"إحسان عباس... العالم الذي خشعت له النفوس "
في الحياة شخصيات مشرقة بصفاتها العليا، لسمو روحها وجليل عطائها، ستبقى مثالا للذكر الحي…
الأستاذ الدكتور إحسان عباس نموذج فريد للمثقف العالم الذي يعتبر الثقافة موقفاً غير قابل للتجزئة وأن ثقافة الإنسان ليست في عقله فحسب بل في أخلاقه أيضاً.
لقد غرس الدكتور إحسان رحمه الله في كياننا ضرورة البحث والتدقيق والحرص على تاريخنا وآدابنا ولغتنا التي رفع منارها وأعلى شأنها... ولم تكن مسرات حياته فيما يطلبه الناس العاديون بل في عالم العقل أي في الدرس والتفكير والكتابة.
إن قراءة متأنية لمجموعة مؤلفاته عن تاريخ بلاد الشام والتي جاءت ثمرات لمؤتمرات تاريخ بلاد الشام، تفتح العقل إلى آفاق رحبة وعوالم لن يجدها القارئ في أية مؤلفات أخرى، حيث يلاحظ الجهد المُضني الذي بذله لسنوات طوال، مبتدءاً في لم شعث أوراق وأعمال وبحوث تلك المؤتمرات، ومن ثم توسيع مجال قراءته لكتب ودراسات تجاوزت كثيراً تلك الأعمال لينتقل من مرتبة المنسق المرتب لآراء الآخرين، إلى موقف من يبني بناءً قائماً على مفهومات وتفسيرات نابعة من إمعان النظر في كل مسألة بوحي عنيد من عقله الباطني ليصل إلى قناعة النفس ورضاها كما أشار بنفسه إلى ذلك .
ولقد دونت تلك الكتب بطريقة تخلب القلوب، وتمتع العقول الساعية إلى الحقيقة، وبقلم أمين على تاريخ الأمة دون مواربة أو تعديل لمجريات حقبة تاريخية تخدم طرفاً أو عملية تلميع تخدم طرفاً آخر. تلك كانت شيمته أن لا ينحاز لجهة أو يقوم بدعاية لأحد وما كان أصلاً يحسن المجاملة من أجل منصب أو أن يسعى إليه…وأرى سبب ذلك لاعتماده على نفسه على الرغم من الصخور الكثيرة التي ارتطم بها والأعاصير التي واجهها في سبيل متابعة تحصيله العلمي. حيث كان الطريق شاقاً جداً تطلب منه الصبر والجلد، ليتحدى وليثبت لمن كان يعنيهم الأمر أن سعيه للدراسة هو الأنجح...بعد أن حاولوا أن يثنوه عن مراده بكل الوسائل، للظروف الاجتماعية البالغة الصعوبة التي كانت سائدة آنذاك : إلا أنه شد على قيثارته وابتدأ مشواره يعزف مزامير الأمل بالمستقبل بنيةٍ لا تذبل وبإيمان لا يفتر وبقلم لا ينضب عطاءً ليصل إلى هدفه منتصراً قائلاً:
" ان اصابة نجاح في دنيا مليئة بالاخفاقات يعد انتصاراً على الذات وعلى وهم الكمال…"
ولقد سطع نجمه في كل بلاد الدنيا العارفه حق علمائها ومفكريها، فخشعت له نفوس واحتفت به دول عظمى بعد أن قدرت له إنجازاته وتآليفه وترجماته وجهوده المتميزه التي ستبقى تخدم أجيالاً وأجيالاً.
وبقي إحسان على تواضعه الجم يتحدثون عنه ولا يحدث عن نفسه طيب القلب أكثر مما يجب… لإيمانه أنه كلما وضع الإنسان نفسه، ارتفع إلى فوق وسما…قائلاً : أن كل ما حصله وأنجزه لا يغدو أن يكون جزأً صغيراً من كل فالمعارف الانسانية واسعة ...يقول الشاعر:
وأخلاق احسان وعفو ورقة روائع يخفيها اتضاع وتظهر
ولقد كان شديد الاحترام لكلمته ومرشدا نصوحا لمن كان يقصده في بيته راغباً مشورة في بحث أو دراسة، ليجده مكباً على الكتابة أو القراءة وقد أحاطت به مئات الكتب والمراجع تشكل سعادته وأنسه .
وكان حضوره في أي مجلس صرخة حق في الضمائر، متألماً من سطحية التفكير المرتكزة على الآنية والارتجال وتحكم الميول. متوجعاً من الذين يهتمون بالكم من إنتاجهم الأدبي أو التاريخي دون النوع أو مادة تُرجى منه… وهذا متطابق مع ما يراه ويؤكد عليه رفيق دربه وصديقه الصدوق الأستاذ الدكتور محمود السمرة متعه الله بموفور الصحة.
ألتقي أبا اياس وكأن أمراً ما قد كدره... فيقول مع المعري:
والأرض للطوفـان محتاجـة لعـلـهـا من درن ٍ تـغسـل
ويعرج بعد حديث القلب للقلب على:
تحطـمنا الدنـيا حتى كـأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك
وينتهي اللقاء بمداعبةٍ حلوة :
سـألـت أخــي أبـا عيـســى وجـبريل له عقل
وقـلـت الخمـر تــعـجـبـنــي فقـال كثيرها قتـل
فـقــلــت إذن فــــقــدر لــي فقـال وقوله فصل
رأيت طبائع الإنسان أربعـ ــة ً هــي الأصـل
فـأربــعــة لأربـــعـــــــة... لكل طبيعة رطـل *
ولكم كان لكلمة غربة أو اغتراب في أحاديثه نصيب، وكأني به مع الشاعر أبو ريشة القائل:
يا غربتي ما اقرب المنتهى بعد جفاف الكأس من خمري
(والكأس هنا الشيخوخة ونضوب الحياة)
وقفت إلى جواره في آخر لقاء لنا على هذه الفانية ، فتألم قلبي لرؤية الحياة تعتصر فيه اعتصاراً ، وضعت كفي على كفه التي ارتفعت قليلاً ..كان الجسد ضعيفاً أما الذهن فمتوقد… صوب نظره نحوي فانجذبت عيناي إلى ما في إحداقه من إشعاع كأنه حديث يتدفق ممن اعتصم بقلعة صمته… لقد كنت المتكلم هذه المرة وكان هو القيثارة والمنشد: "عش مفردا...لا تعشق الموت ولا ترج الردى…لا شيء يجدي عنك ان مت غداً …
أهكذا تتهاوى الكواكب بعد بريقها… لكنك أكملت الشوط وجاهدت الجهاد الحسن فواحنيننا إلى طلعتك وبسمتك، والله نسأل أن يجزيك الجزاء الأوفى على ما قدمت في سبيل الحضارة من صادق الجهود ولكفء إحسانك لنهضتنا الأدبية… إلى هنا نمسك القلم ونردد:
"لك الأثر الباقي وأن كنت نائياً فأنت على رغم المنية داني"
**********
* هذا الشعر لأبي نواس.
أبا عيسى: هو جبريل ابن بخثيشوع طبيب هارون الرشيد.
طبائع الإنسان: بلغم – دم – سوداء (المنغوليا) – صفراء(المرارة).
" أين شوكتك أيها الموت "
ذات يوم استقبلت جماهير المدينة المقدسة السيد المسيح بالهتافات والتسبيحات، وارتفعت الأيدي ملوّحة بسعف النخل رمزاً للنصر وبأغصان الزيتون رمزاً للسلام، وألقى الكثيرون ثيابهم الخارجية على الطريق أمام موكبه ابتهاجاً برجاء الملكوت الجديد والحياة الجديدة. وما أن رصد الكتبة والرؤساء والأحبار ذلك الاحتفال العفوي حتى التهبت قلوبهم حسداً فجعلوا يسألون من هذا الرجل! غافلين عن صوت الماضي ونبوءاته... وصارخين هوذا العالم قد ذهب وراءه! وحاولوا جهدهم إغلاق أفواه الجماهير الصاخبة إلا أن المسيح انتهرهم قائلاً " إن سكت هؤلاء فالحجارة ستصرخ ".
هنالك على صخور الجسمانية في بستان الزيتون كانت ليلة النزاع، وبفعل قوة الصلاة والمناجاة تساقط عرقه كقطرات دم وانهمرت دموعه غزيرة لأجل من جفت الدموع من مآقيهم فما عادوا يبكون ذنوبهم من تحجر قلوبهم وقساوتها... فيما سقط تلاميذه نياماً من شدة الإعياء والتأثر حتى أنهم لم يسمعوا صوته يستحثهم "أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة " أما تلميذه يهوذا فقد أتم خطة القبض على معلمه وكان حماسه بالغاً باتفاقية الثلاثين من الفضة المشهورة، وهاهو يطل من بعيد مع حملة المشاعل والسيوف لاتمام صفقة التسليم والتسلم.!
وتتابعت الأحداث تترى، حتى إذا لاح الفجر، اقتادوه إلى الوالي الروماني بيلاطس ليحكم عليه فلم يجد فيه علة واحدة فأعلن براءته ثلاثاً. وكانت امرأته حذرته همساً " إياك وذاك البار لأني تألمت اليوم كثيراً من أجله في الحلم" لكنه لم يمتلك الشجاعة ليواجه هوس المتعطشين للدم فعرض أن يجلده ويطلقه، وكان الجلد عذاباً مبرحاً... وما يهم جلد الجسد أليس الروح هو الذي يُحيي، وازداد هياجهم عندما قرر أن يستخدم حقه السنوي في إطلاق سراحه بمناسبة العيد إلا أنهم هددوه إن فعل فـليس موالياً لقيصر... حينئذٍ أصدر حكمه بعد أن غسل يديه ليبقى على الحياد قائلاً هوذا الرجل خذوه أنتم لارادتكم...
"من أنت أيها الآتي من آدوم بثياب قرمزية من بصرة... ما بال لباسك أحمر وثيابك قانية كدائس عنب المعصرة... عصيرهم على ثيابي لطخ ملبوسي كله "، هكذا تنبأ أشعياء من قبل وهذا ما كان في ذلك النهار، إذ ألبسوه ثوباً أرجوانيا وظفروا إكليلاً من الشوك غرسوه على جبينه الطاهر، فانهمر الدم على وجهه فصار لا صورة له ولا بهاء لتشتهيه العيون، لكن من وراء هذا كله تجلى بهاء خفي بدا من قبل على جبل طابور في يوم التجلي لما تخاطب مع موسى وايليا عليهما السلام كما يقول الحرف والحرف رهيب .
هو مسمـّر على خشبة بين الأرض والسماء فداءاً لرسالة المحبة والرحمة، يغفر لمعذبيه كل ما صنعوا به لأنهم لا يدرون ما يفعلون فالغفران أسمى من الانتقام...وحينما صرخ أن كل شيء قد تـم اتشحت الشمس بظلمة كثيفة السواد وتزلزلت الأرض تحت الناس، وبكت الطبيعة على من أسكت البحر وانتهر الريح، وانشق حجاب الهيكل الذي حرم دخول قدس الأقداس إلا للكاهن ومحرقاته فصار مشرعاً للجميع .
أيها الباسط ذراعيك على أكمة الجلجلة في ذلك العراء، ترى أي ذنبٍ اقترفتَ وماذا صنعتَ... ألا تطلع بعينيك وقد تعكر بوجه البشرية المصير لترى عذاب الإنسان، وحطم بيديك المباركتين الظلم والشر فلقد طال على الشعوب الانتظار في دروب الغربة ومشهد الدم لم يزل يواكب الإنسان والزمان... والصليب المرفوع لم يزل يعترض كل عابر سبيل يستنطق الحق البشري صارخاً معترضا على الشر أي شر. وسيبقى مرفوعا ما بقي في الأرض عطاش إلى العدل والحق ... وكما ألقي الصليب على منكبي سمعان المزارع الخارج منهكاً من الحقول نرى المشهد يتجدد وقد ألقيت الأوجاع والآلام على مناكب أخوة لنا عربٍ في فلسطين والعراق ينشدون العيش بسلام وطمأنينة وكرامة.
ولما كانت رسالة المسيحية هي المحبة والتآخي بين البشر، فعلى الكنيسة في أرجاء الدنيا أن تصرخ صرخة العدالة وأن تقلق الدنيا لكي ينال كل ذي حق حقه لكي ينعم كل إنسان في حقه بالعيش في سلام واطمئنان .
انه يوم القيامة المجيدة...وهذا هو الحجر الذي رذله البناؤون قد صار رأساً للزاوية، ينفض الأكفان ويزحزح حجر اللحد الأصم ليرد حراب قتلة المحبة والضمير إلى نحورها ويروي ظمأ النفوس إلى السلام بعد أن شرب العطاش آخر دموعهم البشرية .
"تحيةً " وإجلالاًً لأبطال الكرامة في عيد الكرامة
من المفيد أن نذكر أن كارثة ١٩٦٧ قد زعزعت الكرامة العربية وفتحت جرحاً لم تزل آثاره بعد في الجسد العربي... وزرعت إحباطات نفسية وسلوكية ومشاعر الهوان في العقلية العربية.
وهذا ليس بالمستغرب إذ أن أوجاع وتبعات ومضاعفات كارثة فلسطين الأولى ما زالت مطبوعة في قلب وذهن الإنسان العربي...وكيف لها أن تغيب وأطفال صغار حيارى كبروا الآن يسألون لماذا حصل ما حصل ؟ ولا ثمة من جواب...
لقد كان قدر الأردن أن يقف على أطول خط نار في ظروف حالكة، ليكون الدرع الواقي للأمة العربية في وجه أي عدوان. ولقد تشرف أردننا الغالي وبكل فخر واعتزاز بحمل لواء الثورة العربية الكبرى. وتحقيقاً لرسالتها السامية النبيلة، أضحى موئلاً للباحثين عن الأمن والأمان وملاذاً للساعين نحو الحرية من أحرار العرب بعيداً عن أية نظرة إقليمية من أجل تحقيق مصالح الأمة القومية ووحدة صفها والمساهمة في إعلاء صرح الحضارة العالمية بكافة متطلباتها.
ولقد رسم المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه معالم الطريق لشعبه الوفي، بأن التلاحم والتماسك بين أبناء الوطن سيبقي الهامات مرفوعة لقهر التحديات وتخطي الصعاب، وكان جل اهتمامه وعنايته القوات المسلحة الباسلة تسليحاً وتدريباً للذود عن الوطن ولحماية كرامة الإنسان فيه.
وإننا إذ نستذكر بفخر واعتزاز يوم ٢١/٣/ ١٩٦٧ ذكرى معركة الكرامة الماجدة، وهي صورة مشرقة خالدة في سجل التاريخ، إذ تصدى الأبطال الميامين في الجيش العربي يوم صدق الوعد ودعاهم المجد، للقوات الإسرائيلية التي اندفعت براً وجواً على أرضنا الطهور في أرض الكرامة وردتها على أعقابها مخلفة خسائر عظيمة بالأرواح والمعدات، ولم تزل مشاهد دبابات الغزاة ماثلة أمام عيوننا يوم عرضت في عمان...تحكي لنا كيف دارت على المعتدي الدوائر ببسالة نادرة ممن طلبوا الشهادة على الهوان ...من جنودنا الأبطال الذين استشهدوا ليحيا وطنهم ولٳعادة الاعتبار لكرامة أمتهم .
وإننا وإذ نمر في هذه المرحلة بحالة ذهول وارتباك لما يجري على الساحة العربية، سواء في العراق الشقيق أم على ارض فلسطين الأبية لنثمن بإجلال وإكبار جهود جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظم في دعمه المتواصل لرفع الأذى والظلم عن الشعبين العراقي والفلسطيني، وحكمته ورؤيته الشجاعة من أجل إحقاق الحق والعدل مهما تعاظم الثمن لتعبر الأمة العربية إلى شاطئ السلامة وضفة الكرامة.
في لوحات الأميرة فخر النساء، تأمل وإبداع...
أن تقف أمام لوحات سمو الأميرة فخر النساء زيد وتتأمل الإبداع الذي يكمن فيها، تكون مثل الناسك المتأمل الذي وقف مع ناسك آخر على قمة جبل مشرف على جمال الكون والطبيعة، يقول له: افتح عينيك وانظر بديع خلق الله... فيجيبه الناسك الآخر: لا بل أنا إذا أغمضت عيني... أرى الخالق نفسه!
هكذا يبدو من يتأمل لوحات الأميرة فخر النساء، حيث يحتار المرء أن يرى بعينيه مباشرة ذلك الإبداع الفني الفريد... أم يغمضها ويتأمل طويلاً فيها. إن الوحي الحي هو الذي يعيش في أعماق الإنسان... وعلى أجنحة الروح والسمو، تنطلق الرؤيا نحو الجمال الحقيقي الذي لا ندرك في الأرض إلا الممكن منه، وفن الأميرة فخر النساء حقق لنا بعض هذا الممكن.
إن رسومات الأميرة فخر النساء، تجسيد حي لمختلف أنواع الجمال الذي نعيش فيه ونستمتع به، وهي بقدرتها الإبداعية الفائقة، استطاعت أن تجعل من لوحاتها، وفن وجمالية الألوان المنتقاة، عطاءً حقيقياً واندماجاً روحياً لا حدود له...
ولأن الفنان يعتبر فناناً بحق إذا كان قمة في العطاء...فإننا نجد أن لوحات الأميرة فخر النساء، دوماً في قمة عطائها، لأنها تنقل إلينا إحساسها الفني الجمالي، ورقتها وعذوبة ألوانها عبر هذه الأعمال، والتي تحكي وقائع ومراحل من العمر تستوقف المشاهد ليتأمل فيها ويتواصل مع مضمون هذا الفن الرائع...
يقول مايكل انجلو "لا شيء في النفس أعظم ولا أنقى من الجهد لإبداع أثر كامل" ويمكننا القول بأن هذا مطابق، وهو عنوان لبعض قليل من الجهد المبذول في لوحات هذه الفنانة المتجددة دوماً.
إن الفنان الحقيقي والقديس يشتركان في عملية التضحية بالذات، ذلك أن هناك نداءً داخلياً في كل منهما، يحث على العطاء المطلق المجرد عن نيل جزاءٍ لهذا العطاء. إن فنها يدل على فلسفة مـغـلـّفـة بالألوان التي تخضع كلياً لحركة يديها، فتحول الأفكار إلى قطرات من الندى تشبه حبات البلور الصافي، حيث يهيم الإنسان في روعتها، وسر جمالها.
ومما لا ريب فيه أن الكتابة بالريشة أصعب بكثير من استعمال الحروف، فلغة الحروف تعطي فكراً، والحروف تعطي إبداعاً أدبياً واسعاً، أما استعمال الريشة فيأتي ليخط فوق الحروف، وينطلق بها نحو الإحساس الجمالي، دون أن يصل إلى نهاية محدودة...
ونظرتي هذه إنما هي ناحية جمالية إنسانية بحتة لا تهدف إلا إلى التدقيق، والإمعان أكثر فأكثر لهذا الفن الرفيع الشفاف الذي منحتنا إياه والذي أوحت به ريشتها، والذي تدفق عبر السنين كالنبع يروي من حوله بساتين العشق، ليثمر عن مدرسة فنية متكاملة لها روادها الذين آمنوا بتلك البذرة الطيبة التي زرعتها، لتتحول هذه البذرة إلى شجرة وارفة بالثمار ستغني الحضارة الإنسانية بوافر الخيرات. لذلك سيبقى فن الأميرة فخر النساء خالداً خلود الإحساس البشري، وستبقى سموّها تعمل بهذه المحبة الخيرة، وترسم مزيداً من ألحان الإحساس والعشق. وهي بفنها تلتقي مع قول جبران: "وحين تعمل فأنت مزمار، تتحول من خلاله همسات الزمن إلى أنغام..."
فتحية إعجاب وتقدير إلى هذا الفن الخالد، وإلى الأصابع الرقيقة، والنفس النقية، لتبقى دوماً تعطينا الفن عبر الحب والإيمان بالمطلق.
"ولد الرفق يوم مولد عيسى والمروءات والهدى والحياء"
قبل ألفي عام كان للروح أن يعانق الزمن.. إذ نسر روما يبسط جناحيه على المسكونة ويضرب بهما الهواء تيها واعتزازاً، فيصدر أغسطس قيصر أمراً بإجراء الإحصاء العام الأول لإمبراطوريته وامتثالاً لهذا الأمر، يصعد يوسف البار ومعه مريم المباركة بين نساء العالمين إلى بيت لحم أي " بيت الخبز " ليسجلا اسميهما في سجل الإحصاء في الإمبراطورية الرومانية، وإذ يفاجئها المخاض بعد غربة وسفر وتعب السعي لإيجاد مكان يستقران فيه وقد أغلقت الأبواب أمامهما فالفقر غير مرحب به آنذاك.. فيلجآن إلى مغارة خارج المدينة كانت المواشي تأوي إليها... حيث ولدت يسوع فلفته بأقمطة الفاقة والفقر ثم أضجعته في مذود وصارت تهدهد على طفلها الباكي ثمرة العهود والوعود في ميلاده العجائبي الذي حير العقول فكان درساً في التواضع على مدى الدهور.
وما أن تناهت إلى مسامع هيرودس أمير الربع على الجليل، أن مجوساً قدموا من المشرق للسجود له حاملين ذهباً ولباناًُ ومراً بعد أن رأوا نجماً طلع عليهم فتبعوه... فقدر أن ثمة وراء هذا الطفل سراً وخطراً على إمبراطوريته فاضطرب قلبه وطلب أن يخبروه موقع الطفل بعد أن يعاينوه ليذهب هو أيضاً ويسجد له... كاتما في قلبه شر المقاصد والنيات! وقد أيقنوا ذلك فغادروا إلى بلادهم من موقع آخر وتدافعت الأحداث بسرعة لترغم مريم ويوسف والصبي الهرب إلى مصر من وجهه، ويصدر هيرودس أمره بقتل الأطفال من ابن السنتين فما دون استئصالاً لمخاوفه فكان بكاء وعويل... أما وقد مات هيرودس، فان الأحداث تسير بسرعة فيعودوا إلى وطنهم حيث ترعرع الصبي ونما بالقامة والحكمة والمعرفة.
في المدى مواقع قدسية نذكرها في هذه المناسبة العظيمة، أهمها المغطس على أرضنا الأردنية شرقي نهر الأردن الخالد، حيث دخلت هذه المنطقة من بلادنا التاريخ يوم دعا الصوت الصارخ في البرية، الجريء في القول، المعمداني يوحنا الناس إلى التوبة وطلب المغفرة معمدا إياهم بالماء… ولمـّا تزل أصوات دعوته من اجل المعوز والمسكين تجلجل في الآفاق.. من له ثوبان فليعط من ليس له.. وأن كل شجرة لا تثمر ثمراً طيباً تقلع وتلقى في النار. ويبلغ المشهد قمة السمو... لحظة وصول الكلمة المتجسد مشتهى الأجيال ليعتمد على يديه وليبتدأ " قول الحق " المسيح عليه السلام، دعوته السامية يقيل الناس من عثارهم وينهضهم من كبوتهم ويصالح الإنسان الخاطئ مع خالقه حاملا رسالة المحبة والعدل والسلام. فيتعرض إزاء هذه الرسالة السماوية إلى المصاعب والمتاعب والأوجاع فيكون جزاؤه الجلجلة... كيف لا وقد ابطل شريعة العين بالعين والسن بالسن واستبدلها قائلاً من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر.. ونهاهم أن يكنزوا كنوزاً على الأرض.. وحثهم على محبة مبغضيهم والإحسان لهم وهكذا لم يلق قبولاً عند الكثيرين بتعاليمه ليتم المكتوب " جاء إلى قومه فما قبله قومه " ناهيك عن خيانة تلميذٍ من أجل ثلاثين من الفضة ونكران آخر له ثلاث مرات قبل أن يبزغ الفجر..
إنها رسالة الميلاد، سر الكلمة الأزلي الذي صار بشراً هذه المنحة الخارقة التي حملها إلينا رئيس السلام، تدعونا إلى الانفتاح والتسامح والى أن نكون في سلام ومحبة مع الجميع، نغفر لهم ما استطعنا هفواتهم، فالمحبة لا تسقط أبداً.
يقول يوحنا الإنجيلي البشير: إن قال أحد اني احب الله وهو مبغض لأخيه فهو كاذب، لان من لا يحب أخاه الذي يراه كيف يستطيع أن يحب الله الذي لا يراه.
" عيد الاستقلال المجيد "
قال الغزالي: " كلما عَظُمَ المطلوب وشَرُفَ، صَعُبَ مسلكهُ وطالَ طريقهُ وكَثُرت عقباتهُ "
نعم، عندما أطلق المغفور له الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه الرصاصة الأولى على قلعة الترك في مكة إيذاناً بإعلان الثورة العربية الكبرى ضد الظلم والتسلط والاضطهاد كان يدرك ان العقبات جمة… وثمة صخور عثار تعيق الطريق ، لكن إيمانه الراسخ بالله وبعدالة مشروعه لخدمة الأمة و مستقبل أبنائها كان عظيماً.
لقد كانت تلك الرصاصة إيذاناً بانتفاضة باسلة على حكم الدولة العثمانية الجائر والذي دام لمدة أربعة قرون كانت الأمة فيه مستضعفة مستعبدة لا بل باكية بدموع صامتة….
أنها العاطفة القومية والحس الإنساني الذي اختلج في نفس الحسين بن علي شريف مكة وأنجاله الميامين وكل حشود العرب الأوفياء من كل مكان والذين تحسسوا سوء ما هم فيه من أوضاع.. وأوجسوا شراً من استمرار أوضاع المنطقة العربية فالتفوا حول راية الثورة العربية الكبرى ،وعلى صفحات أرواحهم وألواح نفوسهم أبيات إبراهيم اليازجي:
تنبـهـوا واستـفيقوا أيـها العـرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
فـيـم التعـلل بالآمـال تخـدعـكـم وأنـتـمُ بيــن راحــات الـقـنـا سـُـلـبُ
ولقد جاءت هذه الثورة عربية قومية خالصة صادقة في وعدها لإعادة أمجاد وتاريخ الأمة في مشروع قومي يحمي الحضارة العربية وعزتها هدفها وحدة العرب وإعادة الحرية والكرامة والأمان للإنسان العربي على أرضه وترابه.
وفي خضم وجلل الأحداث كانت قوى الاستعمار المتعددة تنسق فيما بينها لاقتسام المنطقة وخيراتها والتحكم في مقدراتها، فكان الاستعمار أو مسمياته الأخرى انتداباً أو وصايةً , ويتصدى لها الملك المؤسس عبد الله بن الحسين طيب الله ثراه بكل معاني الشجاعة والحكمة باذلاً أقصى طاقاته ومجاهداً الجهاد الصعب الذي لا يلين مع رجالات الأردن الأوفياء الذين صدقوا الوعد مقدمين أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك، فكان لحكمة وحنكة الملك المؤسس ولجهوده الفعالة كل الفضل لينال الأردن استقلاله الكريم بعد خمسة وعشرين عاماً… ولتبدأ الجهود لوضع الأسـس لبناء مؤسسات الوطن على كافة الأصعدة بهمة وعزيمة.
وفي الوقت الذي كان الأردن يسعى فيه إلى حل المشكلات التي ترتبت على تدهور الحالة في فلسطين و دخول حوالي نصف مليون لاجئ إلى أرضه، يسقط الملك المؤسس شهيداً بينما كان يدخل المسجد الأقصى في القدس لتأدية صلاة الجمعة فيكون دمه الزكي زيتاً لمصباحٍ ستبقى الأمة تستضيء به " لتسلك الجدَدَ وتأمَنَ العِثار" .
ولقد مر الأردن بتحديات كبيرة خطيرة وكان لا بد من قرارات حتى تكتمل رسالة الاستقلال حيث قام المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه بطرد الجنرال كلوب والذي كان رئيساً لأركان الجيش العربي الأردني بعد أن كان وجوده خدمةً للمخططات الاستعمارية الهادفة إلى إضعاف ليس الأردن فحسب بل الأمة العربية وحتى يأخذ جيشنا المظفر دوره الحقيقي في الدفاع عن وجود الأمة وتحقيق آمالها وطموحاتها فهو الصخرة القوية والدرع الواقي ومصنع رجال الهمم والعزة والكرامة.
ويحمل راية الثورة العربية الكبرى الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ليواصل وعلى خطى الآباء والأجداد مسيرة البذل والعطاء بحماس وحكمةٍ وشجاعةٍ في ظل التحديات والمتغيرات التي يشهدها العالم من حولنا، ليتحرر الإنسان من الخوف ويعيش في سكينة وطمأنينة .
وإن القلم ليعجز عن تدوين الجهود الهائلة التي بذلت من اجل استقلال الأردن ونهضته، وحري بنا ان نفهم الماضي ونشعر به كشيء حي في داخلنا ، ذلك ان مزج الماضي بالحاضر ومَدِّهِ إلى المستقبل يشكل الحياة نفسها .
وفي هذا اليوم المجيد عيد الاستقلال الناجز نرفع أسمى آيات الولاء والوفاء والتبريك إلى حامل لواء الثورة العربية الكبرى وعميد آل البيت الأطهار جلالة الملك عبد الله الثاني المفدى حفظه الله وأمد في عمره ليسطر المزيد من سطور المجد والرفعة للوطن و إنسانهِ وللامة العربية الماجدة.
"والأم أولى بإكرام واحسان..."
في هذا اليوم المبارك المخضل بالأنداء، وبمناسبة عيد الوفاء للأم ننطلق مع أبي العلاء في أجمل ما نظم:
والعيـشُ ماض ٍ فأكرم والديك بـه والأمُ أولـى بإكـرامٍ وإحســان ِ
وحـسبُها الحملُ والإرضاعُ تدمنه أمران بالفضل نالا كل إنسان
إنها الأم التي تحمل بشمم ميراث الآباء والأجداد، فتؤسس بيتها على الحب والود والحق والكرامة وتغذي أطفالها على الخلق والفضيلة لإنشاء مجتمع قوي قويم، إنها زهرة طهر وعفاف تزين صدر رجلها، وهي الأمينة عليه الحافظة لعهده... إنها من تدرك الحياة بالعقل والقلب معاً وتضفي عليها عذوبة وحلاوة.. وهي من تحيط بالأمور صابرة، تجمع ولا تفرق، تجبر ولا تكسر، تغفر ولا تدين، سعادتها تكمن في تربية وتهذيب أطفالها واعدادهم وصقلهم بالمثل العليا ليكونوا عناصر بناء لوطنهم وأمتهم.
وفي هذه المناسبة العطرة نستذكر شهادة وفاء من نابليون سجلها لنا التاريخ: انني مدين لأمي بكل ما حزته من الفخار، وما فزت به من العظمة. لأن نجاحي كان ثمرة مبادئها القديمة وآدابها السامية، كذلك سُـئل أحد العظماء عن أروع كتاب قرأه فأجاب: إن أروع كتاب قرأته "أمي".
وإذا كان إنسان عصرنا قد خرج في كثير من الأحيان من أعماقه النقية إلى الظاهر المزيف في حياة تغلب عليها الغطرسة والكبرياء، فألهته قشورها وبهارجها وما عادت العواطف الإنسانية تحركه ولا الروابط العائلية تعنيه أو تهمه، فان ما يوجع القلب منظر أم مكسورة الرجاء محطمة... تعيش في عزلة فرضت عليها من أبناء جفت المحبة من قلوبهم فتصدعت مشاعرهم، يتآكلها الملل واليأس تبكي زماناً قد عبر يوم كانت لهم ينبوع بذل وعطاء ووفاء، تمسح دموعهم بيد، وتضمد جراح زوجها المتعب من مشقات سعيه لتأمين رزقهم ومستقبلهم باليد الأخرى.
إننا ندعو بأمل ورجاء مثل هؤلاء الأبناء في هذا العيد البهيج، وقبل أن تغرب شمس نهاره، إلى التوجه دون إبطاء أو حيرة لأخذ بركة الأم ونيل رضاها وتحريرها من السأم، هذا ما أمرت به الشرائع السماوية السمحة، وأيضاً عليهم أن يتذكروا أن "الأيام دولاب يدور" ولا أحد يعلم ما يخبئ لهم المستقبل!
بلغنا أن أم صخر بن عمرو كانت تداوي جراحه وتعتني به ولمدة حول كامل، اثر طعنه من ربيعة بن ثور الاسدي...وعندما أقبل عائد يعوده وامرأته سلمى على باب الخباء "تدردش" مع جارتها...سألها: كيف أصبح صخر الغداة وكيف بات البارحة؟ فقالت شاكية متذمرة، بشر حال "لا هو حي فيرجى، ولا هو ميت فينعى ولقد لقينا منه الأمرّين" فسمعها صخر وهو طريح الفراش وأنشأ يقول:
أرى أم صـــخرٍ لا تملُ عيادتي وملت سُليمى مضجعي ومـكاني
فــأيُ امــرئٍ ساوى بأمٍ حــليلة فلا عاش إلا في شــقـى وهـوان
وإذا كنا لا نستطيب حكم صخر في البيت الثاني... إلا أن المقصد التدليل على عاطفة الأمومة المتوقدة في صدرها، وهي نفسها عاطفة كل أم على توالي الأيام.
إن الكثير من الأطفال، والذين هم الوعد والأمل يعيشون في هذه الأيام في كنف عاملات قادمات من بلاد بعيدة... غريبة في لغتها وتقاليدها... وعدم شمول الكثير من الأمهات الأصيلات لهم بالرعاية المباشرة الكافية على الرغم من تمكنهم من ذلك، يجعل هؤلاء الأطفال يعيشون في مرارة الحرمان من عاطفة الأمومة والحنان. ومن هنا فإننا نأمل منهم في هذا اليوم الميمون التفاته حانية عليهم وعقد مصالحة معهم ليعظم العيد ويتمجد!
وختاماً لكل أم على أرضنا الطيبة الأدعية بطول العمر المقرون بالصحة وراحة البال.