذكراه المهرجانات وثبَّتوا نصباً تذكارياً له في كل ميدان في عواصم دنى العالم الراقية، فلولا الملك المظفر وانتصاره العظيم في عين جالوت والقضاء على التتار قضاء مبرماً لقضي على الحضارة الإنسانية لأنه في الفترة التي اندفعت فيها جيوش التتار عام ستمائة وثمانية عشر من هضاب الصين حملت معها الشر والهلاك والفناء وأغرقت وجرفت كل شيء في طريقها واكتسحت التركستان وأحرقت سلاطين خوارزم وأنزلت بالمدن الزاهرة الخراب والدمار وأعملت السيف في رقاب السكان فعم البلاء وانتشر الرعب وكثر المشردون.
ولم يقف بوجه جيوش التتار جيش ولا حصن لا في تركستان ولا في شرقي البلاد الإسلامية وأينما تلفّت تبصر الدمار والفناء وأنهار الدم التي فجرتها جحافل التتار الهمجية.
وقد وصف هذه الهجمة التتارية الهمجية ابن الأثير فقال:
هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق.
فلو قال قائل إن العالم منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها لكان صادقاً فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.. ومضت جيوش التتار تحرق في طريقها الأخضر واليابس وامتد فتحها في آسيا وأوروبا وتسلم قيادتها إثر وفاة جنكيز خان حفيده هولاكو مستهدفاً فتح حصون الإسماعيلية وبغداد فأخضع إيران والقوقاز واستولى على معظم قلاع الإسماعيلية ثم كانت الكارثة عندما استولى على بغداد وقضى على الخلافة العباسية عام ستمائة وستة وخمسين بعد أن بقي مقر الخلافة أكثر من خمسة قرون.
وثمل هولاكو وجيوشه بالانتصارات بعد أن أمضوا ثلاثين عاماً يسيرون من ظفر إلى ظفر، ومن دولة إلى دولة وأصبحت آسيا ما بين قراقرام «قاعدة مملكة جنكيز خان» وبغداد في قبضتهم وأوروبا الشرقية إلى بحر الأدرياتيك تمت لأمرهم وانطلق التتار إلى الشام فلم تستطع حلب لهم دفعاً فاستسلمت بعد شهرين وسارع أهل حماه إلى حلب يسلمون مفاتيح المدينة ولم تلبث للقوم مدينة بين حلب وغزة حتى أمراء الشام من بني أيوب إنحاز بعضهم إلى التتار.
وتطلع هولاكو إلى مصر وكان الملك المظفر يواكب الأحداث ويعايش المعارك ويرتفع إلى مستوى المهام الصعبة ويدرك بنظره الثاقب ومخيلته الملهمة وفكره النير أن قبلة نظر هولاكو وجيوشه الجرارة بعد بغداد والشام مصر، وإمكانات تصل بهم إلى بحر الظلمات فلم يضيع الفرصة والوقت فصبر وصابر وجاهد يلم الشمل ويرأب الصدع ويخلق من الفرقة وحدة ومن الضعف قوة ومن الذّعر ثباتاً ومن اليأس رجاء، ومضى يغتال الخوف من النفوس ويصل الليل بالنهار استعداداً وتدريباً وتعبئة نفسية ومعنوية ويكدس السلاح ويبتكر الخطط ويخطط ويدرس وأركان حرب جيشه.
وكانت نواة جيش الملك المظفر قوات مصرية وشامية «أردنية، فلسطينية، سورية، عراقية» وعرب البادية.
وأشعر هذا الرجل العظيم قواته أنها تخوض معركة فاصلة «نكون أو لا نكون».
وقال لهم: إذا هُزِمْتُم أمام التتار في عين جالوت بفلسطين فلا بقاء للأمة العربية والإسلامية بعد الآن، وأشعرهم أن العزائم المؤمنة تلد الانتصار.
وفي الخامس والعشرين من رمضان المبارك عام ستمائة وثمانية وخمسين للهجرة التقى في عين جالوت العرب وعلى رأسهم الملك المظفر بالتتار وعلى رأسهم كتبغا ونشبت معركة هائلة يعجز البيان عن وصفها وأذهل العرب التتار بإيمانهم وصبرهم وتكتيكهم وعظيم جهادهم وروعة تدريبهم وصمودهم وحسن بلائهم واستعمالهم للعتاد بصورة ممتازة وأسلوبهم المبتكر في الدفاع والهجوم والمحاورة والمناورة وكانت حملات التتار عنيفة مزلزلة لكن أبطال العروبة صمدوا لها فإذا بكتبغا مضرجاً بدمائه وابنه يقع أسيراً وجنده صرعى وكانت هزيمة التتار ساحقة ماحقة ففروا إلى الشرق ثم جمعوا جموعهم وحاولوا إعادة الكرة إلى حلب ولكن عين جالوت كانت الفيصل فغادر التتار الشام إلى غير رجعة وهكذا حفظ العرب بانتصارهم على التتار البرابرة المدنية العالمية.
* * *
الفراغ وإغناء الوقت
الفراغ مفسدة للعقل هكذا جاء في الأقوال المأثورة وتلكم هي الحقيقة الجلية التي تؤكدها النظريات العلمية الحديثة، ومساوئ الفراغ لا تعد ولا تحصى، وفي طليعتها القلق والضجر والاضطراب النفسي والوحشة والهموم والخوف. وكلها أخطار تتهدد حياة الإنسان.
ونظرة إلى المقاهي المكتظة وطاولات النرد والشوارع المزدحمة، بالمتسكعين والنوادي الليلية الحافلة تؤكد طغيان الفراغ، قال حكيم عربي، الوقت من ذهب، وهو يمر مرور السحاب فاستفد منه قدر المستطاع، أما المفكر العالمي فرانكلين فقال... إذا كنت تحب الحياة فلا تضع الوقت سدى؛ لأن الوقت هو المادة المصنوعة منها الحياة، وقال شكسبير: من يضع الوقت فالوقت يضيعه، وإغناء الوقت يمنحنا السعادة، وما السعادة إلا هذا الشعور العجيب، الذي يستولي على المرء، عندما يكون كثير الأعمال، بحيث لا يجد فراغاً يُحس فيه بالشقاء.
وعندما سئل برنارد شو عن أعظم الأعباء التي تواجه الإنسان.. قال الفراغ، من هنا لابد من ملء الوقت بالعمل المجدي، والهواية المفيدة، وثمة مجالات لا حصر لها بهذا الصدد، كالعمل التطوعي في الجمعيات الخيرية، والمطالعة والانتساب إلى النوادي الرياضية والاجتماعية والثقافية، والانتماء إلى كثير من المعاهد المهنية، أو تنمية أي لون من ألوان الفنون كالموسيقى والرسم والنحت، أو أي لون من ألوان المعارف الأخرى، وهكذا نُغْني الوقت بكل شيء خيِّر، وهكذا يسمو الوطن بعلوم أبنائه ومعارفهم وفنونهم، وتمضي عجلة التقدم فيه إلى الأمام، وإذا ما أمعنا النظر في سر نهضة الأمم الراقية، رأيناها تستغل وقتها خير استغلال، فإذا كنا نتطلع للغد الأنبل والأمثل، فلا ندع للفراغ مجالاً في حياتنا، ولنذكر أن الله تبارك وتعالى لا يعطي إلا دقيقة واحدة في وقت واحد، وهو لا يعطي الدقيقة الثانية إلا بعد أن يسترجع الأولى.
ولنذكر أيضاً أن الوقت مبرد يقطع بلا صوت. بقي أن نقول إننا لا نستهدف مما أشرنا إليه أن تكون ساعاتنا جدّاً بمعزل عن الترويح عن القلوب، وعبوساً لا أثر للمسرة فيها، كلا نحن ننادي بالقاعدة الذهبية.. اعمل واستمتع بالحياة، على ألا يطغى الفراغ على العمل، وأن تخضع أوقاته لحكم العقل، ونقسّمها إلى ما ينفع صحياً وعقلياً، ونختتم هذا الحديث بقول الفيلسوف الكبير إدوارد جوستاف أن قيمة الحياة!.. إن يحياها الإنسان، أن يحيا.. كل ساعة فيها.
* * *
حب الوطن
في شتى أحاديثنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى العادية تتردد كلمة الوطنية أو حب الوطن، فما هو حب الوطن؟! هل هو شعار نردده.. أم عمل صامت بنّاء.
وقبل أن نجيب.. تعالَ معي صديقي القارئ نستعرض ما قاله بهذا الصدد كبار مفكري العالم، وعلى رأسهم الحديث النبوي الشريف، حيث جاء في الحديث الشريف حب الوطن من الإيمان، والخروج عن الوطن عقوبة..
وقال قاسم أمين: حبُّ الوطن يعمل ولا يتكلم، وقال روبرت انفرسول حب الوطن.. كفاح مستمر من أجل جعله أرقى وأفضل، أما أمرسون فقال: حب الوطن له علاقة مباشرة بالأرض وزراعتها واستخراج خيراتها، وقال دانييل ويستر.. حب الوطن هو أن نجعل خدمته وإعلاء شأنه قبلة نظرنا أبدا
أما الدكتور فيلد فقال: حب الوطن جذوره عميقة في الغرائز والعواطف إنه امتداد للحب البنوي.
وهناك أسطورتان.. تقول الأولى: إن أحد مواطني روما التقى الإمبراطور فشكا له.. أنه لا يملك شيئاً فقال له الإمبراطور.. أتحب وطنك فأجاب كل الحب، فقال الإمبراطور.. إنك تملك الكثير فأنت غني بحب الوطن.
وجاء في الأسطورة الثانية، أن الخالق العظيم وهب البشر الأرض كلها ليحبوها.. ولكن لما كانت قلوبنا صغيرة فقد قضى على الإنسان بأن يخص بحبه بقعة واحدة أكثر من سائر البقاع هي التي ولد فيها وعاش تحت سمائها وأكل من خيرها.
حب الوطن إذن.. زراعة أرض واستثمارها وعمل دائب صامت خيِّر لبنائه ورفعة شأنه.
وما أصدق الشاعر الذي قال.. ليت لي عشرة سواعد لأبنيك أروع البناء
يا وطني.* * *
رومانسية الحياة
ترى.. ما الفرق بين أن نعيش وبين أن ننعم بالحياة؟.. إننا نفكر ونعمل ونتحرك ونأكل وننام ثم نصحو لنستقبل يوماً جديداً، فهذه هي الحياة ولكن.. كم منا يشعر حقيقة بأنه ينعم بحياته، ألا نبصر الكثيرين قد شاخت أرواحهم قبل أن تطرق يد الكهولة أجسامهم،.. إننا نبدأ حياتنا في سن الشباب ونحن أكثر ما نكون حماساً، وقد امتلأت نفوسنا بالتوقعات.. فنحن نتوقع النجاح.. نتوقع الشهرة ونمضي في الطريق بكل اندفاع، ولكن يحدث أننا لا نكاد نبلغ منتصف الدرب وربما قبل البدء بمسيرتنا حتى نفاجئ بريح باردة تهب علينا، فيلجأ البعض منا إلى جناحيه يستعين بهما كما تفعل الطيور وهي تجاهد من أجل إخفاء أجسامها الصغيرة وحمايتها من الصقيع فلا تلبث أن تشعر بالدفء والطمأنينة. ولكن ما أكثر الذين يتخلون عن أحلامهم وآمالهم عند أول نكسة، أو أول حجر يتعثرون فيه وهم يسيرون على طريق الحياة، فلا يلبث اليأس أن يحتويهم، وربما سارت بهم الحياة وساروا بها في طريق آخر، لفه الظلام، انتزع من قلوبهم رومانسية الحياة. وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان عندما يشعر بأنه لم يعد يحس بسحر الحياة، لم يعد يحب الحياة، إن حبنا للحياة وإحساسنا بنعمها، شيء لا يمكن أن يُقَدَّر بمال، وفقداننا لهذا الشعور مأساة، فالمرء قد يجمع من المال ما يجمع ويصيب من الشهرة ما يصيب وقد يحظى بكل تقدير وإعجاب، وبالرغم من ذلك فإننا نجد أن المتعة الحقيقية للحياة ليست في شيء من هذا كله، ولكنها في الاستمرار بالشعور برومانسية الحياة، وما نجده فيها من سحر وروعة وفن وجمال نحاول أبداً أن نكشف أسرارها وما تُخبئه وراءها من صور زائفة نراها في كل شيء من حولنا.
إنَّ الحياة أثمن من أن نضيعها فيما يصادفنا من هموم، ومشاكل ومتاعب تستغرق كل وقتنا وجهدنا، نحن نعيش حياتنا مرة، وهي تجربة عظيمة لا يجني الفائدة منها إلا العقلاء وحدهم العقلاء الذين يحرصون على الإبقاء على الحس المرهف الذي لا غنى للمرء عنه كي يشعر بقيمة الحياة وفلسفتها...
* * *
ميلاد تاريخ عز فيه الحق والخير
حَدَثٌ عظيم وفجر أطل على الإنسانية، ونهر تدفق بالبر والبركة. وعهد رفع لواء الحرية والعمل الطيب، جاعلاً الحياة جهاداً دائباً للخير والحق، باعثاً في الإنسان، الإيمان الموطد... حتى لا يأسره مطمع ولا تملكه أهواء. أجل إنه لحدث عظيم، وذكرى مجيدة ذكرى المولد النبوي الشريف، التي فيها من معاني العظمة والحق والفضائل... ما لا حصر له، وستبقى بما أرسته من مثل عليا، وصاغته من قيم كريمة، نبراساً ومناراً وشرعة ينحاز إليها الأخيار، ورحمة للعالمين وهدى للناس، وموعظة وعبرة.
ترى... كم في تاريخنا من أمجاد، ومن أبطال يربطهم بالميلاد سبب وأسباب، ثم ما وعى التاريخ البشري من سير علماء وفقهاء وكتاب وشعراء وفلاسفة، وما شاد الزمان من بناء وعمران. كل ذلك كتاب «الميلاد بيانه وعنوانه» ولا تزال هذه الذكرى الشذية، وحيا يملأ النفوس آمالاً، والقلوب إيماناً، والعزائم قوة... ونورا يخترق الحجب سناه ويلوح من خلال الأجيال ضياه. وفي حياة المصطفى نبصر كيف تخلص الإنسان من سلطان الضلال والباطل وذل العبودية في حياته صلوات الله وسلامه عليه من المعاني السامية، والقيم الرفيعة، ما يؤهل للحياة الكريمة، وكل خلق فاضل، ينشئ الأمة الفاضلة، وكل السمو والقيم الرفيعة التي تجعل الإنسان إنساناً خيِّراً يؤدي رسالته الإنسانية على أكمل وجه في هذه الحياة الدنيا... إن فيها من المواعظ والعبر البليغة ما يهدي إلى الحياة الكريمة ويخلق العظائم. فقد نقلت الدنى من الباطل إلى الهدى... ومن الجهل إلى المعرفة... وقد ألفت الجماعة المؤمنة الأولى التي انتشرت وجاهدت فإذا هي ملء الزمان عزماً وغلاباً... وإذا هي ترسي أرقى ألوان الحضارة؛ لأنها البذار الطيب، يجمعه الزارع، ويسقيه ثم يبذره، فيملأ الأرض خصباً وبركة، وبعد: فإن المولد النبوي المجيد في سجل الدنى، فرقد مشع، يُهتَدى به، في دجى القرون، ونداء صارخ إلى الحق الصراح، يجلجل عبر الزمن.
* * *
الإخراج فنّ وفلسفة
قال أحد علماء الإخراج التلفزيوني والسّينمائي إنَّ استكمال الإخراج لعناصره الجيّدة لن يتأتَّ إلا إذا كان المخرج على جانب كبير من الثقافة، طويل الباع في اللغة وفن الموسيقى، واسع المعرفة العلمية والاطلاع على المكتَسبات المعاصرة في هذا الفن الرفيع، ذلكم لأن افتقار ذهن المخرج إلى الثقافة وجهله بمستحدثات الحضارة الحديثة يسهم في انحسار آفاقه ويبعد خطاه عن درب الكمال.
ونظرة شاملة أو بالأحرى دراسة مستفيضة إلى مستوى الإخراج هنا وفي الوطن العربي ومقارنته بالإخراج العالمي، ترينا ضحالة المنزلة التي يحتلها المخرجون العرب باستثناء قلّة لا تكاد تشكّل نسبة. ولا أودّ التحامل، فقد يكون لجشع المنتجين والبخل وتطفُّل بعضهم على هذا الفن وعدم الإنفاق أثر هام في بدائية الإخراج العربي، وخلوّه من أبسط عناصر الإبداع والتفوّق أو مواكبة المستوى الراقي.
وفي خضمّ ما نشاهد من أفلام ومسلسلات عربية تطالعنا الركاكة والارتجال وقصر النظر، مثلما يطالعنا الطابع التجاري والسطحية وابتزاز الوقت، الأمر الذي أفقد المشاهد المثقف على الأقل الرغبة في الاستمتاع بما يرى أو الإقبال على الشاشة الصغيرة والكبيرة، كما أساء هذا اللون من الإخراج الرّديء إلى كبار أدبائنا العرب الذين اختُلِس إنتاجهم من قبل المارقين وتصرفوا به كما يحلو لهم في غمرة السرعة والسلق، وخرجوا به عن معناه الرائع، وجاءوا بالعجب العُجاب، ومثلما أسيء إلى أدبنا وتراثنا القومي، أسيء إلى الأدب العالمي، كنز الإنسانية النفيس تحريفاً وتشويهاً. إننا نود أن نؤكّد في مستَهَل هذا الحديث، بأن العمل الجيّد يتطلّب إنفاقاً جيّداً ومحترفاً جيداً ومتّسعاً من الوقت. ومعروف أن الأفلام التي خلّدت وخلّد مُخْرِجوها كفيلم ذهب مع الرّيح، وبذور الحرية، وبوذا، والأرض الطيّبة، والحرب والسلام، وآنا كارنينا، والأم، وجسر على نهر كواي، والبؤساء وسواها، لم يتأتّ لها ذلك إلا في أعقاب جهود مضنية استمرّت فترة طويلة ومبالغ طائلة، ولكن نتيجة هذا الجهد المعنوي الكبير والمادي الضخم لم تذهب عبثاً، فدرّتْ أضعاف أضعاف ما أُنْفِق، وكان الصدى العالمي والثناء وبقاء الذكر يربو على المال والسيولة النقدية.
وقديماً قيل: العمل الرائع... لم يُصْنَع في يوم.
ونعود الآن إلى ما نحن بشأنه فنقول... عرّف أساتذة فن الإخراج في العالم المتقدّم «الإخراج» بأنه علم وفن وفلسفة، وهو ككل علم له أصول وقواعد وأساليب تتعلق في جوهرها بالمعرفة بكل ما في هذه الكلمة من معنى عميق، والمعرفة هنا، أو الثقافة الواسعة إن صحّ التعبير، تعني ارتفاع القائم على الإخراج إلى مستوى المؤلّف فكرياً وعقليّاً وشعوريّاً، وذلك تسهيلاً للتجسيد والتجاوُب، وخلقاً للوحدة الفكرية كيلا يكون ثمّة تبايُن بين الأصل والصورة ولتكون الفائدة أعم وأشمل تبعث على الاستيعاب والاستمتاع بهاتيك الثروات الفكرية الكونية. وغني عن التعبير، أن الأمم تختلف في طرق إحساسها ونظرتها إلى الأشياء، فلها روابطها الحسّية والذهنية الخاصة، وتصوُّراتها وتراكيبها اللغوية مما لا يدع مجالاً للشك بأن الإخراج يتجاوز التجسيد السطحي الحرفي إلى البراعة الفنّية في إظهار الصور الأساسية، والتعبير القوي، ورسم المعنى أبدع رسم على الشاشة الصغيرة والكبيرة سواء بسواء. من هنا، يجدر بالمخرج لدى الشّروع بعمله أن يكون في موضع المؤلّف، وأن يتمثّل فكرته وأبعاده وسمو هدفه والروح العبقرية الفذّة التي تشعّ في ثنايا أسلوبه، ولا بدّ له أيضاً من الحس الانفعالي الهائل الذي يمكّنه من نقل ما يقرأ إلى أدنى البصر بإجادة تامة بعد أن يكون قد فهم النص فهماً شاملاً واستوعب المعنى، فيكون الإخراج هنا، وقد وُضِع له إطار غني بالرّواء والروعة والابتكار، قريباً من الكمال تترقرق في ثناياه الموسيقى والنّغم ورؤى الإيحاء التي هي من عناصر الإخراج الرائع...
وقد أثبتت التّجارب أن عمل المخرج في معركة التعبير هذه تكاد تساوي عمل المؤلّف نفسه، لأنه لا بدّ له من المعاناة لاكتساب القدرة على الإحاطة وللتمثيل والتجسيد، وهذا يرسم القاعدة الذهبية الأساسية في الإخراج، وهي انتقال المخرج من الكل إلى الجزء، أي من الفكرة الرئيسية إلى معنى كل عبارة، بعد أن يكون قد هضم النص وملك زمام المعنى العام، وتصوّر كل جملة وتريّث في تنظيم المحاكاة والرموز والفوتوغراف المعادل كل المعادلة للأصل. كما لا بدّ من الحفاظ على سلامة التعبير ودقّة المعاني كما أسلفْنا والتسلسل المنطقي في الأفكار...
وبعد، فإن الإخراج حقّاً فن وفلسفة، ومدرسة قائمة بذاتها لها دواعيها ومستلزماتها، ولا يخرج عن كونه رسالة كريمة يؤدي المخرج من خلالها خدمة جُلّى للثقافة وللأدب والفكر والعلم والفن والقيم الرفيعة والمعاني السامية.
* * *
كلمات.. في الموسيقى.. وأغنيتنا.. وأثرهما
أجمع أكثر الحكماء والعلماء والفلاسفة على القول المأثور...
(الموسيقى حديث الملائكة). والموسيقى محببة إلى النفوس، في أنفاسها.. سحر عجيب يهتز له القلب اهتزازات خاصة تفصل الذات عن الذات. فتطير أحاسيسه في فضاء لا حدود له ولا مدى.. فضاء يسري الإنسان الكون فيه حلم الأحلام. والجسد إناء ضيقاً محدوداً..
وتبثُّ الموسيقى في المخيلات رجاء وعاطفة ودفئاً ومشاعر سامية وتملأ الأثير أرواحاً لطيفة وتعلّم البشر أن يروا بسمعهم ويسمعوا بقلوبهم لأنها أغنية المحبة وخيال القلب الإنساني وثمرة الأسى وزهرة الحب وشذى الأزاهير ولسان المحبين وموهبة الشعر ومنظمة عقود الأوزان وموحدة الأفكار والكلمات ومؤلفة المشاعر من مؤثرات الجمال حسبما يرى المفكر الكبير جبران، والموسيقى.. تطهّر بسموها النفوس من الأدران. وتجسّد وتنمّي الرقة والذوق والحنان.
وحسبها.. هذه التموجات الأثيرية التي تحملنا إلى ما وراء المادة وترينا عالم الغيب.
قال أحد الحكماء.. الموسيقى هي لغة النفوس والألحان أنسام ندية تهز أوتار العواطف وأنامل رقيقة تطرق باب الأحاسيس وتأخذ بمجامع الوجدان. ووصفها أحد الفلاسفة بقوله: «إنها جسم من الخشاشة له روح من النفس وعقل من القلب. وقديما قيل: «وُجد الإنسان، فأوحيت إليه من العلاء لغة الموسيقى وهي ليست كاللغات لأنها تماثل مناجاة الأفئدة».
والموسيقى كالنور البهي تبعد دجى النفس وتنير القلب وتطهر الأعماق.. أما النفس، كما تصورها علماء النفس فهي زهرة يانعة يهزها الصَّبَا وتبث فيها الحياة قطرات الطل.
وبعد فلقد كانت الموسيقى منذ كان الوجود.. ولنطف الآن بأقدم العصور لنرى أي منزلة كانت للموسيقى في هاتيك الحقب. لقد قدسها الكلدانيون ومجدها المصريون والآشوريون وظنت أمم كثيرة في طليعتها الهنود والفرس إنها روح الله بين البشر فقال بهذا الصدد حكيم هندي:
إنَّ عذوبة الألحان توطد آمالي بوجود أبدية رائعة، أما اليونان والرومان فقد بنوا مذابح سامقة لها وابتدعوا رمزاً أسموه أبولون يحمل القيثارة وادّعوا أن نغمات أوتاره هي صدى صوت الطبيعة ينقلها عن تغريد الطيور وخرير الماء وتنهدات النسيم وحفيف الأغصان وهمس السواقي أما العرب فقد اهتموا بالموسيقى أعظم اهتمام وكان لهم علماؤهم ومؤلفاتهم وآلاتهم الموسيقية المبتكرة ولياليهم الساهرة الساحرة التي كانت تصدح بالموسيقى وأغاريد القيان. وهذا كله إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أن تأثير الموسيقى في النفس لا حدود له والموسيقى تفعل فعل السحر في الإنسان فتجدد العزم وتمنح القوة وتخفف العناء وتعالج الداء وتضاعف الإنتاج، وقبل هذا وذاك ترافق الموسيقى الإنسان في شتى مراحل الحياة.. لدى ميلاده وعند نومه طفلاً ويوم زواجه وحتى يوم ارتحاله من الدنى. تبرز الموسيقى لتمثل المشهد الدرامي في الحياة.. لأنها أرفع الفنون وأسماها معنى.. ولأنها أيضاً تصور حالات الإنسان المختلفة وترسم ملامح أطوار القلب وتوضح أخيلة ميول النفس وتصوغ ما يجول في الخاطر وتصف دقائق الجمال وفي كل نغمة من أنغامها معان وأسرار يفهمها القلب وتفقهها النفس.. فالموسيقى إذن تسمو بالروح وتهذب النفس وتصقل الأحاسيس وتُنَمّي الذوق والمُثُل والمعاني الكريمة.. إنها الثقافة بأجمل مستوياتها ولا غنى عنها لكل مجتمع يستهدف الغد الأنبل والأمثل والإنسان جسم وروح.. وكما يتطلب الجسم الغذاء المعروف ليحيا كذلك تتطلب الروح الغذاء.. والقصيدة والموسيقى.. هما غذاء الروح.
وبعد، هذه المقدمة الموجزة التي تناولنا بها أثر الموسيقى نعرّج على الأغنية والأغنية.. كلمة وموسيقى.. فنقول إنَّ عمر أغنيتنا من عمر هذا البلد الأصيل الشامخ الأردن. الذي واكب ميلاد التاريخ وأبصر حضارة الإنسان وحسبه فخراً وخلوداً أن ركب المدنية انطلق من رحابه المباركة.. وقد توارث الأغنية الخلف عن السلف فرافقت أيامهم ومواسمهم وأفراحهم وحروبهم وانتصارهم وأعيادهم وآساهم وفصولهم إلى غير ذلك من شؤون الحياة.. وللأغنية كما نلمس دور أساسي في الإعلام وخاصة في الدول النامية التي لا تعتبر الأغنية لوناً من الكماليات لأنها تكرس - بالإضافة إلى كونها لوناً من الطرب وغذاء الروح - لتحقيق أهداف كثيرة تتعلق بنهضة المجتمع النامي وخططه التنموية.. والأغنية للجندي حافز على رفع معنوياته وشحذ بأسه وبعث روح الاعتزاز في وطنه وأمته وأمجادها والفخر برسالته وأداء واجبه على أكمل وجه فيقبل على التضحية بقلب عامر بالإيمان دفاعاً عن كرامة شعبه وقدسية ترابه.
ولا يخامرنا شك بأنَّ الأغنية قمة الانتماء والاعتزاز الوطني وهي للعامل تذكي فيه الهمّة وتذكّره بأنَّ ما يبذله من جهد وعرق يدفع عجلة الصناعة قُدُماً إلى الأمام فيشمر عن ساعد الجد ليضاعف إنتاجه ويسهم في توطيد نهضة الحمى وكذلك الفلاح الذي تملأ الأغنية سمعه بشذا أرضه وطيب أنسامها وخصب تربتها وإنها مصدر الثروة الأكبر، وبمقدار ما يمنحها من عناء ورعاية واهتمام يمنح الوطن الأمن والخير والبركة والنماء.
أما الطالب في معهده فيحس بأن الأغنية أو النشيد يهيب به أن يضاعف من بذله ليكون المتفوق في المستقبل فهو عماد الغد الآتي.. وعليه يُبني الأمل وتقام الأماني فيستعذب السهر ويصل الليل بالنهار ليكون عند حسن الظن به.. والمواطن موظفاً كان أو في أيّ موقع تفعل الأغنية في نفسه فعل السحر من حيث صداها العاطفي فلا يتواكل عن تفان ودأب لدفع عجلة المسيرة الواثقة بالله نحو الكمال.. هذا على صعيد الأغنية الوطنية أما على صعيد الأغنية العاطفية فهي بمثابة الواحة في المَهْمَهِ القفر تلطف أجواء المتعب وترفّه عن نفسه وتشرح صدره وتمنحه المزيد من القدرة والحيوية والنشاط.
ولو أردنا أن نعدد ما للأغنية من جدوى لطال بنا المقام لأن الحديث عنها شيق مفعم شؤونا وشجونا.. ولكننا نوجز فنقول إنَّ الأغنية مدرسة تجل حسناتها عن الحصر فهي كما أسلفنا.. تبهج الخاطر وتسر الفؤاد إذا كانت عاطفية.. كما أنها تذكر بحب الوطن إذا كانت وطنية مثلما تذكر بسجايا المواطن الصالح الذي يحرص على أن يكون القدوة الطيبة في كل ما يصدر عنه من قول أو عمل.. وبالبال هنا الأغنية الجيدة بعناصرها الثلاثة.. الكلمة المشرقة العذبة.. واللحن الجيد والصوت الموهوب.. فالكلمة واللحن والموسيقى والصوت هي مادة الأغنية الناجحة وما دمنا نتحدث عن الأغنية فلابد من الإشارة إلى أنواعها.. فهناك الأغنية الوطنية والقصيدة الغنائية الوطنية والعاطفية والنشيد والأهزوجة والاسكتش الغنائي وأغاني الأطفال ولا يفوتني الإشارة إلى أغاني البادية الحبيبة وتتناول الأغنية الوطنية كما نعلم حب الوطن والتغني بجماله وروائه وأمجاده والحث على العطاء من أجل رفعته وكرامته وكذلك القصيدة الوطنية الغنائية - والقصيدة هنا شعر موزون مقفى بالفصحى، أما الأغنية العاطفية فتتحدث عن الحب العذري والعاطفة الإنسانية وتعدد سجايا الحبيب وما يتميز به من جمال وبهاء وعيون نجلاء بعيداً عن الإسفاف وكذلك القصيدة الغنائية العاطفية فإنها تنحو نفس المنحى من حيث المعنى.
أما الأهزوجة فتتحدث عن مزايا شعبنا وأصالته وتقاليده وبطولاته وكرمه وتمرده على الضيم.. ونحن في الأردن نتفرد في أهازيجنا تفرداً ملحوظاً.. أما النشيد فهو في طليعة الأغاني الوطنية لجزالة ألفاظه وسمو معناه ودعوته إلى الجُلّى واستنهاض الهمم بقي الاسكتش أو القصة الغنائية.. فما زلنا نفتقر إلى المزيد منه ولا يفوتني أن أذكر أغاني الأطفال التي تنمي فيهم حب الوطن والوالدين وتبعث فيهم الفخر بأمسهم الوضاء وأجدادهم وتحبب إليهم الخلق والعلم بأسلوب مبسط.
وباختصار فإنَّ للأغنية كما أسلفنا دوراً فعالاً وحسبها أنها أولاً وأخيراً تعمق روح الانتماء والاعتزاز في المواطن فيؤمن بأن الوطن بيته الكبير يحبه ويستميت في الدفاع عنه ويضحي من أجل كرامته ويعمل أقصى ما يستطيع لبنائه ولا يمدّ إليه يد السَلَب ولا يكون صاحب ولاء مزدوج نحوه.
أجل، إِنَّ دور الأغنية على صعيد الإعلام دور فعال ولا ريب أنها تحتل منزلة رئيسية في أجهزته المختلفة لقربها من النفس وسهولة حفظها وجمال موسيقاها وكلماتها ومعانيها وتمثل أغنيتنا الأردنية خصائص شعبنا الكريم وأصالته ونبيل صفائه وما يتميز به من خلق وندى وفروسية وحب عذري وإيثار ومثل وتطلع للتراث واعتزاز بالماضي وتوثب لإرساء دعائم مستقبل مشرق بإذن الله.
ومن دواعي الفخار أن فولكلورنا الأردني يتصف بعفويته وعذرية ألحانه وتيسر حفظها وتفردها بالموسيقى القريبة من النفس المحببة إلى الفؤاد مثلما يتصف برصانة كلماته وما تحمله على أجنحتها من خيال ورواء ومعان بديعة ليس فيها خروج عن قواعد اللياقة والأدب وللحق والحقيقة فإن إذاعتنا الأردنية، إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية قد أولت الأغنية الأردنية منذ تأسيسها حتى اليوم عناية خاصة ولما تزل تحاول استقطاب المواهب الفنية والكفاءات الموسيقية. وعلى أي حال فإن المفروض ألا تنتهي طموحاتنا عند حد وذلك لدخول ميدان المنافسة وإبراز فنها بشكل واسع فلابد من إرسال البعثات الموسيقية والتفتيش بمصباح ديوجين عن المواهب في كل مجال.. صوتا كان أو موسيقياً أو مؤلفاً وتكريس الإمكانات العادية لتحقيق هذا الهدف النبيل.. إن الأردن موطن المجد.. ووجه البهاء والسحر وساح الفروسية والشرف ومعقل الصمود وبلد المواهب والكفاءات بورك كل من أحبه وعشقه وتغنى بأرضه وسمائه ومائه وهوائه وبهائه وروائه وجناته وآلائه وأنفته وإبائه ونادى ببنائه وفدائه.
بورك كل من كان الأردن على شفتيه حداء سؤدد وأهزوجة اعتزاز ونشيد خلود وأغنية حب.
وإذا كان مهر كرامته الدماء.. أفلا يطيب بذكره الغناء؟؟..
تنامون والحوادث يقظى
قبل ثمانية قرون، أحسَّ أحد كبار شعراء الأندلس وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي، بأنَّ الخطر الداهم يلوح في الأفق، في أبراد الإسبان فوجّه إلى أبناء العروبة في تلكم الربوع هذا النداء المؤثر المنبثق من قلب ينزف دماً على ما آل إليه أمر العروبة آنذاك إذ أصبح أمرها هوانا بعد عزة، وفرقة بعد وحدة، فأراد أبو عبد الله في ندائه استصراخ الضمائر وإيقاظ النفوس وإحياء العزائم والهمم ليتدبر أولو الأمر أمرهم، قبل أن يندموا ولات ساعة مندم... قال القضاعي يستصرخ أبناء العروبة تنامون والحوادث يقظى..
وتبطئون والخطوات تسرع...
ولا تلقون الحادثات بعدتها من التدبر والحزم وجمع الكلمة وإجماع الرأي وسرعة الفعل، وكأنى بهذا النداء نداء شاعر الأندلس يصلح اليوم لأن يكون نداء إلى الأمة العربية، حتى لا تنام والحوادث يقظى وتبطئ والخطوب تسرع وحتى تتنادى إلى جمع الكلمة وسرعة الفعل...
إنَّ الأمم الحية في معترك الحوادث ثبتت بعقل يرشدها، وخلق يحفظ لها اتزانها، وكفاح تدفع به عن حياتها وتقرير مصيرها، وتحفظ ذكرها في التاريخ وتتصدى لسبل المؤامرات كالصخرة ينشق عنها الماء وهي راسخة كالطود.
وإذا لم تتسلح الأمة بهذا العتاد جرفتها الحادثات وذهب بها الزمان..
وما يجري في بيروت الشامخة الصامدة اليوم يقص قصة الخطب الجسيم الذي حلَّ بأمتنا إنه خطب يزلزل النفوس بأهوال وكوارث تهز الصم الجلاد، فالعدوان الإسرائيلي قذف إلى المعركة بكل ما لديه من أسلحة فتاكة وما أدرك الشيطان من وسائل التدمير المحرمة...
والقتل والفتك فكان آلاف الأبرياء حطباً لهذا الجحيم المندلع بحراً وبراً وجواً...
أجل ما يجري من مجازر في بيروت يقوم بها عدو الله والحق والبشرية، ألا يهيب بأمتنا أن تلقى الحوادث بعدتها وكفايتها من جمع الكلمة والحزم والالتقاء حول رأي واحد وخطة عامة تلتقي عندها الأهداف بأسرها..
منذ أربعة وثلاثين عاماً والدول العربية تعيش الخطر الصهيوني الساحق والجحيم الرهيب الذي تحياه بيروت اليوم ومن يدري من يحياه غدا، الأمر الذي يحتم علينا أن نسلك درب التعاون والتقارب والسير يداً واحدة وقلباً واحداً، فهذه الدول العربية في الحقيقة أمة واحدة يؤلف بينها ما يؤلف بين الأمة الواحدة والحقائق الماثلة والتاريخ والضرورات والحاجات تؤكد أن الوضع أخطر من أن تقعد دونه الهمم لأنَّ العدو لا يعرف الهوادة في مجازره وجرائمه البربرية...
فمتى نتصدى له بما يتطلبه (التصدي الحقيقي) من وحدة صف ويقظة وإجماع رأي وسرعة فعل لنتدبر الحاضر والمستقبل...
إنَّ الأجيال العربية الصاعدة تصر على هذا السؤال إصرار الحريص على طلبه القلق على مستقبل بلاده لأنه يعيش ضوضاء المعركة الطاحنة وأنباءَها ويحسُّ براكين لظاها ومصائبها...
إنَّ الأمة الحية لا يخيفها الجبروت ما دامت على حق، والحق منتصر في النهاية وهذا ما يؤكد تاريخ الإنسان على الأرض في صراعه من أجل رفع لواء الحق... إنَّ الأمة الحية لا تتجاهل الحاضر فتعد الخطط التي تكفل لها تجنب الهوان وتتعظ وتعتبر من الحوادث التي تزلزل الأرض تحتها ولا يكون شأنها شأن من ينام والحوادث يقظى وكأنَّ ما يجري حوله لا يعنيه من قريب أو بعيد، بقي أن نقول...
إنَّ التاريخ يتكلم بلسان غير ذي عوج فيقول:
إنَّ صبر المجاهد لا يهزم...
وخلق المؤمن لا يدمر..
وإرادة الحرية لا تقهر..
وبالإيمان والصبر والإرادة تهزأ الأمة بالحوادث وهي هائلة وتستخف بالهزائم وإن كانت ماحقة...
وتسير بالأمل والظلم مطبقة والخطوب مزلزلة وتقسم بالله الرحمن الرحيم في هوج العواصف أنْ تحوّل الضعف قوة والنكبة والنكسة نصراً مبيناً.
* * *
(1) انظر فاروق خورشيد: بين الأدب والصحافة ص 126.
(2) عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة الصحفية ص 213 - 214.
)[1]( Clarence Barnhart: The new century Handbook of English literature P409.
([2]) انظر كتابه: جنة العبيط، ص 5-6 ومحمد نجم: فن المقالة، ص 102 - 106.
([3]) انظر سيد قطب: النقد الأدبي، أصوله ومناهجه، ص 102 وعلي الطاهر: مقدمة في
النقد الأدبي.([4]) عيسى الناعوري: ثقافتنا في خمسين عاما، ص 242 - 245.
([5]) محمد نجم: فن المقالة؛ ص 4 وعطاء الله كفافي: المقالة الأدبية في مصر وموقفها من قضية فلسطين، ص 1-3. وانظر دأسامه شهاب: صحيفة الجزيرة الأردنية: دورها في الحركة الأدبية، ص 179 - 180.
([6]) العبقريات/ دراسات المطبعة الكاثوليكية، عمان، 1974م.
([7]) الدكتور سمير قطامي، مع سليمان المشيني في نثره، ندوة تكريم الأستاذ المشيني،
السلط، 2007م.([8]) محاضرة ألقيت في اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين.
([9]) تفضل الأستاذ المشيني بإهداء الباحث نسخة منها.
([10]) انظر مقالة الأستاذ المشيني «الترجمة... رسالة مثلى».
(*) كُتِبَ هذا المقال قبل ربع قرن تقريباً.