"من أجل سلامة وأمان إنساننا على الطرق"

 لقد كانت تجربة إزالة الشجيرات الكثيفة الأوراق من الجزر الوسطية على بعض من شوارعنا الرئيسية موفقة للغاية، وذلك  لمساهمة هذه الشجيرات مباشرة في حوادث الدهس الناجمة عن عدم تمكن السائقين رؤية من يقف أو ينتصب خلفها، وخصوصاً الأطفال والصغار والذين يندفعون فجأة دون سابق إنذار لعبور الشوارع. ومن الملاحظ أن الشجيرات المزروعة على رؤوس الجزر الوسطية تحديداً، تشكل سبباً مباشراً في حوادث الطرق أيضاً كونها تحجب رؤية السائق كلياً في حال الالتفاف أو تغيير المسرب.

وإذا كنا لا ننكر ما تقدمه الأشجار المزروعة بطريقة سليمة على الأرصفة وفي الجزر الوسطية من جمالية للبيئة وما تحدثه في النفس من صفاء.. فإننا نأمل انتقاء الأشجار ذات الجذوع الطويلة المرتفعة، جميلة الأغصان بهية الأوراق لهذه الغاية، بدلا من المتواجد حاليا من "الدفلى واللكسترم والرادونيا وغيرها" والتي تناسب مواقع أخرى، ولا نظن هذا بالأمر العسير أو المتعذر على من يعنيهم الأمر.

وفي السياق نفسه، فان الكثير من اللوحات الإعلانية الضخمة والمتواجدة على الجزر الوسطية والأرصفة الجانبية تـُسهم في الحوادث المؤلمة، بسبب تنصيبها على قواعد عريضة منخفضة كافية لحجب من يقف خلفها تماماً وخصوصاً مع حلول الظلام. كما لا يخفى على أحد أن بعضاً من الشباب المستهترين الذين لا تعنيهم سلامة الآخرين على الطرق، يقومون بالضغط على دواسة الفرامل فجأة للإبطاء أو التوقف لقراءة المدون على هذه اللوحات من إعلانات مغرية براقة... أو لنقل رقم هاتف الجهة المعلنة، مما يسبب كارثة مرورية لارتطام السيارات بعضها ببعض...وعليه فمن الضرورة بمكان إعادة دراسة وضعية هذه اللوحات الإعلانية وقد صارت لكثرة أعدادها تضيع من بينها شاخصات المرور التحذيرية والإرشادية المهمة لكل سائق. مع دهشتنا لقيام البعض وبكل جرأة بتثبيت لوحاتهم الإعلانية على أعمدة الكهرباء والإنارة!

وفي الوقت الذي نثمن فيه لأمانة عمان الكبرى تهيئة ممرات خاصة على بعض الأرصفة، للتسهيل على اخوتنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، فإننا نأمل من دوريات الأمانة والمنتشرة في كل مكان من عمان والذين يشاهدون سلبيات معينة تمريرها لمدراء المناطق فيصار الى حلها على الفور، فلا تبقى للفرجة والايذاء، مثال: خلع ما تبقى من قواعد الأعمدة والتي تبرز منها براغ ومسامير حادة، حيث نلاحظها كثيراً على الأرصفة والجزر الوسطية كونها تشكل مصائد ترتطم بها أرجل المشاة. كذلك الأحواض المحاطة ببقايا الآجر الأحمر على الأرصفة، والتي كانت تحتضن أشجاراً ذات يوم فصارت خرائب تعيق حركة المارة .. حتى إذا اصطدمت قدم أحدهم بها ألقته إلى وسط الشارع، فيكون فريسة سهلة للمركبات، علما أن أحواضاً كهذه في دول العالم تغطى بنوع من الشبك الحديدي يسمح بدخول مياه الأمطار شتاءً إلى باطن الأرض ليغذي المياه الجوفية ويكون في ارتفاعه مساوياً تماماً لمستوى الرصيف فلا يسبب أذى لأحد.

ولربما يبرز من يقول أن هناك ممرات للمشاة على كافة شوارعنا وجسوراً معلقة وماذا بعد؟ أليس: "كل من ذنبه على جنبه"، لكننا نرى في سلامة وأمان انساننا على الطرق أفضل ألف مرة من شجيرات هنا وإعلانات هناك!

horizontal rule

 

"بكبات  نقل الغاز.. تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة"

 لما كانت صهاريج نقل الوقود قد حظيت بعناية فائقة من الجهات المختصة، بعد حادث تدهور وانقلاب صهريج نقل البنزين المروّع قبل عامين، والذي أودى بحياة مواطنين أبرياء في منطقة المهاجرين بعمان، فصار تحرك ودخول هذه الصهاريج إلى المدن في ساعات محددة ليلاً... مع الحرص الشديد على وضعها الميكانيكي السليم وكفاءة سائقيها. فإننا نجد "بكبات" نقل اسطوانات الغاز والتي تضاعفت أعدادها لزيادة الطلب على هذه السلعة الاستهلاكية، تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة العامة.

وللتدليل على ما نقول نرى في حركة هذه "البكبات" طوال النهار على الطرق وتعرض اسطوانات الغاز المكشوفة على ظهرها لأشعة الشمس اللاهبة مباشرة، واحتكاكها وارتطامها بعضها مع بعض بقوة، لعدم توفر حواجز بينها بسبب السرعة أو عند التقاءها بالمطبات أو للوقوف المفاجئ. وأيضاً في حال استخدام السائقين طرقاً جانبية ترابية في بعض المناطق قيد الإنشاء للوصول إلى الزبائن قبل غيرهم، حيث تتراقص الاسطوانات بشكل غريب.

ولا يغيب عن البال، الأسلوب المتبع في إلقاء الموزعين للعبوات الفارغة بكل ما لديهم من قوة فوق المعبأة! ومضافاً إلى ما أسلفنا، أن الكثير من هذه الاسطوانات معرض لتسرب الغاز بسبب عبث بعض العاملين في مخازن التوزيع وقيامهم بسحب شيء من محتوياتها لصالح عبوات ذات أحجام أخرى بطرق بدائية... على الرغم من وجود اللاصق المدموغ بشعار "شركة مصفاة البترول الأردنية المساهمة المحدودة" إشارة إلى أنها كاملة الوزن محكمة الإغلاق، حيث يصار إلى إعادة لف هذا اللاصق بشكل يوحي للعميل أن الاسطوانة تمام التمام وكما وردت من المصدر...

أما والحال بهذا السوء، ألا يحق لنا أن نسأل ماذا لو قذف إنسان جاهل سيجارته من فوق إحدى الشرفات أو من مكان آخر قريب على هذه الاسطوانات المكشوفة وقد انشغل السائق خلف مقوده، والعامل بنقل اسطوانة لأحد البيوت؟ وهل يتمتع العاملون في حقل توزيع الغاز بأية خبرات عن كيفية التعامل مع هذه السلعة الخطرة فيما لو حصل خلل ما؟ ولا ننسى أن العديد منهم يقومون بتركيب هذه الاسطوانات في بيوت المواطنين وخصوصاً كبار السن الذين يتعذر عليهم ذلك، مستخدمين عود كبريت أو ولاعة يقربونها إلى عنق الاسطوانة للتأكد من أن الأمور على ما يرام!

إن أخوف ما نخافه، أن يشير أحد موزعي الغاز وقد تسلح بسيجارة مشتعلة بين شفتيه، إلى إطفائية لم يتدرب عليها... معلقة بشكل بارز على ظهر سيارته التي يعمل عليها وكأنها الحل لكل ما قدمنا، علماً أن نزعها من موقعها على ضعفها في معالجة ظروف كهذه... وتشغيلها يحتاج إلى وقت، والوقت مهم جداً هنا حفاظاً على أرواح الناس.     

ثمة ملاحظة، لماذا لا يصار إلى طلاء اسطوانات الغاز القديمة المتسخة والتي تدخل عنوة إلى مطابخ ومساكن وأماكن عمل المواطنين على الرغم من رفضهم لها، إلا أن الحاجة تلزمهم الرضوخ لأوامر الموزعين وقبولها، مع تأكيدنا على أهمية شطب المطعوج منها والتي تشكل قنابل موقوتة!

horizontal rule

 

" كلمة في غربة الراعي "

 ترجل من سيارة أجرة كعادته...عكازه في يمينه، وكتابٌ في شماله... سلّمت وقبلّت... قال غربة الراعي بين يديك، لكن الشوط لم ينته بعد! أجبت نعم، ونحن عِـطاشٌ إلى المزيد من عطاء قلمك... لك بإذن الله طول العمر المقرون بالصحة .

لم أجد أعذب ولا أروع من مقولة جبران خليل جبران الخالدة، لتجسد ما انتابني من إعجاب وأنا أطالع "غربة الراعي" السيرة الذاتية للأستاذ الدكتور إحسان عباس.

يقول جبران: "وهناك الذين يعطون، ولا يعرفون للألم معنىً في عطائهم... ولا يتطـّلبون فرحاً، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم... هؤلاء يعطون مما عندهم، كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي. بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض!

إن القارئ المتمعن المتتبع لسيرة حياة أديبنا الكبير، ولما سال عليه قلمه الثر من دراسات وترجمات وبحوث، ليلمس لديه منهجاً فلسفياً خاصاً تغذيه الأمانة في تدوين الوقائع كما هي دون زخرفات. وبأسلوب مبسط مفهوم ومعبر، يؤكد عمق التجربة الفريدة التي عاشها، فيجد قلماً صادقاً شريفاً... فالقلم الشريف المنزه الصادق له قدسية خاصة، وله رهبة في النفس للأثر الذي يخلفه كما يصر الدكتور إحسان في كل لقاء كان يجمعنا، مستشهداً بهذه الأبيات من شعر ابن الرومي:

لعمرك ما السيف سيف الكميّ      بـأخــوف مـن قــلـم الـكـاتــب

لـــه شــاهــــــــــد أن تأمـلــتـه      ظـهـرت عـلـى ســره الـغائــب

أراه الــــمـنـــــيـة مـن جــانبــ      ـيه فمن مـثـله رهـبـة الراهـب

ألـم تـرَ فـي صدره كالســـــنان      وفي الردف كالمرهف القاضب

   يمكن للأديب أن يظهر أعماله الأدبية بطرق شتى، ولكن أن يكون عمله الأدبي معطاء بصورة منزهة، دون أن ينظر إلى مقدار ما يأخذ، فإنه يرتفع إلى مستوى الخير الأسمى... وعظمة أستاذنا هي قدرته على تغذية هذا العطاء الذي لا يمكن أن يبلغ هذا المقدار إلا إذا جاوز الواقع وتسامى من خلال التجرد عن الذات وعن المادة، وهذا ما أشار إليه أستاذنا في سيرته الذاتية بقوله: "لقد سهوت في كل حياتي عن قيمة المال" وهذا فعلاً حال الشرفاء، ألم يهدر شاعرنا الشنفرى في نفس المعنى قائلاً:

واستف ترب الأرض كيلا يرى له      عليّ من الفضل امرؤ متفضل

وفي الموضوع عينه يقول المعري:

ووجـدت نـفـس الحُـرّ تـجـعل كفه      صِفـراً وتـلـزمـه بـما لا يـلـزم

ولما كان النوابغ أشد الناس تألماً كما قال الفيلسوف شوبنهور، فقد استطاع الأستاذ الكبير الدكتور إحسان عباس التغلب على الصعوبات الجمة والعراقيل، التي رافقت مسيرة حياته بالمثابرة والعمل والإيمان، بأن ثمة تدبيراً لا يدركه العقل البشري يكيـّف أهداف المرء ويحركها.

إن القارئ المتفحص لهذه السيرة يجد إشارات وتلميحات مختصرة، لمحطات تاريخية هامة من تاريخ أمتنا العربية، يجدر التوقف عندها، وعمل بحوث ودراسات مستفيضة حولها لتسهم في خدمة الحضارة العربية حاضرها ومستقبلها.

فألف تحية تقدير لصاحب هذه السيرة المباركة ولعطائه المتميز المتكامل.

**********

يقول مايكل أنجلو : " لا شيء في النفس أعظم ولا أنقى من الجهد لإبداع أثر كامل."

horizontal rule

 

" منازل  قوم  حد ثتنا  حد يثهم... "

      قبل أكثر من عشرة قرون مرّ أبو الهيثم عبد الواحد وهو أصغر أخوة أبي العلاء المعري برجل يقلع حجارة من  "سيات" وهي المعرة القديمة فأنشد موبخاً:

مررتُ بربعٍ من سياتَ فراعني         به زجلُ الأحجار تحت المعاول

أمُـتـلفـَها...شـلت يمـينـَـكَ خـلها         لـمعـتبـرٍ أو زائـــرٍ أو مـسـائــل

مـنـازل قـوم حـدثتـنـا حديـثـَهـم         فلم أرَ أحلى من حديث الـمنازل

ويكاد المشهد أن يتجدد ومعاول الهدم تتطاول على معلم تراثي من معالم عمان تختزن فيه وتتجسد الذاكرة الوطنية الأردنية انه " مقهى حمدان " وللحقيقة نقول أننا نكبر الوقفة المشرفة التي وقفها انساننا الواعي ولأسلوبه الحضاري في التعبير عن رفضه وتصديه لمن يحاول المساس بتاريخه وتراثه وفي أي موقع كان وذلك بهدم كل قديم نافع وطمس معالمه لاستبداله بأشياء ممسوخة حديثة بينما يحمل في جوانبه روعة وهيبة..  وفي شقوق جدرانه عبير الفن والأزل كونه يدل على عظمة الأجداد ونبوغهم .

وغير بعيد عن هذا المكان وفي قلب عمان أيضاً كان هناك بناء مهجور يبكي زماناً قد عبر، تتراقص الرياح في حناياه وتعزف أناشيد حزينة تستصرخ من يبعث فيه الحياة، حتى استيقظ من غفوته على عبير عطر يتسامى في آفاقه ويد حانية ترعاه ، انه ديوان ممدوح البشارات والذي يشكل الآن متحفاً أردنياً تراثياً حيث تتجسد فيه روعة العمران والهندسة التي تميزت بها أبنية عمان في مستهل القرن التاسع عشر. وفي موعد أخاله مضروباً مع الزمن جاء كتأييد تزامن مع الحدث تحلق نخبة من الشعراء والأدباء ومحبي التراث لينشد الشاعر اللبناني الكبير جورج شكور مجموعة من أعذب قصائده نقف بفخر عند هذه الأبيات :

من ذرى لبنان آتٍ ، وعلي         مـن شــذا أرزاتــه العـليـا شـذي

قلب لبنان معي يهـتف بــي         طبـت، يـا أردن، يـا شـعباً وفــي

دمـت، يا عمـان، ثغراً لؤلؤاً         يا عروس الشعر، يا وجهاً بهي

وبعدها همسات حب :

شو العمر..نتفة حب،وغناني وزهر

وتــعــيــش بــصـحــابــك

ون غبـت رح يـبـقـى الشـعــر

وحـلوات عـم بـتـبـوّس كـتابـك

***

دنية ربيع وشمس مالت ع الغياب

ترسم ع وجّ البحر شلال الدّهـب

وقلبك ع قـلبي يدق،دقـاـتو ربـابْ

عم يسألك شو الشعر؟شو يلّي انكتب

أحلى القصايد هيك ما بتعرف كـتابْ..

 

ليتبعه الشاعر اللبناني الكبير رفيق روحانا شادياً:

لـِــعبِـة مــجــد لـِـعبت.

تعِــبت. وراســــي مال

عَ بــَـــالـــــك بـــالبـَـال.

وكـِــــبـِــر الســُـــــؤال

الــلـّــي خـَـــلانِـي تعِبت.

 أما وقد تحطم صمت المكان وتراقصت جدرانه ابتهاجاً إذ انبعثت فيه الحياة .. فيتراءى عرار شاعر الأردن الخالد أمام ناظري الأستاذ الشاعر سليمان المشيني ليخاطبه بقصيدة رائعة طرب لها الحضور في ديوان التراث هذا حيث جاء فيها:

يا أيها الصوت الحبيب لقلبنا        يـا مـن به تزهـو وتفخر اربـدُ

أردننـا أبــداً بـذكـرك هاتــف       وبديع شعرك في القلوب مخلدُ

 إنها الأطلال التي بكى البعض عليها وقوفاً،قد صارت مصدر وحي والهام لفنانين وشعراء وكتاب ذوي ذوق رهيف وتصورٍ أنيق فتحولت من حجارة صماء إلى شخوص حية تحرك الوجدان والعواطف وتنطلق بها متسامية إلى آفاق رحبة لا حدود لها،  فتاريخ الأمة وآثارها وتراثها أمانة يجب أن تبقى للأجيال، وأن المسؤولية تقضي أن نتغلغل في أحشاء الماضي لنفتش عن تاريخنا وتراثنا علنا نجد ما كان ضائعاً منه أو مغيباً بين الأمس واليوم لبعث الحياة فيه من جديد!


 

horizontal rule

"سارق النار ..  كاسر حدود الثواني ..  طه حسين"

 

" ضوء عينيك .. أم هما نجمتان؟     كلــهم لا يــرى، وأنــت تـــراني "

   لم تكن مهنته التطبيب بل التزيين، ولو توافد عليه أهل القرية أملاً بالشفاء... انه حلاق "عـزبـة الكيلو" الذي عبث بعيني ذلك الطفل البريء فأطفأ بصره وهو في الثانية من عمره ، إنها مأساة طفل ابتدأت قصته منذ ذلك الحادث الرهيب يتجلد للصدمة ويطوي جرحها في أعماقه مبتدءاً صراعه مع الدنيا بعد أن خذلته الدنيا...فقرر أن يشق طريقه بإصرار ومكابرة إلى الحياة لا يعوقه فقد البصر عن غاية طموحه آنذاك بأن يكون طالباً أزهرياً... فكان له هذا الأمل ليمضي عشر سنوات من الدراسة في الأزهر، ويكبر الأمل لينطلق إلى الجامعة الأهلية وينال سنة ١٩١٤ أول شهادة دكتوراه تمنحها الجامعة، وكان موضوع رسالته "ذكرى أبي العلاء" إحياءً لمن كان ضريراً مثله " رهين المحبسين " صاحب الثوب الأحمر... آخر ما علق ببصره من الدنيا...وقد البسوه إياه في علته قبل أن يطفئ الجدري نور عينيه بشهادته "لا أعرف من الألوان إلا الأحمر...لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعُصفر، لا أعقل غير ذلك ".

ويمضي طه حسين في مسيرته الدراسية وبدعم قوي من أخيار قدروا فيه طاقة مبدعة ونبوغاً جلياً  فتهيأ له أن يستكمل ثقافته في باريس، حتى استطاع أن ينال شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون بامتياز.

طه حسين صاحب رسالة آمن بها فوهب لها حياته بأمانة إذ طالب بتحكيم العقل وإعْمال الفكر في أية مسألة... ليعرف الإنسان أين هو على أساس أن تفكير المرء يدله على وجوده متأثراً بفلسفة ديكارت " أنا أفكر اذاً أنا موجود " .

 ولقد تحسس طه حسين وراقب ببصيرته الخارقة أمراض المجتمع وفساد الحياة العامة بأشكالها المختلفة، فمن جانب أمامه نفوس معذبة تواقه إلى التحرر تواجه أناساً متغطرسه ضيقة التفكير تعيش على التزلف والتملق والدجل.. ومن جانب آخر خلل الأوضاع الاجتماعية وفساد في الأوضاع الاقتصادية وما تحمله من ضياع لحقوق الناس بسبب الخوف، فقرر أن يستنفر طاقاته لاصلاح ما كان معوجاً وتهذيب ما كان مضطرباً عن طريق الدعوة للمعرفة والتعلم والتصدي للجهل كي تسلم كرامة الإنسان...فإذا ما ارتفع الجهل زال الخوف وانتصر العقل أليس عانى بسبب الجهل فقدان بصره !

لقد أبدى طه حسين اهتماماً عنيفاً بضرورة الاتصال بما أبدع الفكر الغربي، واستلهام النافع من آداب الغرب فهو كالتطعيم يُرقيّ الأجناس وينوّعها وينعشها... مع دفاعه المجيد عن التراث العربي وأهمية النهل من  خزائن العرب فالميراث الأدبي واسع... والأدب عنده غذاء للروح، كما أن حرية الفكر وتوفر مناخ فكري رحب يساهم ويساند نشاط الأديب وتحركه. محذراً الكاتب في الوقت نفسه من أن يكون أداة بيد أية جهة أو أن يكون قلمه خادماً لأحد بل عليه أن يصغي إلى صوت ضميره، وأن يكون متأنياً مدققاً ومراجعاً لما يكتبه... حتى لا يكون نصيب أعماله التي يقيسها بعض الكتاب بالكم... مثل عشب الحقل الذي ينمو قليلاً ثم يضمحل من وجه الشمس نارها ونورها وهذا مع الأسف ما نعانيه الآن على الساحة الثقافية.

فلا بدع بعد هذا كله، أن يسدد المفكر الفذ والباحث الموسوعي الدكتور محمود السمرة سهم يراعه ليصيب المرمى، فيتمكن بفضل فكره النير وغزير مخزونه الثقافي من الغوص البعيد في شخصية وأعمال ومرامي وطموحات حبيب البيان طه حسين "سارق النار" كما أراد أن يسميـه نزار قباني في إشارة منه إلى بروميثيوس " في الأسطورة الإغريقية" وليقدم هذا الكتاب لينشر في موعد أخاله مضروباً مع المطر المنهمر في شهر كانون، والموقد والنار أمران حتميان، لينبعث شعاع نور بارق لإنارة العقول الساعية إلى الحقيقة.

انه هديته لأبناء هذه الأمة وللمعنيين في المسألة الثقافية وفاءً بحق عميد الأدب العربي الذي طمس حديثه أو كاد في الذاكرة وغاب اسمه عن مجالس الثـقافة... إظهاراً لفضله واستنهاضاً للهمم لتدارس أدبه وآثاره وقد وفق لذلك... وسيعلم القارئ المتمعن أن الدكتور السمرة قد أدى عملاً عظيماً للأجيال في زمن نخشى فيه على لسان العرب.                                    

ولعلي أرى في إنجاز هذا العمل تتميماً لما عالجه في كتابه دراسات في الأدب والفكر حيث يقول "لكي نصبح أبناء الحياة، فنعيش عصرنا ونصبح مشاركين في بناء حضارته، علينا الإيمان بالعقل سبيلاً إلى المعرفة، وهادياً لنا في سلوكنا وتصرفاتنا... والإيمان بالحق والعدل سبيلاً إلى الطمأنينة واستقرار المجتمع... والإيمان بالإنسان سبيلاً إلى الخلق والإبداع وبناء الحضارة."
 

horizontal rule

 

" العرب والمستقبل... كتاب يدفئ أعماق القلب"

عندما يعتلي باحث فذ ومفكر واسع الإطلاع يخفق بين ضلوعه قلب الشرق العظيم المنبر ويحاضر مستعيناً بتوقد ذهنه الفطري، حشداً من المثقـفين والعلماء والمفكرين النابهة، فيبث فيهم بسخاء أفكاره وآراءه عن واقع العالم العربي، وتصوراته لمستقبله، نتساءل لماذا لا يصار إلى الاغتراف مما قدم وتوسيع مجال الدراسة حوله بمناقشته ولفت الأنظار إلى أهميته.

نجيء بهذه المقدمة ونحن نتصفح عملاً جليل القدر هو "العرب والمستقبل مقاربات فكرية" للمغفور له بإذن الله الأستاذ محمود الشريف، والصادر بمناسبة الذكرى الثانية لرحيله عن هذه الفانية اعترافاً بالجهد الكبير الذي قدمه لأمته ووطنه.

لقد ضم الكتاب بين دفتيه مجموعة محاضرات وبحوثاً كان المؤلف يشفعها بشواهد من التاريخ تحت عناوين: الأمة العربية وتحديات المستقبل، وتأملات في مستقبل الشعب الفلسطيني، واللاجئون الفلسطينيون وحق العودة، والعرب والإسلام في الصحافة الغربية، ومراجعة كتاب التاريخ اليهودي والديانة اليهودية، والمرأة والأسرة بين المبادئ الإسلامية ومعالجة القوانين الوضعية، ودور المجتمع في مكافحة الفساد .

ولما كان المرحوم واحداً ممن يزنون أقدار الناس بمعايير الحق والإنصاف، فقد احتوى الكتاب على كلمات وفاء ورثاء لأصدقائه الذين لهم بصمات جلية على تاريخ الأردن المعاصر. وقد جاءت تحت عناوين: المرحوم عبد الحميد شرف كما عرفته، في رثاء أكرم زعيتر ، وأضواء على سيرة وأعمال جمعه حماد . كذلك عقد باباً بعنوان "فلسفة اللاعنف هل تصلح للشرق الأوسط " وهي فلسفة المهاتماغاندي والملقب بالروح العظيم هذا الزعيم الهندي الخالد الذي زهد في الذات وترفع عن المنافع ولم يكن في قلبه مكان لغير المحبة والسلام...  

ويبسط المؤلف التحديات التي تواجه الأمة العربية ومنها الانفجار السكاني وما يترتب عليه من مشاكل توفير الغذاء والماء، داعياً إلى التعاون العربي والذي يراه الحل الأجدى وذلك لإمكانيات المنطقة الغزيرة بمواردها. كما أن التعاون العربي يعني في مضامينه الرئيسة نبذ الانكماش والشقاق والتقاطع والعداء...فلا قوة في نظره غير قوة الجماعة تتنادى لمصلحة المجموع .. فالأمم التي بلغت قمة المجد كان هذا نبراسها. ومن هنا جاء قوله " إن التشرذم هو من أخطر التحديات التي تواجه الأمة العربية" 

لقد صار السلام حقيقة لا مفر عنها، ولعله التحدي الأكبر الذي يواجه العرب، ومن هنا  فقد أدرجه المؤلف ضمن التحديات على أساس : "لم يعد بوسع أية قوة عكس الاتجاه نحو السلام " ومن هذا المنطلق فقد رأى تركيز الجهود والعقول على رسم الخطط والسياسات التي تمنحنا من السلام أكبر قدر ممكن من فوائده وثمراته، وتجنبنا ما يمكن أن يجلبه من خسائر وما قد يفرزه من سلبيات... وفي الوقت نفسه لا يجوز تعظيم أخطاء الماضي وإضاعة الوقت في الجدل العقيم حوله ففي هذا ما يصدئ القلب ويكد القريحة لاستحالة العودة إلى الوراء، يقول المؤلف وهو صاحب الخبرة والدراية "هناك متغيرات تعطي لكل مرحلة من مراحل التاريخ سماتها الخاصة... كما لا يجوز أن نركن عند معطيات الحاضر ونخلع عليه صفة الثبات فالمستقبل يعنينا."

كذلك يدعو ببصيرته النافذة إلى ضرورة " ردم الفجوة التكنولوجية التي تفصلنا عن العالم المتحضر (والامساك كغيرنا) بناصية التقدم العلمي وتسخير ثمرات العقل الإنساني للنهوض بالمجتمعات العربية"

ونرى جلياً في هذا الكتاب القيم تركيز المؤلف على ضرورة التعاضد والتآلـف والتكاثف بين بني البشر، والابتعاد عن الآفاق الضيقة طلباً لانتصار النور على الظلمة في الفرد كما في الجماعة. يقول المؤلف : "إن التحديات الكبرى التي ستواجه الجنس البشري في العقود القادمة هي أشد صعوبة من كل ما واجهته البشرية في تاريخها... وبالتالي فإن مواجهتها والتغلب عليها يتطلبان التعاون والتعاضد بين أتباع كافة الديانات على أساس من التكافؤ والاحترام المتبادل" أي التعاون على البر والتقوى ومحاربة كل مظاهر الظلم والعدوان. " 

ولدى مطالعة محاضرته الهامة بعنوان "اللاجئون الفلسطينيون وحق العودة" نرى نفساً آلمها عدم قيام أحد برصد وتسجيل مأساة اللاجئين الفلسطينيين المروعة وابعادها في فيلم وثائقي متكامل من إنتاج عربي صرف يكون لذاكرة الأجيال، كيف لا وهم اكثر اللاجئين على مدى العصور! والغريب في الأمر أن المتوفر على الساحة أفلامٌ غير منتجة عربياً تحرك المشاهد لمصلحة أطراف معينة لتمحي من الأجيال هذه الأسطورة من الصبر والعذاب والتحمل... وداعيا في الوقت نفسه الشعب الفلسطيني للمحافظة على ذاكرته وهويته وثقافته وقهر اليأس والتمسك بالأمل محذرا من محاولات التفتيت والإذابة ومحو الذاكرة الوطنية .

وإذا كان اليأس يقتل الأماني فان الصبر هو الذي يحقق الغايات ويحطم الصعاب والعقبات،يقول الشاعر:

 

وما غلب الأيام مثل مجرب         إذا غلبته غاية غلب الصبرا

 

وعلى هذا الإيمان والأمل، يقول المؤلف: " إن الأمة العربية قادرة على النهوض من عثرتها، وقادرة بما لديها من حيوية وعزيمة وتصميم على نبذ كل عوامل الضعف والترهل والانبعاث من جديد."           

وتحضرني الآن هذه الفقرة عن العرب وهي شهادة حق على لسان أشعر شعراء إسبانيا فرنسيسكو فيلاسبازا والذي كان متوطناً في البرازيل " يولد العرب فيخلق معهم النضوج وتواكبهم الحكمة... وإنك لتستشف في نظرات أطفالهم العذراء روحاً قديماً تجول الخبرة فيه فلا تلبث أن تقول ما ذلك من هذا العالم... بل من قوة وراء هذا العالم."

إن هذا الانجاز بحق هو صدى لأحاسيس ومشاعر الراحل الكبير محمود الشريف  " يدفئ أعماق القلب ويرفع القارئ من ضوضاء الأحداث واليأس الذي يحاصره إلى دروب التفاؤل والأمل."

ولا أجد من كلمة ختام سوى هذا البيت الذي يدور في ذهني الآن أراه يستحقه مؤلف هذا الكتاب، وهو للشاعر اللبناني الكبير جورج شكور:

 

بعضُ الوجوه تـُحّبُ وهي بعيـدة ٌ         خلفَ التـُرابِ تَـهُّم أن تتكشفـا

 

horizontal rule

 

وقفة مع " ثلاث رسائل مفتوحة إلى الشباب العربي "

  من سعة علمه وأصالة رأيه وعمق تجربته، سدد سمو الأمير الحسن بن طلال حفظه الله قلمه السيـّال صوب الشباب العربي في مقال غني المادة شيــق أرق من نسيم السحر بعنوان  " ثلاث رسائل مفتوحة إلى الشباب العربي"، وقد صدر هذا المقال في جريدة الدستور الغراء نهار 25 شباط ٢٠٠٥.

ومن حرص سموّه الشديد على مصلحة ومستقبل الشباب العربي، وعلى أساس " أن المجتمع العربي لا يقوم إلا بالتواصل مع الشباب الذين هم المستقبل" استهل سموه الرسالة الأولى ببيتين من روائع شعر المعري صاحب البصيرة المتقدة يدلان على الإيثار والتفكير بالآخر والوفاء للوطن والمجتمع، ويحفزان على الارتفاع عن الأنا إلى ال أنت .. إلى ال نحن إلى الجميع.

 

ولـو أنـي حبـيـت الخلـد فـرداً         لما أحببت في الخلد انفرادا

فلا هطلت عـلي ولا بأرضي         سحائب ليـس تنتظـم البلادا

 

إنها لحقيقة أن لا شيء أعظم من أن يضع الإنسان نفسه موضع الآخر وأن يسهم في تخفيف آلامه ويعضده، دون أن ينتظر مقابل هذا ثناءً أو إطراءً. يقول الأب توما ميرتون في كتابه لا أحد يشكل جزيرة لنفسه : "لا نستطيع أن نفهم أخوتنا على حقيقتهم إلا بمقدار محبتنا لهم... وكلما دنونا من الله دنونا من القريب ."  ويقول أحد الحكماء: " أخدم قبل ذاتك من هو أقل منك سعادة... فالإنسان ينقذ نفسه بإنقاذ الآخرين."

أن " إبراز الهوية الوسطية للأمة والتي تعب من تجارب سائر الأمم " كما أشار سموه تعني فيما تعني التخلي عن الأطر الضيقة والسمو على الطوائف والعصبـيات ومحاورة الآخر بالتي هي أحسن، فالخالق الحق السرمدي الثابت الأزلية واحد، وهو جلت قدرته أسمى من كل ما علمونا عنه.. والطبيعة البشرية أيضاً واحدة، والدين هو تراحم وتكافل ومحبة . يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه " من علامات الصادق في اخوة أخيه أن يقيل علله ويسد خلله ويغفر زلـلــه."

وعلى الشباب العربي أن يكونوا أوفى الناس بالعهود، وأحرصهم على الالتزام بالواجب فلا يتقاعسوا أمام عمل ولا يتخاذلوا أمام عقبة، وعليهم الارتفاع والتسامي والتصدي لأصحاب المآرب الفردية هواة السفسطة، والذين يغربلون الناس بغربالهم الممزق.

وفي الوقت الذي يدعو سموه الشباب إلى التفاؤل والإيمان بالمستقبل...والتحرر من ربقة اليأس ومجابهة الرزايا ورفع كابوسها بثبات، فإننا نعتب على من يغدون ويروحون منهم شاكين الانكسار والخذلان وكأن الآفاق قد أظلمت من حولهم واضعين اللوم على الدهر انه يحاربهم مع أن الأسس والحق يقال قد أرسيت لهم ، يقول سموه وهو العالم المتبحر المنقب "إن الرواد الأوائل قد أعفونا من مشقة البدايات فنحن نبدأ من حيث انتهى غيرنا" ونستذكر هنا ما قاله المعري صاحب

الثوب الأحمر المصبوغ بالعصفر كما وصف نفسه... وهو آخر ما علق ببصره من الدنيا قبل أن يطفئ الجدري نور عينيه، لكل متذمر شاك :

 

إذا الفتى  ذم عيشا في شبيبته         ماذا يقول إذا عصر الشباب مضى

 

وإذا كان إنسان اليوم يعيش في أوج ثورة العلم والتكنولوجيا المتمثلة بسرعة استدعاء المعرفة من الحاسوب وهذه من هبات الله للعقل البشري،  فإننا نلاحظ أن بعضاً من التقنيات والتي غدت في متناول يد نفر من الشباب، قد صارت ضرورات تمارس طغياناً عليهم وصاروا خاضعين لها... والخوف كل الخوف أن تقتلعهم من جوهرهم وأصلهم وأصالتهم، لتركيزهم فقط على الجانب السلبي منها.

وعليه فان سموه يدعو إلى "ثقافة الاستدامة أي المصفوفة من منظومة العادات والتقاليد العظيمة وأخلاقياتها"  ونرى في هذا المراد ما يصل إلى الأعماق الروحية والنفسية والحياتية للإنسان ... ذلك أن جزءاً غير قليل من ثقافة اليوم قد انحرف وصار ضحلاً لا عمق فيه، يحرك الحيوان بداخل الإنسان ولا يأبه لما فيه من إنسانية !

كما أن دعوة سموه إلى بذل الجهود على المستوى العربي "لجذب الموهوبين والمتنورين حتى من المهجر لبناء رأس المال البشري بكل أبعاده ومضامينه" تستأهل متابعة جادة على المستوى العربي ولعل الخطوة الأولى كما أشار سموه هي في "إقامة ندوة عن قضايا الشباب العربي والمقصود الشباب العربي في كل مكان إذ لا تنوير ولا تطوير دون شبابنا في المهجر." وإن في التواصل مع الشباب العربي في المغتربات للحفاظ على لغتهم وتراثهم وتاريخهم سعادة لأرضهم الطيبة العطشى لعطائهم. ذلك أن ما يدمي الفؤاد أن يكون المذياع بأغانيه الشرقية القديمة نقطة تواصل وحيدة مع أوطانهم لتنهمر دموعهم مدراراً مع كلماتها وإيقاعاتها. وفي السياق نفسه فإن تهيئة المناخات الملائمة وفرص الإبداع والإنتاج أمر حتمي ضروري لكبح نزف الأدمغة وهجرة العقول. ولا يسعنا إلا أن نثمن ونكبر دعوة سموه الشباب العربي في المسكونة كلها للاعتداد بلغة الضاد والمحافظة عليها سليمة، وأرى المعري الذي لا يعرفني بالطبع.. وقد جمعنا على محبته، يطل مهيباً وقوراً من وراء العصور منشداً :

 

أتمشي القوافي تحت غير لوائنا         ونحـن علـى قـُـوّالـِهـا أمــراءُ

 

ويشدد سموه في رسائله التي تحمل خواطر وأفكار نيره تستحق وقفات استقراء متأنية ومقالات عديدة حيث يتعذر الإحاطة بها في مقال واحد، على أن تكون "العلاقة بين الشيب والشباب علاقة محبة واحترام" وأن ينهل الشباب من خبرات الآباء والأجداد الذين محصتهم السنين، ذلك إن ذبل جسد الواحد منهم وعلا الشيب هامته فالنفس بداخله حاشا لها أن تشيب،  يقول شوقي :

 

ولـي بيـن الضلوع دمٌ ولحـمٌ         هما الواهي الذي ثكل الشباب

 

وكلمة ختام " يستطيع الشباب العربي أن يفعل الأعاجيب ويحقق المعجزات عن طريق أندية حوار في المدارس والمعاهد والجامعات تحت خيمة برلمان للشباب العربي ."   هذه فكرة سمو الأمير الحسن حفظه الله من اجل التنمية الشاملة المستدامة أي " التنمية بمفهومها الكلي التي تتداخل فيها الأبعاد الإنسانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية "  فهلا تابع الشباب العربي هذه الفكرة الرائدة بهمة وحكمة ليعظم الانتماء والإنماء؟.

 

horizontal rule

 

"الأم تريزا  نبراسٌ مشعٌ لخدمة الفقراء"

 في الوقت الذي يتهافت فيه الملايين من البشر في العالم، فرحين مغتبطين يزهون بأزياء مبتكرة تبهر الأنظار، نحو مسرات ومباهج زائلة أو سعياً لمجد زائف، ويسخرون أوقاتهم رخيصة لهذه الزمنيات، كانت الأم تريزا تخاطب من أراد الاحتفاء بها " الفقراء العديدون بانتظاري وليس لي متسعٌ من الوقت للترفيه والراحة " انه نذر الأم تريزا بملء اختيارها لخدمة أفقر الفقراء والذي كرست نفسها لاتمامه في عالم يكاد يختنق من هيمنة المادة عليه.

أبصرت اغنيس باياجيو النور سنة ١٩١٠ في بلدة سكوبي المقدونية، وارتدت ثوب الفقر والعفة والطاعة وهي في الثامنة عشر من عمرها، وكانت وجهتها كالكوتا الهند  ليرتبط مصيرها بمصير أفقر فقرائها ومنبوذيها ومرضاها، تاركة وراءها بهرجة الحياة، وسراب مدنية العصر، ومجد الناس، ونفضت عنها كل زينة تـئـد الروح... فأحبت المرضى والمحرومين والبرص المهملين والأولاد المرذولين اللقطاء... وقد مر الأثرياء من أمامهم مشيحين عنهم بوجوههم ونافرين منهم، لا بل وتخلى الأهل في أحيان كثيرة عنهم! هذا يتأفف وذاك يتذمر، فصار العالم مظلماً  أمامهم فلا من مواس ولا من معين ولا من أنيس ولا من سمير... وفي هذا الصدد تقول " ليس البرص والسل وغيرهما من الأمراض الوبيلة هي المصيبة الكبرى في الحياة، ولكن المرض الأكثر فتكاً وإيلاماً في النفوس والأجساد على السواء، هو الإهمال والاحتقار نكـف بهما المعذبين على الأرض فنجرعهم غصص الآلام أنفاسا".

كانت أماً للمنبوذين المنكفئين على ذواتهم لتهوين مصائبهم، تتعهدهم بعنايتها، وتمحضهم حبها وتنضح جراحهم الجسدية ببلسم التعزية، مع من تحلق حولها من مرسلات المحبة، بكل تواضعٍ  ونكران للذات فكانت ترى في وجه كل مريض أو فقير أو مشرد، مرآة صافية تعكس جمالاً مشرقاً متلألئاً، ذلك انهم في نظرها منحة من السماء وزهور مختلفة تزين حديقة الكون ولهم الحق في العيش  بكرامة. فالحياة لا تكون إلا باحتضانهم ووقف صراخهم الذي يذيب القلوب، بتأمين ملجأ رعاية وعطف لهم بغض النظر عن لونهم أو طائفتهم أو عقيدتهم أو هويتهم ولسان حالها يقول " إن الناس غير جوعى إلى ملاجئ من الطوب بل إلى قلوب تحميهم وتظللهم بالعطف والرعاية والحنان."

إن مرسلات المحبة اللاتي اتصفت حياتهن بالتقوى والفضيلة، وتخلين بملء اختيارهن عن مباهج هذا العالم واتـجـهن بأبصارهن إلى العلاء حيث شعاع الحق والهدى، قد قدمن أنفسهـن لما هو أبقى وأسمى وانصرفن إلى رعاية المرضى والفقراء والمعوزين يتعهدنـَهُم بالمأوى والعلاج والطعام ويصبرن بحنو الأمهات عليهم ليخففن الآلام عن قلوبهم الكسيرة  قائلين مع أمهم تريزا "جماعتي هم الفقراء.. صحتي هي صحتهم.. وبيتي هو بيت المعدمين الذين ينفر الجميع منهم لأنهم مبتلون بأمراض سارية ! "

أما شعارهم فهو "لا تطلب من إنسان..." وبناء عليه فانهم لا يطرقون الأبواب استجداءً بل سلموا للعناية الإلهية أمورهم فاستجابت لحاجات من هم برعايتهم ... واستمرت حياتهم الخاصة كمرسلات على أقسى ما يتوقع المرء من شظف العيش ليعيشوا الفقر ويطبقوه بدقه على أنفسهم تقول الام تريزا " لكي نفهم ونساعد المفتقرين إلي كل شيء.. علينا أن نعيش مثلهم فالفرق بيننا وبينهم هو أن فقرهم مفروض عليهم وأما فقرنا فبملء اختيارنا. "

ولقد انتشر في أصقاع الدنيا أريج أعمالها، فسجلت للعالم موقفاً لا ينسى عندما عملت ليلاً ونهاراً بصحبة بناتها مرسلات المحبة في مخيم للمشردين فتك به داء الكوليرا في بنغلادش بعزيمة وصبر وإيمان. ولم تسمح لهذا الواقع المؤلم أن يصيبها بالإحباط، على الرغم من النداءات الموجهة لها بتجنب التواجد في هذا الظرف الصحي القاسي و ضرورة الانسحاب منه.

 ولقد تم منحها العديد من الأوسمة، وشهادات الدكتوراه، وجائزة نوبل للسلام، وجائزة جون كيندي، وجائزة رئيس جمهورية الهند، ووساماً رفيعاً من جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه لأهدافها الإنسانية النبيلة ولجهودها وتفانيها في خدمة الإنسان حيثما توزعت فيها إرسالياتها، ونخص بالذكر إرساليتها التي تعمل بصمت وورع في الأردن .

إنها الأم القديسة تريزا، التي اعتصمت بالصمت والتواضع، ووطنت النفس على خدمة أفقر الفقراء. وستبقى الأجيال وإلى منتهى الدهور تردد دعوتها السامية، للتحرك فوراً للعمل وفعل الخير... وعدم تأجيله "لقد ذهب الأمس، والغد لم يأتِ بعد ولدينا اليوم فقط لكي نعمل... فلنعمل!".

horizontal rule

 

" حكمة  زينون "

لا أحد ينكر مسؤوليات الحياة ومتاعبها، وأن هناك باستمرار التزامات أمام المرء تجعله يشعر أنها أكبر منه، وأنها تتطلب إمكانيات قد لا يمتلكها. ولربما كانت هذه المسؤوليات هي السبب لحالة القلق التي يعاني منها البعض حيث التفكير بالمستقبل وبأسباب المعيشة، إلا أن الأمر المثير للعجب والاستغراب أن يلجأ البعض أو يصل بهم الحد إلى حمل هموم الدنيا بأسرها وتبنيها وكأنها همومهم جاعلين من أنفسهم "أطلس" الإله الروماني الخرافي حامل الكرة الأرضية على منكبيه!

إن الواقعية والقناعة، مع القدرة على ضبط النفس وطرد الأوهام هي السبل الكفيلة لتقبل الحياة بروح إيجابية متفائلة، وإنه لجميل أن يبدأ الإنسان عمله بنشاط وتفاؤل وإذا ما صادفته مشكلة أو أزمة، أن لا يعتبرها نهاية العالم... فقد تكون تلك الأزمة التي تـَوَقــّع أنها ستؤذيه نقطة عبور إلى الأفضل!

إن الثقة بالنفس هي سِرّ النجاح، كما أن من المؤلم أن يعيش الإنسان في إحباط خلقه لنفسه... حيث تراه يكرر قول: إنني عديم القوة، فيصبح جراء ذلك سلبياً كسولاً، يعرف ما يتوجب عليه أن يعمله ولا يعمله!

يقول أحد المفكرين: "عندما تواجهني مشكلة لا أنهزم أمامها بل أهاجمها وأقسمها إلى أجزاء، وأضع كل تفكيري على هذه الأجزاء لحلها بكل زخم وقوة، مستعيناً بالقدرة الإلهية."

يحكى عن "زينون" الفيلسوف اليوناني أنه رأى فتى جالساً في حزن على شاطئ البحر فقال له: ما الذي يحزنك أيها الفتى ألست صحيح الجسم سليماً معافى؟

قال الفتى: نعم ولكن لا مال عندي!

قال زينون: لو كنت أيها الفتى في غاية الغنى، وكنت راكباً في سفينة في لجة البحر، فانكسرت السفينة وأشرفت على الغرق، أيكون غاية مَطلـَبـِك النجاة أم المال الذي سيغرق مع السفينة؟

قال الفتى: النجاة دون شك.

قال زينون: لو كنت ملكاً على الدنيا بأسرها، وفرض وجود من يريد قتلك لا محالة، أيكون مطلبك الملك أم النجاة؟

قال الفتى: النجاة ولا شك!

قال زينون: أتـَعــْتـَبـِر من استغنى عن المال والملك فقيراً أم غنياً في نفسه؟

قال الفتى: يكون غنياً في نفسه.

قال زينون: إذن فماذا يحزنك؟

قال الفتى: الوهم.

أجابه زينون: أترك الأوهام... كيلا تحزن، واعتبر الحقائق فقط، وارضَ بما  لديك!

**********

من أقوال الفيلسوف زينون أو " زينو " ٣٤٢ ق.م : الفضيلة هي اتباع الخير الأسمى، والشهوات التي تتحكم في النفس هي أمراض يجب القضاء عليها، الفضيلة هي استقامة الإرادة وسداد الرأي.

 

horizontal rule

 

" العقاد... دراسة أدبية "

عـمـل أدبـي نـفـيـس فـي أبـهـى حُـلـلـه

   مِن علمه المكنون وأدبه المخزون وبأسلوب جميل يأسرك ويملك عليك نفسك يقدم الأستاذ الدكتور محمود السمرة إلى عشاق الضاد إنتاجه الأدبي الجديد، البديع المتماسك، المرتبط الأجزاء بعضها ببعض عن الشاعر والناقد والمفكر الحر والصحافي المصري الشجاع عباس  محمود العقاد. انه رأس حربة التجديد... وهو "مجاهد وطني، مكين المبدأ، صلب العقيدة حتى التحجر، لا يتزعزع يقينه ولا تـني همته" كما يصفه كبار النقاد.

لقد تبنى العقاد المنهج النفسي والتاريخي في النقد، وقامت آراؤه وكما أشار المؤلف على قاعدتين هما الإيمان بكرامة الإنسان الشخصية والإيمان بحرية الرأي والفكر، مدافعاً من خلال إنجازاته الأدبية والثقافية عن الحرية. ولما كان الجمال برأيه هو كل ما حبب الحياة إلى النفس، فقد جعله مع الحرية شيئاً واحداً وهو القائل: في سبيل الحق والجمال والقوة أحيا... ان الفكر الجميل هو الفكر الحر.

يقول العقاد في مقدمة ديوانه الأول أن الشعر يعمّق الحياة وبهذا يجعل الساعة من العمر ساعات، كما أن الشاعر هو مرآة عصره، ويضيف ليس الشاعر من يرصع قصائده بما يبهر ويخلب من الخواطر البراقة والمعاني الخطابية المتلألئة وليس من يزن التفاعيل ولا صاحب الكلام الفخم واللفظ الجزل إنما الشاعر من يَِشعُر ويُشعِر. ولعل في إنتاجه الوحيد "قصة سارة" خير دليل على أن الشعر أقوى في التعبير عن العواطف في القصة حسب رؤيته.

يطوفنا الدكتور محمود السمرة في هذا العمل الفريد في زيارات طريفة نافعة قل نظيرها لشعراء كبار وعلى امتداد ألف وثلاثمائة عام ورأي العقاد عنهم ونقده فيهم، مع نماذج منتقاة بعناية لأجمل قصائدهم، فمن عمر بن أبي ربيعة شاعر الغزل عاشق الجمال المتزهد في آخر حياته في العصر الأموي، إلى الشاعر الضرير الهجاء بشار بن برد الذي لم يكف عن التشبيب بالنساء، إلى النديم اللاهي وحيد أمه المدلل أبي نواس صاحب  "عاج الشقي على رسم يسائله..." إلى صاحب الشخصية الأغريقية الشاعر المتطير المتشائم أبن الرومي ، إلى أبي الطيب المتنبي الشاعر العظيم الذي شاعت شهرته وكما يُحكى بسبب حساده... مستفسراً المؤلف هل تنبأ المتنبي فعلاً؟ وبعدها إلى حكيم المعرة أبي العلاء خير من يمثل الذهنية العربية والسليقة السامية وانتهاء بأحمد شوقي ومعركة العقاد معه إذ هو لا يقر لشوقي بأية موهبة، لاعتماد العقاد على قصيدتين فقط اختارهما على مزاجه ليصدر حكمه عليه.. علماً أن الناقد المنصف وكما يقول الدكتور السمرة هو من يأخذ كل إنتاج الشاعر ثم يحكم عليه بعد دراسة متأنية.. مستشهداً بقول ميخائيل نعيمة: " إن من يرى شوقي في ميزان العقاد يشفق على شوقي وتكاد شفقته تنقلب نقمة على الناقد! "

أما وقد أشار الدكتور السمرة إلى أن العقاد قد استوعب ما في الفكر الغربي من فلسفات معقدة وهضم ما استوعب وأضاف إليه وعدل فيه ثم قدمه لنا معرفة سائغة، فقد أجاد وأفاد إذ عزز هذه الدراسة بوقفات عند العديد من أفذاذ الفلسفة والشعر والنقد والطب فمن هيجل إلى نورادو إلى الفيلسوف المتشائم شوبنهور إلى نيتشه إلى الطبيب الايطالي لمبروزو صاحب كتاب العبقرية والجنون إلى هزلت الذي يرى فيه العقاد معلم كل الأدباء المصريين الذين تثقفوا بالثقافة الانجليزية، إلى فرويد ويونج والشاعر الناقد كولردج والكاتب والمسرحي الألماني ليسنغ القائل: " يا أيها الشعراء لا تصفوا الجمال وانما صفوا أثره في النفس. " متأثراً بأبيات لهوميروس يصف فيها دخول هيلين إلى مجلس الشيوخ الطروادي وانبهارهم بجمالها وصرختهم أنها تستحق أن يخوضوا حرباً من أجلها . ويؤخذ على العقاد أنه ظل طيلة حياته قليل الثقة بالدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة في تقدم المجتمع وهو في رأيه هذا يستسلم لما قرأه عند شوبنهور الفيلسوف الألماني الذي كان لا يرى للمرأة من مهمة سوى حفظ النوع ‍‍! 

وتخلص هذه الدراسة إلى أن تطبيق التحليل النفسي في الدراسات الأدبية قد يعين القارئ على تمثل الأديب في جوّه العام على أن الخطأ الذي وقع فيه العقاد أنه اعتمد هذا المنهج منهجاً وحيداً في النقد وعليه فان ما يدعيه العقاد من نقد علمي ليس سوى فرضيات مشكوك فيها ليس لها ما يدعمها.

إن هذا العمل النفيس والذي يجيء في أفضل حلله، يستحق أن تزين به صدر المكتبات، ليس ليُرى فيه براعة المؤلف وما تم تحقيقه على يديه فحسب على الرغم من ثقل المسؤولية الأدبية التي حملها على منكبيه، بل ليُـشعل في نفوس النشء أيضاً غيرة على كنوز المكتبة العربية ولعل في تقدير هذا الجهد كلما جرى قلم أو هتف لسان، ما ينسي الأستاذ العالم المؤلف بعض عنائه جزاه الله خيراً .


Back