" في ذكـرى الــمولد الــنبوي الــشريف "

 في هذا النهار الأغر المبارك، نحتفل معاً بذكرى المولد النبوي الشريف ونحني الرؤوس احتراماًً لصاحب الذكرى عليه الصلاة والسلام، وللمبادئ السامية التي جاء بها الإسلام طلباً لانتصار النور على الظلمة في شخصية الفرد وفي شخصية الأمة ولرسالته الخالدة في المحبة والتسامح والسلام، لأننا في أردن الخير والعطاء مسيحيين ومسلمين نمثل سريرة واحدة، لأمة تدين بتوحيد ربها الواحد الأحد وتتكلم لغة الجنان... ولأن أفئدة الجدود المفعمة بالمحبة تخفق في صدورنا، وكما رسمتها أشواق الحسين بن علي وأبنائه وأحفاده الميامين من بعده داعية إلى التآلف والتضامن ونبذ التباغض ومحاربة المفاضلة بين الناس على أساس العقيدة أو اللون أو العرق، ففي هذا نرى مثلنا الأعلى نوجه به الأجيال ونتجه به معهم إلى إحياء تاريخنا وحضارتنا على ما ترتاح إليه دون سواه فطرتنا الشرقية العربية الأصيلة.

إن من صلب تعاليم الدين الحنيف ورسالة الإسلام العظيمة الرحمة والإخاء بين البشر، وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى فهو وحده لا شريك له يفصل بين البشر بالعدل بميزان الحق يوم القيامة على قدر ما يفعل الإنسان بأخيه الإنسان فكراً أو قولاً أو عملاً...

وفي الوقت الذي نرى فيه العالم يتخبط وقد تضاعف الظلام فيه وكادت حنايا صدور القساة تقفر من خوافق القلوب، فإن لا شيء أشد إيلاما على النفس من إلصاق كلمة الإرهاب بالدين إذ أن مسميات كهذه ومن يطلقها تدل على إفلاس وتجن صارخ وإجحاف لن تغفر السماء لكل من يتشدق به.

ما كان الإسلام أو المسيحية في يوم من الأيام تقاليداً أو طقوساً تخاطب المشاعر والأحاسيس وحسب بل العقل والضمير وأيضاً الإرادة... وهاهي منائر المساجد وقباب الكنائس بروعتها وجلالها في أردننا قلب الشرق النابض تحتضن تحت أجنحتها ساجدين خاشعين يناجون بارئهم في دعائهم ويذكرونه بقلوب واجفة، مرتفعين بأرواحهم إلى حيث تضمحل الأهواء ورغائب الإنسان وسفاسف الحياة، أو قل حيث تتراجع الأرض وتنفتح السماوات... كذلك ليس في القرآن الكريم أو الإنجيل المقدس إلا مبادئ سامية تدعو للتسامح والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك أمر الله الذي نسمعه ولا نسمع أمراً سواه وإلا كانت مسيحيتنا وإسلامنا اسماً على غير مسمى...

وإننا في هذه المناسبة العظيمة، نرفع الدعاء إلى نور السماوات والأرض وقيّم السماوات والأرض ومن فيهّن جلت قدرته أن يمنح عالمنا المنغمس في المنازعات والحروب والفوضى، السلام والطمأنينة وأن يذيب القلوب الحجرية التي لا تعرف الرحمة ويعيدها قلوباً إنسانية ملؤها المحبة، وأن يمسح دموع اخوتنا الذين يعيشون في ألم ومعاناة في فلسطين والعراق حيث تتجه قلوبنا إليهم، وأن يبدل عسرهم يسراً وكربهم فرجـا، مرددين مع شوقي :

 ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم           ونحن في الجرح والآلام إخوان

 مُتـَمـَّنين في هذه المناسبة العطرة لجلاله قائد مسيرة الأردن المظفرة وعميد آل البيت الأطهار جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظم موفور الصحة والعافية، وأن يبارك الله مساعيه الخيرة لإرساء قيم الحق والعدالة والسلام وللأسرة الأردنية الخير والبركات.

horizontal rule

 

" في عيد العمال العالمي "

بوركت اليد  الــتي تعمل

   قال حكيم: "كلما ذبل الجسد من التعب نبتت النفس... ذلك أن تعب الجسد يجلب النقاء للقلب، ونقاء القلب يجعل النفس تثمر."

لا يكتمل الإنسان في ذاته أو يتحقق التوازن الإنساني إلا بالعمل... ولا شيء أدعى لاعتزاز الأمة من منظر العمال وعرق التعب على محياهم عطرٌ يتسامى في الأجواء، وهم عائدون إلى بيوتهم بعد أن أجادوا العطاء وأحسنوا البذل فاستحقوا الثناء...

إن أي بناء نكحل عيوننا بروعته هو نتاج الأيدي العاملة التي جاهدت لإنجازه. وهذا ينسحب على صروح المدنيات والحضارات، والتي نقف منذهلين من جلالها وعظمتها وصبر من شيدها فأتقن وأبدع...

"إن الأيادي العاملة بأمانة كالأيادي الضارعة" وهي أيادي الفلاحين الذين ينهمر عرق جباههم ليروي التراب الظامىء فينبت سنبلاً وهي أيادي ملائكة الرحمة يخففن آلام المريض، والأمهات يفنين العمر في تربية ابنائهنّ، والجنود الذين يسهرون من أجل أمن الوطن، والمعلمين الذين يكرّسون طاقاتهم لبناء جيل يتمكن من مواجهة المستقبل بسلاح العلم والمعرفة. وأيادي الطبيب والمهندس ورجل القانون وكل صاحب فكر وقلم وريشة وازميل وأيادي من يُجمـّل الطرق وينظفها من أجل بيئة نظيفة. وكل الأيادي وعلى اختلاف خدماتها والتي تعمل بحماس وفرح واخلاص.

إن العمل هو إشعاع للشخصية الإنسانية وامتداد لها، كما أن كرامة العمل ناجمة عن كرامة الإنسان الذي يعمل، ومن هنا فإن العلائق بين أرباب العمل أو مديري مؤسساتهم من جهة والعمال من جهة أخرى، يفترض أن تكون مشبعة بالاحترام والتقدير والتضامن للمصلحة المشتركة وذلك لبناء مجتمع متكامل سليم.

وإننا لنأمل من شبابنا أمل المستقبل أن يعوا نبل العمل، أي عمل شريف وقدسيته... ونناشدهم أن لا ينتظروا وظائف أو مناصب تعدّ لهم سلفا فور تخرجهم مقابل تخصصاتهم الجامعية! بل أن يتوجهوا بكل كبرياء وشمم لقبول أعمال عادية في أية حقول أخرى حتى يتحقق ما يصبون إليه أو يحلمون به... فلا يعطلون قدراتهم ويحبسون أيديهم داخل ثيابهم... فيتحول هذا الأمر تدريجياً إلى ضرب من الخمول الذي يفقد المرء عزيمته ويشل تفكيره ويجعله ريشة في مهب الريح... ذلك أن لكل يوم قيمة ثمينة في حياة الإنسان...

رائع ما نشاهد وما نسمع عن أناس كانت الشهادة لهم ثقافة ومعرفة، فتوجهوا دون انتظار... لقبول أعمال ذات بدايات قاسية منهكة، فتمكنوا بصبرهم وجـلَـدهم ومثابرتهم وتفانيهم من بناء حياتهم والنهوض بمتطلبات مستقبلهم بكل كرامة واعتداد بالنفس.

يروي التراث أن إنساناً موسراً أراد أن يعلم أولاده النشاط فقال لهم : "هل تعلمون كيف صرت غنياً؟ إن سمعتم مشورتي استغنيتم مثلي." فسألوه عنها فأجابـهم قائلاً : "في كل سنة، يوجد يوم من أيامها كل من عمل فيه باجتهاد استغنى... إلا أني ولشيخوختي قد نسيت أي يوم هو! فلا تتوانوا انتم عن العمل كل يوم لئلا يفوتكم ذلك اليوم المبارك فيضيع تعبكم في السنة كلها"

 *********

"أحبُّ العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل" حديث شريف.

 قال قيصر يوماً لرجاله: "خير أن يموت الإنسان، من ألا ينجز عملاً شرع فيه!"

horizontal rule

 

"قد أصبح الصبح والليل باقٍ..."

إلى بيت لحم حيث انطلقت أسرار الخلاص وظهر نور العالم تتجه الأنظار، ومريم العذراء عليها السلام أمة الرب الطاهرة الصافية كأديم السماء يوم الصيف، والتي اختارها العلي جلت قدرته لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها على إمائه، قرب جذع النخلة، جوار وليدها في مذود فراشه من الأعشاب الجافة، لكن حفل به وأزهر وتسامى عن أي سرير صاغه عباقرة الفن والنحت والنجارة... تستذكر كيف تنكر لها قومها وافترى عليها وقذفها ببهتان عظيم، تسحق اليوم تنين المعصية، فالحمل الذي تم هو بنعمة من العلي القادر على كل شيء وبامتياز خاص منه.

ومع شهقة الطفل الباكي والدموع تنحدر من عينيه، وكأنها صوت احتجاج على كبرياء الإنسان وظلمه لأخيه الإنسان، تنتظم جوقة من الملائكة فوق تلال بيت لحم تحطم الصمت مهللة " المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام..."، وإذ بالغمام المتكاثف على الأفق يتلاشى مؤذنا بفجر جديد مشرق للبشرية.

وما إن لاح نجم اهتز له وجدان وكيان ملك فارس حتى أمر ثلاث أنفس بمتابعته، فكانوا إذا ساروا سار معهم النجم وإذا وقفوا وقف بوقوفهم حتى إذا انتهوا إلى الموضع فتحوا هداياهم... صرة من لبان وهو ضرب من البخور ينال دخانه السماء رمزاً لإكرامه ومكانته، وصرة من مر يستخدم لجبر الكسور رمزاً للآلام المزمع أن يلاقيها في حياته، وصرة من تبر والتبر سيد المتاع رمزاً لملكوته.

أما هيرودس أمير الربع على الجليل وممثل "أوغسطس" قيصر روما في المنطقة، فما أن تناهت إليه هذه الأنباء حتى قدر أن ثمة سراً وراء مجيء هذا الطفل، ومتوهماً أنه قادم لحكم زمني مما يشكل خطراً على الإمبراطورية الرومانية و استئصالاً لمخاوفه أمر بقتل أطفال بيت لحم من ابن السنتين فما دون، فكان نوح وبكاء وعويل.. لكن التدبير الإلهي أوحى لمريم ويوسف البار بأن يغادرا بالطفل سراً إلى مصر هرباً من وجهه وتتسارع الأحداث ليعودوا بعد موت هيرودس إلى وطنهم .    

وينشد سمعان الشيخ البار الذي كوفئ على صومه وصلاته وخدمته لبيت الله ومذبحه لما أطل عليه الوليد واكتحلت عيناه برؤيته، نشيداً تفجر من أعماقه شكراً لله على بره بعهده وحرصه على إنجاز وعده: " الآن أطلق يا رب عبدك بسلام وفقاُ لقولك، فقد رأت عيناي ما أعددته في سبيل الشعوب كلها، نوراً يتجلى للأمم ومجداً لشعبك."

لقد دشن السيد المسيح عليه السلام العهد الجديد على قاعدة المحبة، التي لا تحدها حدود العرق أو اللغة أو الدين أو اللون، إنها محبة الآخر... محبة كل إنسان " أحسنوا إلى مبغضيكم وأحبوا أعدائكم ذلك إن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم، أوليس العشارون يفعلون ذلك؟ " وأيضاً " افعلوا أنتم للناس كل ما تريدون أن يفعلوه بكم." كما أن إدانة الآخر والحكم عليه تشكل تعدياً على مقام الله القدسي " لا تدينوا لئلا تدانوا... أتهتم أن تخرج القذى من عين أخيك قبل أن تخرج الجذع الذي في عينك؟ "

ولقد جاءت تعاليمه لتحرر الإنسان من قيود الحرف والطقوس " أريد رحمة لا ذبيحة " ولتجعل الإنسان كاهناً لنفسه في هيكل حده الآفاق وسقفه السماء " ملكوت الله في داخلكم".

ترى أيفهم عالم اليوم هذه الوصايا التي تدفقت من فمك الطهور قدسية البنية رحمانية المعنى؟ ألا تطلع بعينيك المباركتين إلى ما آلت إليه البشرية إذ سار التاريخ على غير مجراه الحق وضيع طريقه... فصار العالم مفكك الأوصال يموج في الانقسامات والحروب مستعذباً النار والكبريت، وبات انسانه يعيش في قلق وحيرة واضطراب، آماله ذاهبة وأمانيه ضائعة!

قبل آلفي وسبعمائة عام ومن موقع قريب من النجد الجبلي جنوب البحر الميت والى شرقه صرخ أشعياء قائلاً:

 "أيها الرقيب،  أين نحن من الليل....؟ قال الرقيب: قد أصبح الصبح والليل باق ٍ".

أيها الكلمة المتجسد... يا رئيس السلام، ألا ارفع يديك المباركتين لتتوقف هول الملاحم عن بني البشر، وألهمهم أن يقفوا معترضين بوجه الظلم، باسم الله الواحد الأحد "من بيده قمم الجبال وأعماق الأرض، له البحر وهو صنعه ويداه جبلتا اليــبس " وذكرهم أنك عشت على هذه الأرض الطيبة حيث ما زالت هاتيك التلال تردد: "طوبى للرحماء فانهم يرحمون وطوبى للساعين من أجل السلام فانهم أبناء الله يدعون."

horizontal rule

 

"ومن تكن العلياء همة نفسه    فكل الذي يلقاه فيها محبب"

ونحن نتنسم عطور الأزاهير في هذا الصباح المشرق الندي، ومع أناشيد الفرح تترجع أصداؤها عذبة في أجواز السماء، نحتفل بالعيد الثالث والأربعين لميلاد جلالة قائدنا المفدى الملك عبد الله الثاني بن الحسين أعزه الله، ونلهج بالدعاء أن يمتعه عزّ وجل بموفور الصحة والعافية، وأن يديمه رمزاً لأمته وشعبه.

وإننا ليعترينا الزهو والفخار بقيادة جلالته الملهمة ولما حباه الله من نباهة الفكر وسمو المدارك وجرأة القلب، وهذا ما يشهد له القاصي والداني. وبهمة شابة لا تعرف الشح ولا النضوب، ما انفك يسعى جلالته حفظه الله لإبقاء شعلة الإندفاع نحو البناء مضطرمة، وطاقة الإبداع فاعلة ليكون لأردننا الغالي المكان اللائق على الساحة العالمية...

لقد آمنت قيادتنا الهاشمية الفذة أن الإنسان الأردني إذا ما انفسحت له المجالات واتسعت في وجهه الآفاق,  لقادر على أن ينهض بما لا ينهض له إلا الموهوبون من بني البشر، وعليه فقد تم توفير ما يلزم من صروح العلم والمعرفة وشحذ همم الشباب، ليقطع الأردن في دروب ثورة المعرفة " التكنولوجيا والمعلومات" شأواً بعيداً، ذلك أن هذه الثورة والحق يقال قد أعادت تشكيل مسار التقدم والتنمية في العالم بأسره...

إنه الخلق الهاشمي الرفيع المتميز،  بما يحمله من كريم المشاعر ورقة الجانب ونبيل الصفات، أن تكون بيوت الهاشميين مشرعة لكل من يقصدها من أبناء الوطن، دفعاً لأية مظلمة وإزالة لأية عقبة يضعها كائناً من كان أمام سعيهم وراء معيشتهم ومستقبلهم... وفي هذا نرى تواصلاً مباشراً وإخاءً متصلاً فلا حواجز بين القائد والرعية في بلدنا... وكذا الحال، في زيارات جلالته لاستجلاء مشاكل الناس وحاجاتهم في مواقعهم مسبغا عليهم فيضا من عطفه وحنانه... وبهذا التواضع يعظم أردننا ويسمو...

ولما كان إيمان جلالته المطلق، أن التعاضد والتآزر وتوحيد الصفوف بين الدول العربية يجب أن يتوفر ويتضاعف مرات ومرات في السلم عنه في فترات الحرب، فإننا نجد حرصه الشديد على تجاوز أية خلافات، ورفضه القاطع للنزاعات العربية، محذراً دائماً من تضخيم الأحداث وشحن النفوس.

وما وقف جلالته على منبر من منابر الدنيا إلا وكان الصادع بالحق عن أمته... إذ ما تلبث الشعلة العربية الأصيلة المتقدة في صدره أن تنتقل إلى سامعيه، الذين يجذبهم جذباً إذ هو يتكلم من قلبه ووجدانه ولسانه فيوقظ العقول والوجدان، وقد أصاب منهم وتراً حساساً لدقته في التعبير ووضوحه في بيان الغايات... فيجدون في ثنايا أفكاره وطروحاته فطنة وذكاءً، وذلك لما يقدمه من شرح جامع مانع عن حال الأمة كما هو كائن على أرض الواقع، وما يحيطها من مخاطر وما تتطلع إليه من آمال.   

وفي غمرة ما يعانيه عالم اليوم من ضيق واضطراب، فإننا نتطلع بنظرة الفاحص المتمعن إلى بلدنا العزيز فنجده آمناً مطمئناً، ونجهر ونقول: أن وراء الأمن والأمان الذي يعيشه المواطن الأردني، قيادة تتمتع بالحنكة وسداد الرأي، تدرك الحقائق والوقائع، وتستشعر المخاطر قبل وقوعها، فتجنب شعبها وقودها... لتوفر للأجيال مستقبلاً أفضل،  في عالم يرجى أن يكون واحة سلام وطمأنينة. كما أن من خلف هذه القيادة الهاشمية الفذة الجيش العربي المظفر والأجهزة الأمنية اليقظة... درع الأمة وحصنه المنيع،  الساهرين على آمن الوطن ومجده وعزته، ليبقى شامخاً منيعاً قوياً لا تهزه الأطماع ولا يهدده عدوان، وعلى أمان المواطن وصون كرامته.

وبكل معاني الاعتزاز والإجلال نستذكر في هذه المناسبة الجليلة الآباء والأجداد من بني هاشم والذين تمكنوا بفضل جلدهم الطويل وغوصهم البعيد من نسج تاريخ هذا الوطن الكبير... وكرسوا ذاتهم لخدمة انسانه ووظفوا طاقاتهم لهذه المهمة السامية، والذين بتضحياتهم الرائعة وشجاعتهم النادرة أبرزوا وجه العروبة الحق .

وغدا... وعندما تنقشع غيوم العالم المتلبدة ستدرك الأجيال في بلدنا موئل العرب كم كانت الأسس التي وضعت لهم قويمة حكيمة... ومهما حاول حاقد أو مغرض أو مدع ٍ الطرب على نغمات خارجية.. أن يشوه هذه الحقيقة، سيتعثر بأذيال الخيبة على أرض الواقع!        

فهنيئاً لقائد الوطن المحبوب عيد ميلاده الميمون وعمراً مديداً، ولأسرتنا الأردنية الواحدة الوفية المزيد من التقدم والنماء والازدهار.

horizontal rule

 

" ذكرى رحيل الأميرة فخر النساء زيد "

نستذكر ونحن نستقبل ذكرى الأربعين لرحيل المغفور لها سمو الأميرة فخر النساء زيد طيب الله ثراها، ما قاله ديدرو في كتابه "محاولة في الرسم" "ان كل إنسان شريف يمسك بالقلم أو بالريشة أو بالإزميل، إنما يستهدف جعل الفضيلة مستحبة." وهي دعوة للارتقاء بالفن، شطر القيم العليا، وشطر مبدع الجمال... وهذا الارتقاء يتطابق مع الجهد المتواصل الذي بذلته المغفور لها من خلال إيمانها بأن "الرسم الجيد يقترب من الله ويتحد به"، كما يقول مايكل أنجلو. وعلى هذا فلا يكفي أن يكون الرسام عظيماً، ومعلماً، وبارعاً، بل من الواجب أن تكون حياته قدسية نقية.

وهكذا، فإنه ليس من السهل على المرء أن يحس بقيمة العطاء الذي وهبتنا إياه المغفور لها سمو الأميرة فخر النساء، إلا من عاش مع لوحاتها، ومع عطائها المتميز، وقام بسبر غور هذا الجهد الكبير، وسار ببصره وبصيرته مع حركة الريشة التي صنعت العمل الفني فأبدعت...

لقد قدمت المغفور لها سمو الأميرة فخر النساء أعظم اللوحات الفنية والتي أربت على البضع مئات لوحة ً ساحرة الإيقاع، تعبر عن دقائق الأحاسيس وكوامن النفس، وتحكي تاريخاً دونته الريشة إذ استعصى على القلم... لأسرة ماجدة لها بصماتها المشرفة الجلية على تاريخ العرب منذ ثورة الحسين بن علي طيب الله ثراه وما قدم وأنجاله وأحفاده الميامين من تضحيات وبطولات.

كما ولها الفضل في إنشاء أرفع المدارس الفنية الرائدة، لتنشط النفوس لمزاولة الرسم، ولسان حالها دائماً أبداً قول الفيلسوف أفلاطون "ينبغي على الفنان ألا يرسم سوى الخير". لقد اتسم أسلوبها في الرسم بالدقة والتركيز، وتصوير الإيحاءات المملوءة بالمعاني والدلالات، ومن هنا كانت سيطرتها على الشكل... حتى باتت رسوماتها ذات قدرة على النفاذ إلى أعماق المشاهد، الذي يرغم على المشاركة في هذه التجربة مشاركة تامة، وفي حصاد الإحساس الرفيع، والراحة العميقة التي تتصل إلى ما وراء الإنسانية والعالم... إلى الذات الحقيقية، حيث يرتفع فوق حدود الزمان والمكان، ويدخل ميداناً رحباً حيث الحرية التامة، والجمال الخلاق.      

إن مجمل لوحات المغفور لها سمو الأميرة فخر النساء زيد، تشكل مهرجاناً فريداً للثقافة، حيث تتوهج شعلة الإبداع الأصيل، فينصهر المشاهد مع هذا الفن الفريد المعبر، مع هذا النبوغ، مع هذه الموهبة.

أما وقد طارت روحها إلى حيث نرجو لها مشاهدة وجه الله تعالى في دار الخلود، لنسأله ضارعين أن يستنزل على روحها الطيبة الطاهرة شآبيب الرحمة.

رحم الله سمو الأميرة فخر النساء زيد الحسين رحمة واسعة، وبورك هذا الفن الحي الذي زرعته ريشتها، فأنبت خيراً وعطاء.

 

**********

من أقوال سمو الأميرة فخر النساء زيد الحـسـين : "يجب أن تنسى ما تعرفه، لأن ما تعرفه هو ما قد تعلمته، أما ما لا تعرفه فهو حقيقة ما في نفسك. هو الأصداء الكونية الموجودة فينا ولا ندركها."
 

horizontal rule

 

" الصيام  سراج للجسد "

  إذا كان جوهر الصلاة، ارتفاع النفس عن العالم وأفكاره وأجوائه إلى الله الواحد الأحد، طلباً لأنواره واستمطاراً لنعمه، فان الصيام ينقي النفس ويطهرها ويُسهل سبلها للتقرب إلى المحيط العالم بدخائل القلوب وسرائر النفوس جلت قدرته.

إن الصيام عن غذاء الجسد هو وسيلة لكي يتمرن المرء على صوم الحواس وصوم الفكر. فالصيام إذن هو حصن للإنسان لأنه يروض الجسد، ذلك إن شبع الجسد لا ينتج فضيلة... كما أن الصيام عن الغذاء المقرون بصوم القلب عن الإثم والحنق هو أعلى مراتب الصوم.

ومما يعطي الصيام جمالاً روحياً وإشراقاً سماوياً، إمساك الغضب وضيق الصدر وضبط ما يخرج من الفم... فالصيام غسل للنفس من غبار المادة  وللفكر من جميع الشرور، يقول أحد الحكماء: "إذا كان الشبع يولد أشواك الخطيئة، فإن عرق الصوم ينبت سنابل العفة والنعمة."

ومما لا شك فيه أن الطعام ضرورة من ضروريات الحياة، ولكن يجدر إلا تتسلط شهوة الطعام على الإنسان فتجعله ينصرف كلية إلى تحقيقها... فالشره يطرد خوف الله من القلب. وقديماً قيل: "إذا كانت كثرة الأطعمة تجلب الأمراض فان ضبط البطن يذهب بالأوجاع."

وتقف على قمة مزايا الصيام العديدة تذكر ذوي النعمة والرخاء ذوي الحرمان والعوز، وتذكر المرء لإخوانه فقراء اليد أغنياء القلب، الذين كشرت لهم الحياة عن أنيابها واسودت أمامهم آفاق الحياة، فيبدأ العطاء  والبذل لمسح عبرات الفقراء والبؤساء ورسم الفرح والرجاء على وجه المعذبين، يقول الشاعر :

 

فأحسنُ وجهٍ في الورى وجهُ مُحسنٍ          وايـمنُ كـف فيهـُمُ كـفُ مُنعِـم

 

وثمة حقيقة يشعر بها كل صائم، أن اغراءات عديدة تواجهه خلال نهاره لثـنـيه عن نيته وعزمه، إلا أن إيمانه يسمو الغاية والمقصد يبطل تلك التجارب والإغراءات.

إنه الصيام الذي يقوم الفكر وينير العقل، انه الزُهد في الأمور الدنيوية فمن خلال الصيام يفحص الإنسان أقواله وأعماله ويميز جـيدها من رديـئـها، و يعلمنا أن نقسم خبزنا اليومي بيننا وبين أخينا المعوز وألا نتجاهل أوجاع اخوتنا بني الإنسان في عالم تتألم فيه المحبة وتكاد تتآكل فيه الاخوة الإنسانية. ولتـتجه أدعيتنا وصلواتنا أن يمنح الله القدير، السلام والأمان لعالمنا المتوجع الذي تهب عليه أعاصير اليأس والقنوط بعد أن انطبعت في الأحداق مشاهد الدم والدمار وأطبق الخوف على العالم أو كاد...

  

**********

 

يقول الأنـبـا دانيال: "كلما ذَبُـلَ الجسد، نبتت النفس."

 

يروى عن فضيلة الإمام أبي الفرج جمال الدين بن الجوزي في كتابه صيد الخاطر، أن يحيى البكاء لما رأى ربه عز وجل في المنام قال: "يا ربي، كم أدعوك ولا تجيبني." فأجابه سبحانه: "يا يحيى، إني أحب أن أسمع صوتك."

horizontal rule

 

" أما الجسد فضعيف...وأما الروح فمستعد "

قبل ألفي عام دعا بيلاطس المندوب المفوض من روما مجلس الشيوخ ورؤساء الشعب والكتبة اليهود قائلاً لهم: أحضرتم لدي هذا الرجل على أنه يفتن بالأمة ويحرضها لا بل ويحظر عليهم آداء الجزية إلى قيصر وقد فحصت عن الأمر وتحققت منه... بمحضر منكم فلم يثبت لدى انه اقترف شيئاً مما تتهمونه به. فصاحوا بأجمعهم: اقتل هذا وأطلق لنا "برباس" وكان لصاً ومجرماً معروفاً لدى الشعب.

عندها أدرك بيلاطس انهم يريدون قتله حسداً وظلماً ليستريحوا من شعبيته التي أخذت تتعاظم، فتحركت فيه عاطفة الشرف الإنسانـي والعدل الرومانـي فقال: أنا لا أرى فيه علة تستوجب الموت! فصرخوا: "إن لم يقتل فلست موالياً لقيصر!!" وهنا خاف بيلاطس أليس القيصر هو سيده وولي نعمته فرضخ صاغراً لصخب الجمهور وأسلم السيد المسيح عليه السلام لمشيئة أهوائهم. فقادوه متهللين فرحين... كيف لا؟ وهو بين أيديهم الآن، ولا مجال له بعد ان يقول لهم "لا تستطيعون أن تكونوا عبيداً لله والمال معاً" وهو الذي كشف عيوبهم وفضح خبث طواياهم يوم خط على التراب الحكمة الخالدة " من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر"

وكانت وجهتهم ليصلبوه الى مكان مرتفع خارج المدينة يسمى الجمجمة وسرعان ما تبدأ ملحمة الجمعة العظيمة الحزينة بضحيةٍ ومن هي هذه الضحية إنسان مسمر على خشبة وعلى رأسه إكليل من الشوك دماء تنسكب من جسده العاري، فقد اقتسموا ثيابه لا بل واقترعوا عليها! ومحروس بعساكر من كل جانب يتعذب و يتألم في جو من الرعب ونكران الجميل حتى من تلاميذه!

وفي لحظة من الزمن تراءت له البشرية في جميع أدوارها وعصورها، في ماضيها وحاضرها وآتيها كاشفةً عن وجهها الصحيح، ويتطلع المصلوب في التفاتة منه  على جبل الزيتون في القدس التي أحب حيث أمضى الليلة السابقة في بستانه جاثياً للصلاة عسى أن تعبر عنه هذه الكأس، فالجسد ضعيف أما الروح فمستعد وصار عرقه كقطرات دم تتساقط على الأرض، ومن حواليه تلاميذه ماعدا يهوذا، فقد هرع ليشير إلى موقعه مقابل ثلاثين من الفضة! ونجح في تسليمه مقابل علامة هي قبلة طبعها على جبينه فعرفوه ولماذا هذه القبلة وهذه العلامة ألم يكن بينهم باستمرار؟ هذا الذي حزن لأحزانهم ورقّ لبؤسهم وفتح عيون عميانهم وأنطق خرسانهم و أحيا موتاهم من القبور بقوة العلي القدوس.

وفي نظرة أخيرة منه على كل من ساهم وأنجز هذا العمل، ومن على هذه الخشبة التي عانقها في درب آلامه متذكراً عشقه للأخشاب في منجرة الناصرة، حيث كان يصقل الأخشاب ويطرق بقدومه المسامير. يقول :"اللهّم اغفر لهم لانهم لا يدركون ماذا يفعلون" وأمال رأسه مطمئناً بأن الغفران أسمى من الانتقام، وأن الحب أقوى من البغض، وأن الله لن يتركه في هاوية الموت.

ومن على صخرة الجلجلة وأمام هذا المشهد الرهيب، جدير بنا أن نتأمل في مشكلة الألم والعذاب علنا نستطيع تفسير سبب الألم هذا السر بعيد الغور وقصيّ الإدراك. حيث تتعالى زفرات وأنـّات المتألمين وتشق عنان السماء، من ساحات الحروب والبغضاء وساحات الفقر والمرض من دموع الثكلى وحزن الأرملة وكل باكٍ عزيزاًً خطفه المنون عن ناظريه.

وفي عالم تكاد  تجف فيه المحبة نتساءل لماذا هذا الجفاف؟ وكأن قلب الإنسان قد خرج عن إنسانيته ولم تعد فيه حتى عاطفة المحبة . بل تعلق بالمادة وطغت عليه أمواج العالم وانغمس في لجة الاستهتار.

ومهما يكن من أمر فان الألم  أي ألم يطهّر الباطن ويقيم الحياة بجوهرها... وهو طريق عطاش البر وجياع العدل، ليكون لهم سلّماً للنهوض والقيامة والحياة.

وإنها لحقيقة أننا "لو لم نبكِ أوجاع الجمعة العظيمة لما كان لنا أن نفرح بالقيامة المجيدة!"

horizontal rule

 

" بمناسبة عيد الفطر السعيد "

  أهلا  بنسائم العيد تحمل شذى عطر جميل على أردننا، وقد ارتفعت القلوب لتسبق الأكف في انطلاقتها إلى بارئها نقية طاهرة تشكر نعمه وتستمطر رحمته.

فهنيئاً لمن صام وصلى وزكى، وعاش شهر رمضان المبارك بكل ما يحمله من سمو المعاني وبليغ العظات... ونقول مع إطلالة هذا العيد الذي توج شهر العبادة والإرادة، وضبط الشهوات، والسمو بالروح، هنيئاً لمن استشعر الرحمة في هاتيك الأيام المباركات التي تشع سناءً وسنىً. 

ولما كان الفرح الحق يكمن في السمو فوق الأثرة  وحب الذات، فلقد كان أمراً يثلج صدر الناظر والسامع والمتفكر، أن يتدافع أبناء بلدنا الواحد كتفاً إلى كتف بمسلميه ومسيحييه، في تفاعل إيجابي فريد وطيلة الشهر المبارك لفعل الخير والرحمة، وتوزيع الصدقات وبسط موائد الرحمن واقتسام القوت اليومي مع ذوي الحاجة والفاقة، دون النظر إلى أية فوارق عقائدية أو عرقية ليجيء هذا العمل مثالاً للعالم أجمع عن التعاضد والإخاء والتراحم الذي يعيشه الإنسان الأردني.

   يقول الشاعر:

والخالطين غنيهم بفقيرهم            حتى يصير فقيرهم كالكافي

 

وفي هذه الأيام الملأى بالمآسي والفواجع، نتطلع وفي القلوب غصة حارقة وفي العيون دمعة كاوية، إلى إخواننا وأشقائنا في العراق، حيث أوشك الإنسان هناك أن يغرق في لجة اليأس وفقدان الأمل... ونتساءل وقد انبهمت الأمور علينا كيف يترك إنسان هذا الزمن وراءه قضايا مهمة مثل الفقر والأمراض المستعصية ومشاكل البيئة والبطالة وتنامي قتل النفس التي حرم الله بالإجهاض في أرجاء كثيرة من العالم... وتتجه طاقاته وإمكانياته نحو الدمار والقتل والتشريد، حتى بتنا لا نعرف ملامح لكلمات الخير والحق والعدالة والإنسانية، وصارت مشاهد الدم الحي على أجهزة التلفاز تقض مضجعنا وتقضي على سكينة قلوبنا.

ومن هنا، علينا أن نحيـي الرجاء والأمل، متطلعين إلى عالم يسوده السلام والوئام... ليعيش انسانه في أجواء بعيدة عن الخلافات والعداوات، ضارعين في هذه المناسبة الجليلة المباركة إلى الله الواحد الأحد واهب الحياة جلت قدرته، أن يزرع الحكمة في عقول بني البشر وأن ينزع البغض منهم، إنه وحده قدير على إنارة البصائر وتنقية القلوب وإحلال المحبة محل الضغينة، فبالمحبة تسلم لنا الحياة في الدارين.

وبهذه المناسبة نقول كل عام وأنتم بخير، ولنـردد مع الشيخ ناصيف اليازجي:

 

هلال شوال في ذا العيد حياكا           والأفقُ حياه بدرٌ من محياكا

horizontal rule

 

"يللي ما داق طعم المغراية.. ما بيعرف شو الحكاية"

  قال الأصمعي:

"سمعت أعرابياً يعظ رجلاً وهو يقول: إن فلاناً وان ضحك إليك، فانه يضحك منك، ولان أظهر الشفقة عليك، إن عقاربه لتسري إليك، فان لم تتخِذه عدواً في علانيتك، فلا تجعله صديقاً في سريرتك."

إزاء ما قاله الأصمعي وهو من مشاهير لـُغويي العرب، وقد ترك قوله وقعاً بعيد المدى في نفسي، ولتنامي حالات مكر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان في هذا الزمن الغريب الصعب، أسوق الحكاية التالية وكما أوردها الناقد الكبير مارون عبود، وهي وصية الأسد صاحب الخبرات الواسعة  لشبله أن احذر الإنسان، فهو ماكر واسع الحيلة لا يقهر!

لما أشرف الأسد سيد الغاب على الموت، استدعى شبله ونصحه قائلاً: "قاتل المخلوقات جميعاً، ولا ترهب منها أحداً، ولكن احذر الإنسان، فهو ماكر، واسع الحيلة، لا يُـقهر." ومات الأسد، فراح الشبل يبحث عن الإنسان، حتى دله الثعلب عليه، فإذا هو نجار كهل هزيل... فتصدى له الشبل طالباً مبارزته، فأجاب النجار: "تركت قوتي في البيت، يا سيد الوحوش، فدعني أذهب لأعود بها، إذا شئت أن نكون في مبارزتنا متكافئين." فقبل الشبل بهذا الشرط، فقال النجار: "ومن يضمن لي بقاؤك هنا؟ قد يساورك الخوف فتهرب." فقهقه الشبل ضاحكاً وقال: "أنا أهرب؟ ويحك! أطلب الضمانة التي تريد." فاقترح النجار أن يشد وثاق الشبل إلى شجرة ضخمة، وهكذا كان. إلا أن النجار صبّ غراء مغرايته* بين الشجرة وظهر الشبل فالتصق بها. ولما عاد وفك الشبل، سُـلخ جلد ظهره...ففرّ هارباً من شدة الألم!

وبعد حين شُـفي الشبل، ورابط للنجار حتى لقيه وأراد افتراسه، فتسلق النجار الشجرة وصاح: "هات المغراية يا ولد!" فهرب الشبل. ولما عاتبه الثعلب على فراره قال: "يليي ما داق طعم المغراية، ما بيعرف شو الحكاية!" 

 

**********

* المغراية: وعاء الغراء.

 

ومِنَ العداوةِ ما ينالُكَ نفعه             ومِنَ الصَّداقةِ ما يَضر ويُؤلِمْ

المـــتـنبـي

horizontal rule

 

 " الحاسوب في دارك...! "

 تحرك خاطري في داخلي، فقلت: الحاسوب في دارك... فما بالك لا تتدرب عليه، لتجتاز بوابة المستقبل مثل باقي خلق الله... ولقد طربت لهذه الفكرة متوهماً أنني سأتقن هذه الصناعة من جلستين اثنتين ليس أكثر... ذلك أني كنت أشاهد بأم العين أصابع ذريتي الذين أعطانيهم الله، تتراقص بكل سهولة وبراعة على أزراره الكثيرة. وأضفت محدثاً نفسي: وفي هذا الحال، لا تثقل عليهم بطباعة وتصليح أوراقك العديدة... بحيث باتوا يختزلون دراستهم في فترات معينة لطباعة ما جهزت لهم من مواد أو لإدخال تعديلات عليها. أو تعكر صفو مزاجهم في إعادة طباعة مادة ارتأيت في إعادة صياغتها نفعاً أكبر للقارئ.

وما أن جلست أمام هذا الجهاز، حتى رفت أهدابي فرحاً، ظاناً أنني سأحقق انتصارات سريعة. وسرعان ما اجتمع شمل أسرتي حولي ووميض الفرح على شفاههم، فالتفت إليهم قائلاً: هاأنذا رجل زماني... وفي القريب العاجل سترون أني أماثلكم في الذكاء والبراعة، ثم اطمئنوا فلن يتأفف أحدٌ في أعماقه من بعد "لكثرة غلبتي".

ابتدأ شرح ابنتي الكبرى: هذا "كي بورد". قلت: المعنى؟ أجابت لوحة المفاتيح. وهذه "سكرين أو مونيتور". قلت: بالعربي رجاءً، أجابت الشاشة. وما أن أومأت بيدها اليمنى قائلة: هذا "ماوس" يعني فأرة... اقبض على "الماوس"! حتى أصابتني قشعريرة فشهقت وجفلت رافعاً قدمي عن الأرض، متمنياً أن يكون لي "جناحٌ كالحمامة فأطير واستريح". ولتبديد مخاوفي ونفوري وبصوت خفيض أفهمتني: بابا هذا لتحريك العمليات.

 ولقد قررت أن أكون تلميذاً طائعاً... يتقبل المعلومات التي تملى عليه بأريحية... فصرت أهز رأسي وكأني أحيط بكل شيء... على أن فكري كان شارداً كالتلميذ في الصف الخامس ينتظر قرع جرس استراحة الساعة العاشرة لينعتق من صفه! وأشهد أن استيعابي كان صفراً في هذه المرحلة فأعلنت ان أنسحب بكرامتي!

وبعد فترة من الزمن، قلت: كرر التجربة يا رجل ولا تكن من أرباب الصدور الضيقة! وما أن جلست على الكرسي المخصص، حتى شاع الفرح في أرجاء البيت... وتم تزويدي بركوة من القهوة العربية ترغيباً للمضي فيما أنا بصدده... وأم العيال تتفكه "عسى أن يتفتح مخك... وتتوسع مداركك."

ومع الجهد المبذول في تبسيط الدروس... وعلى مرأى من صغيري حسام صاحب الروح الوثاب، يشوقه التعرف على مدى تقدمي في هذا العلم، وكان تمكن من الإحاطة على نحو ما من مبادئه. وها جفونه غير مستقرة... تبعث إشارات لباقي أفراد الأسرة أن الوضع ميؤوس منه.

وبينما أنا في خضم هذه المعمعة أشرّق على أزرار لوحة المفاتيح وأغرّب، تقاطرت علي الخواطر فإذ بي أسمع وقع أقدام الجدود من بعيد... وما هي إلا لحظات حتى هدرت أصواتهم في مسامعي: أين أنت؟ عندها عقدت العزم بقرار غير قابل للنقض أن أنسحب وأعود إلى مكتبي حيث دررهم وذخائرهم من الكتب، كيلا يلفها النسيان ويطويها الإهمال، فأعيش مع نفثات أقلامهم ففيها أنسي وفرحي...

الحاسوب في دارك أيها القارئ أمر نافع لما يقدمه هذا الجهاز لنمو الإنسان وازدهاره، ولكن هذا لا يعني أن تقذف بمخزون مكتبتك الثمين مقابل دنانير معدودات إلى "جورة الحرامية" في وسط عمان حيث تباع الأشياء المستهلكة حتى النهاية! إنه الفتك بالماضي ونفائس الأسلاف الذين يرفعون الصوت بالاحتجاج "فمن له أذنان للسمع فليسمع".

horizontal rule

 

كلمة ختام

 إضمامة محبة من خيوط القلب إلى فريق العمل...دينا  ينبثق الذكاء الوقاد من ألحاظها، وأعترف وأقول أنها كانت تصر على وجوب فهمها للمادة ككل قبل طباعتها...وماري لإحساسها الرهيف وذوقها الرفيع، ودقتها وحسن تنظيمها للمواد التي قامت بطباعتها...وبرناديت لخفة روحها وعقلها النير، ولتمكنها من فك رموز خطي وكان أشبه بالأحاجي والمعميات في كثير من الأحيان على المسودات وطباعتها! ولأمهم المصون ذات الإرادة الواعية ولما سكبته على قلوبنا من محبة ورعاية.

وإني متيقن، وأنا أراهم ينظرون صوب شمس المستقبل بعيون لا تغمض أن الكتاب والحاسوب سيكونان رفيقي دربهم ما طلع نهار جديد!

horizontal rule

 

 " رسالة إلى المؤلف"

تفضلت صاحبة السمو الملكي الأميرة فخر النساء زيد الحسين، بتوجيه رسالة الشكر التالية، والمدوّنة بخطها الفنّي المتميز، وبأسلوب بيانيّ فريد، تكريماً لما نشره المؤلف في جريدة صوت الشعب بتاريخ 19\ كانون أول \1988 تناول فيها فنها الرفيع، وقد استهلت سموها الرسالة بتقديم تهانيها بمولودته الثالثة.

عمان ٢١/تموز/١٩٨٩

عزيزي السيد حنا سلامة،

أود أن أشكرك على الصورة الجذابة التي بعثتها لكريمتك الثالثة، أنا متأكدة أنها ستكون شابة جميلة للغاية إن شاء الله.

أنا أكتب هذه الرسالة كذلك لأشكرك على مقالتك الشاعرية الفلسفية، التي كتبتها عن شخصي وعن أعمالي الفنية.

الآن فقط، تمكن صديق لي ذو ثقافة عالية من ترجمته من العربية إلى الإنجليزية.

إنني أهنئك حقاً فلقد كان مقالاً ممتعاً. يختلف عن أية مقالة أخرى كتبت عني. أشكرك، وأشكرك مرّة أخرى، فلقد كانت تلك المقالة عالية المستوى.

اقدم التمنيات وأدعوك مخلصة أن تستمر في الكتابة كلما شعرت بالسعادة والسرور من عمل متميز... أحسنت.

أقدم تحياتي كذلك إلى زوجتك الرائعة.

المخلصة

الأميرة فخر النساء زيد الحسين / الأردن

Back