" يا هــلا بالـضـيـف...! "

 

    متى يبدأ الشواء يا أبي...؟ قالها الصبي. أما أبوه، وكان جهزّ ليوم العطلة هذا بعد جَدّ وكـَد، كيلو واحد لا غير من اللحم المُشفى نصفه مكعبات "شقف" والنصف الثاني مفرومٌ تم تعزيزه بالبقدونس، فأجاب: قبل الظهر بقليل ريثما تُجَهّز أمك صحناً من السلطة ومثله من الحمص المدمس... لكن لا بأس هيا نحضر المنقل ونشعل الفحم.

     وما أن قـُرع الباب من أكثر من يد... حتى بدت عليه الحيرة والارتباك، يا ستـّار يا رب من يكون الطارق في هذا الوقت؟ حتى إذا فتح الباب كان وجهاً لوجه مع ضيف تصحبه زوجته وبنوه الثلاثة!    

   حملني الشوق إليك قالها الضيف، وما لبث أن اندفع صوب صحن الدار... حتى إذا رأى منقل الفحم وقد توهج الجمر فيه... توهج وجهه، وارتسمت علامات الفرح على جبينه وهَمَّ بالوثوب! أما أولاده فصاروا " يـنـطـّون نـَطـّـاً " تارة حول المنقل، وتارة أخرى في أرجاء البيت بحرية كاملة فاليوم يومهم... أما صاحب الدار فسلـّط نظره تجاه امرأته وتمتم: أين نذهب وأين نـفـر من وجوههم؟ لكن قضي الأمر!

   تلك كانت خطة حياته، يختار الوقت الذي يجده مناسباً ليقتحم بيوت معارفه وأقربائه فيفرض نفسه ضيفاً عليهم... ولسان حاله في كل مرة "ترى ما اتصلنا ما بدنا نغلبكو..."

   ودون استئذان ابتدأ يعرك اللحم بيده وما غسلها، مضيفاً الفلفل والملح والتوابل حسب ذوقه، ثم صار يركبه على الأسياخ المعدنية، مصدراً قعقعة من كثرة حركاته قائلاً بصوت مرتفع "ترى تـَوّنـا قـايمين عن الفطور..." وأحسب أنه والحال هذا، كان يُمَنـّي النفس بالفراريج...!

   وما أن بانت على واحد من الأسياخ علامات النضج حتى استـلـّه، وأخذ يسحب قطع اللحم المزروعة فيه واحدة تلو الواحدة، يبتلعها على شدة سخونتها قائلاً: الظاهر بحاجة لدقائق إضافية. ثم أخذ يدور حول المنقل يتفرّس عن قرب الأسياخ، ويقلبها تجاه هبوب الريح، غير عابئ بتصُّلب لحم وجهه من وهج النار! وكلما نضُجت حمولة سيخ ناولها لواحد من أولاده، أو قذفها في جوفه متجاهلاً مضغها وطحنها بين الأضراس مثل باقي خلق الله... فهو واسع الشدقين، أكول، نـَهمٌ، شديد الابتلاع!

   ولم يزل هذا شأنهم حتى أَتـَوا على لحم الشواء كلـّه مع تصفية صحون الوجبات المساندة من الحمّص والسلطة إلى أن لمعت جوانبها  وما عادت بحاجة إلى الغسل!

وعلى نغمات:

يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتـنـا       نحن الضيوف وأنت رب المنزل

 

هلـّت الضيفة من المطبخ وبيدها صحنٌ من البطاطا المقلية، والى جانبها ربّة المنزل، نحو قعدة الشواء لتجدا أن الطعام كله قد اكتـُسح...! بيد أن الضيف طلب بعضاً من رؤوس البصل فالجمر ما زال متوهجاً ينشد المزيد، كما أن البصل المشوي طيب المذاق، فكان له ذلك.

    وحانت منه التفاته نحو صاحب الدار وإلى جانبه ولده يرنو ببصره وقد احتبس الدمع فيه إلى النار المتوهجة التي خلت من الأسياخ فدعاهم قائلاً: "تفضلوا كملوا غداكم يا جماعة... ما في أزكى من البطاطا المقلية والبصل المشوي!"

  لكن صاحب البيت وأهله الذين تولاهم الذهول وروّعهم الحدث، لم يملكوا إلا أن ينظروا إلى هذا الضيف الذي فرض نفسه عليهم وكأنه يقول لهم بلسان غير ذي عوج: " المعَـزِّب رَبّـاح " أي انه يضع كل ما لديه أمام أمثاله، ويـكتـفـون بالـنظر أو يتناولون ما يفضل من طعام...  

   وما أن استرخى الضيف على كرسي بلاستيكي وقد ضاق عليه زناره الذي يأسر كرشه، قابضاً بيمينه كأساً من الشاي، فرض عليه هذه المرة والأخيرة فرضاً... جزاء ما أنجز بتشريفه... حتى حدق بعيني المضيف ثم فـغـر فاه:

 

"باكر في الغذاء ولا تتماس في العشاء..."

 "لا تـُدخِل في بدنك طعاماً على طعام، ولا تَشرَب بعد المنام..."

 "كل ما عَـسُـر قضمُهُ شقَّ هضمُهُ..."

 "لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، وقم وأنت بما دون الشبع قانع..."

وأضاف من عنده : وما بات من الطعام فهو مجلبة للفساد!

 وأكل الرجال على قدر أفعالها...!

 

وما أن هـمَّ ثقيل الروح بالمغادرة، حتى تبسَّمَ قائلاً: لقد وددتُ لو كنتُ جارك! وأفاض في الثناء على مضيفه، وبأنه سيعاود الزيارة في أقرب فرصه. مضيفاً: "ترى لو ما بتعزّوا علينا ما جيناكو..."

   أتـُرى... هل بقي مكان في أيامنا هذه - والعين بصيرة واليد قصيرة- لنـصفق لأمثال هؤلاء الذين لا يحصرهم حد، ولا يحدهم عدّ، ونغني لهم: "يا هلا بالضيف... ضيف الله...ع أحباب الروح... أي والله"، أم نستأذن مطربتنا المحبوبة سميرة توفيق ونقول: "يا هلا بالضيف...ضيف الله...ع حساب الجيب...أي والله !" أم نتهادى على صوت فيروز المخملي وننشد: "زورونـي كـل سـنـة مـرّة " !


     

 " ضـيـــف الصـيـــف... وعريس الزين "

 

 اتصل والآه حرّى... معلناَ عزمه على زيارة بلده فهو في شوق  لترابه ونسيمه ومائه ولرفاق طفولته ودربه، وترجى أن  يحجز له في فندق أو شقة كيلا يثقل على أحد فامرأته وابن له في معيته. وبروح الكرم و الحماس يأبى صاحبي إلا أن يكون مقامه في بيته فمن العار أن يكون غير ذلك وأين وجهه من وجه الناس، فيرضى أمـتـثـالاً لمشيئة صاحبي ... وبسرعة تتحرك ورشات الطراشة والتعزيل، وتغيير بعض العفش، وفرش الأسرّة بأقمشة بيضاء، وتفقد جاهزية أدوات الطبخ والنفخ...

هم في المطار .. " نوّرت البلاد"  قال صاحبي مرحباً والدموع  تتهاوى من عينيه ... وما أن وضعت الحقائب على عربة حتى جرها صاحبي على مضض... أمام ناظري الضيف وابنه الذي لم يكلف نفسه عناء ذلك مع ما يتمتع به من عضلات مفتولة، فهو  مهتم  بقبعته التي ركبها  بشكل مقلوب على رأسه على عكس ما  صممت له ... تماماً كما يفعل بعضٌ من شبابنا في هذه الأيام !

وتتابعت المراسم وأصبح البيت مضافة لأفواج المهنئين بالسلامة، ويتولى صاحبي تقديم العصير والحلويات والقهوة أو الشاي حسب الطلبات بينما يتهامسون عليه: " محظوظ هو.. فلولا أنهم أحضروا له هدايا قيمة لما أسكنهم في بيته أو فتح لنا الباب " وما كانت الهدايا والحق يقال سوى قارورة عطر وقميصين من طراز تي - شيرت وربطة عنق حمراء! وصاروا يستذكرون مراجيح الطفولة ونوادر الحارات وسرقة التوت والرمان من بستان المختار وكم اختطت قضبان الرمان على أجسادهم أثلاماً من معلمين بعضهم في دنيا الحق ..أما هو فقد أودع سيجاراً في فمه وأنشأ يحدثهم منتفخاً بعد أن رفع حاجبيه عن إنجازاته وتكاثر ثروته، من محطات الوقود إلى الأسواق التجارية.. وأن أجر العامل بالساعة عنده  يساوي عمل الواحد منهم شهراً فتصدى له أحد الجلوس بعد أن "فقعت معه" قائلاً مع الشاعر :

أتذكر إذ لحافك جلد شاة             وإذ نعلاك من جلد البعير

 

وأضاف، أن في التواصل والمحبة وسؤال الجار عن الجار وتربية الأبناء على القيم الحميدة والتمسك بتراب الوطن يساوي في ديارنا كل كنوز الدنيا.. فبرد الدم في عروق الضيف! وانهم لكذلك حتى وثب ابنه كالبهلوان، وقد طوق عنقه بسلسلة من ذهب ومعصمه بسوار يسمى "بلاك" يلتقط  لهم بوزات دون استئذان... متباهياً أن الكاميرا التي يحمل أحدث موديل... ولولا احترامهم لصاحب الدار لمزقوه وآلة تصويره تمزيقاً!

مسكينة ربة البيت فقد قضي عليها بأعمال منزلية شاقة، لكن من اجل عيون زوجها تهون الصعاب... فهي ترتب أسرتهم  وتغسل صحونهم وتصنع القهوة لهم على مدار الساعة فمن يدها أطيب...باستثناء ملابسهم فالمضيف يرسلها للدراي كلين... وهو عالم انه سيسدد الفاتورة من جيبه بعد رحيلهم! وسيتبع ذلك  فواتير الكهرباء والهاتف والماء المرتفعة كونهم تعودوا الاستحمام لمرات في اليوم عاتبين على أنواع الشامبو الرخيصة المهيأة لهم... وبينما تتسلى الضيفة بتصفيف شعرها وتلوين أظافر يديها ورجليها وطلاء وجهها بكريمات غالية الثمن كما تشدقت للمباهاة! انهمكت المضيفة وقد طأطأت رأسها وحنت ظهرها للف أوراق العنب ونقر الكوسا بحذر خشية ثقبها لتكون أهلاً للحشو بالأرز واللحم، فهو  طيب الطعم  كما يغازلونها لتحميسها لبذل المزيد ...كان الله في عونها.. فهم  يأكلون ثلاث وجبات دسمة في النهار بينما كانت وزوجها يكتفيان بأشياء خفيفة على المعدة وعلى الجيب!

و تعزيزاً للمثل القائل " من طينة بلادك لط خدادك " صرح الضيف أن لديه طلباَ بسيطاَ ألا وهو سرعة البحث عن عروس لابنه المدلل حتى يتم الزفاف بسرعة .. فصار صاحبي ينقب من  بيت إلى بيت ويثني على ضيفه ويعدد مناقبه... وكأن الصبية التي يسعى لها ستـتـزوج الأب وليس ابنه!

 

وفي كل معاينة لحسناء كان الضيف يردد : حسبكم فخراً أنني حضرت إلى مسقط رأسي من أجل عروس لابني المزيون ويا حظ من تكون من نصيبه! ويشير أحدهم إلى فتاة طاهرة  فيتحرك القوم في الحال... ويقتنع والدها بعد أن أوهموه أنها قادره على سحب إخْوَتـِها الى تلك الديار للعمل! فيطرب ويبارك قائلاً في أعماقه: " الله الله يا مفرج المصايب ! "

وأمام زفة مصطنعة أحيتها جوقة مستأجره رفعت السيوف لهذا الإنجاز، أحس العريس أمام القوم أنه إنسان مهم... فالكل يصفق له... حتى إذا وصل إلى حلبة الرقص بانت مواهبه، فصار يضرب الأرض برجليه ويدور حول نفسه بحركات استعراضيه أدهشت العروس فهمست في أذنه:" تسوى هلي وكل القرابه... " وما أن  دنت كعكة العرس ذات الطوابق حتى التفتت إلى رفيقاتها ترفع السيف مزهوة وقد تأوهن غيرة على سعـدها... 

      وما أن حققوا غايتهم... حتى قرروا العودة لاتمام معاملة لم الشمل  لتلحق بهم العروس. فدكوا حقائبهم بالجميد والهيل والسمن البلدي على نفقة المضيف لرفض البائع  " الفيزا كارد "  وهي حجتهم في المضمر لعدم الدفع!

هي في بيت أبيها قيثارة محطمة تطوي وجعها وتتكتمه في نفسها، بعد أن وصلتها رسالة من عريس الزين تفيد أن ما تم كان امتثالاً لأوامر أبيه ورغماً عنه فهو متزوج ولامرأته موضع في قلب.. وان مبلغاً مالياً متواضعاً في طريقه إليها...


 

        

" ظاهرة هل تشكو من...؟ "

 

هل تشكو من مرض السكري أو الضغط أو من أمراض القلب والأوعية الدموية أو من التهابات في البروستات أو في أي مكان آخر من خارطة الجسم، سواء كانت التهابات المفاصل أو سرطانات الجلد أو القولون أو من النقرس أو الكبد الوبائي أو من دسك العمود الفقري أو الصلع أو إذا توفر لديك رصيد من شحم متكدس ترغب تصفيته؟

إذن ما عليك إلا أن تلقي القبض على إحدى الصحف المجانية والتي تلقى كيفما اتفق داخل حرم منزلك وتتصل بواحدٍ من الإعلانات الطبية الكثيرة المتوفرة  في الطبعة الواحدة لتطلب من مجهول.. لم يكتب اسمه في الإعلان، بل اكتفى برقم هاتفٍ نقال... وبسرد لمجموعة الأمراض التي يمكنه معالجتها وابادتها... فترفع السماعة من الجانب الآخر أحياناً سيدة تمنحك كلماتها ثقة.. لتمهد لمن تطلق عليه اسم الدكتور أو الأخصائي ليتلطف ويـشخص حالتك على الهواء... مستخدماً تقنياته وفهلوته للسيطرة النفسية عليك، وليرسل لك علاجاً في الحال مقابل ثمنٍ مرتفع تحت لغة التوصيل مجاني! وقد يتجرأ ويزورك في وقت يخالف الوقت الذي اقترحت ليكون في أمان فلا يكتشف أمره... مدعياً أنه كان مشغولاً مع مرضى حضروا خصيصاً له من بلاد بعيدة... ومصطحباً في يده اليسرى كيساً غامق اللون بداخله عبوات بلاستيكية أو زجاجية بها خلطات وكريمات غريبة عجيبة تنفع لكل داء.. وإذا ما أردت التحقق من هويته ادعى أنه حضر بسيارة أجرة على عجل ناسياً أوراقه الثبوتية، لكن من الممكن أن  يـبرز بطاقة لمؤسسة وهمية يرأسها طبعت بذكاء، تشير إلى تخصصاته ولعمري كم تكون فرحته عندما يتأكد أن رجلاً أو سيدة في عمر متقدم ينشدان عونه!

وعليه فان من حق المواطن أن يسأل  هل هذه الإعلانات وغيرها تتم بعد التأكد من هوية المعلنين ومن شهادات تسجيلهم في وزارة الصناعة والتجارة أو نقابة الأطباء؟ وهل صحة انساننا لا تستأهل أن يحضر المُعلن موافقة الجهات المعنية في وزارة الصحة؟ فيتحمل ومن صادق على إعلانه العلاجي  مسؤولية المضاعفات التي تتأتـّى من استخدام هذه العلاجات، حتى وان كانت خليطاً من الأعشاب مع مواد مضافة جبلت بلا مقاييس أو موازين!

إن صمت من يعنيهم الأمر على هذه الممارسات، يشكل إيحاءً لهؤلاء الناس للتمادي في الاستهتار بصحة المواطنين. وإذا كان الجواب أن الناس أحرار فيما ينشرون وأن القانون لا يحمي المغفلين، فان المصيبة في هذا الرد أعظم... ونكون قد منحنا رخصة لاستمرار هذه العبثية... ونحن نعلم أن المريض يتعلق في كثير من الأحيان بأي شيء طلباً للشفاء، كالغريق بالقشة ويعتبر أن الإعلان لابد أن يكون قد دقق من قبل الجهات المسؤولة والتي يثق بها الجميع ولولا ذلك لما تم نشره في الصحف...   

كما أننا نشعر بالأسى الممزوج بعدم الرضى على الطريقة التي يتم فيها وضع بعض الإعلانات عن الأجهزة المتعلقة بزيادة  الكفاءات الجسدية... مهما طال العمر أو قصر لتبتسم الحياة وتتفجر الطاقات.. ذلك أن مشهد الأطفال والشبان وقد علت وجوههم الدهشة، يشيرون بأصابعهم إلى هذه الإعلانات طالبين شرحاً يضع الأهل في مأزق حرج... فيتوجه هؤلاء الأطفال إلى عمل حلقات في ساحات المدارس حيناً.. وحينا أخر على الطرق همساً... ينشدون الرشد والنصح في خوف منهم على مستقبلهم خشية الإخفاق في تأسيس أسرة مستقبلاً وحمل اسم أبيهم .. وعليه فان اهتمامهم سيتحول الى هذه المسائل البدنية وبهذا نقطع عليهم مراحل وأطوار نموهم الطبيعي للاستمتاع ببراءة طفولتهم وعفتهم ونقائهم .


 

 

" الــســيــد... مــــديــون ! "

 

حقق غايته، وخرج من "البنك" والبشرُ يعلو محيّـاه، وما أن أشار إلى سيارة "تكسي" حتى توقفت في الحال... فقد استشـّفّ سائقها لما رآه يحمل حقيبة رجال الأعمال "سمسونايت" أنه زبون "مدهـن" عيار ثقيل!

إلى معرض "فـُرِجـَت" لبيع السيارات أمر السائق، لكن قبلها أريدك أن تـُعرّج على متجر مختص ببيع السيجار الفاخر.. ويثبت السيد سيجاراً في منتصف فمه، فينبعث الدخان دوائر سوداء في أفق السيارة... حتى إذا بلغ مُراده أكرم السائق مضاعفاً ... لتحمّله نشق الدخان معه!

لم تدم مفاوضات شراء السيارة أكثر من نصف ساعة...فهو على عجل من أمره، فيسدد الثمن عداً ونقداً بكل أريحية وسرور، متقبلاً على مضض لوناً غير ما كان بباله... وقد أرضوه بعلاقة مفاتيح فاخرة!

هو في سيارته الجديدة بعد إتمام نقل الملكية، تارة يعبث بأزرارها الغريبة لمعرفة آخر تقنيات العصر، وتارة أخرى يتفحص وجهه في المرآة العريضة المثبتة أمامه، فيُمسد شاربه... ويعدّل طيات شعره من نسمة هواء صفعت رأسه. وتتحول السيارة في الوقت عينه إلى غرفة عمليات، فهو يهاتف مجموعة أصدقاء "مصلحجية" ليجمعهم على غذاء من نوع خاص في مطعم فندق ذي نجوم كثيرة!

"نـَزّل كل ما لديك من مقبلات، ولا تبخل علينا بالسلطة اليونانية، وأكِثر من أمخـاخ الحملان المغمسـة بالليـمون،لكن إياك والثـوم! " قالها للـنادل... ثـم " آتنا بمجموعة قوارير من ضرب حدده من المشروب يذهب العقل سريعاً مصدره خارج القارّات... فالأنواع المحلية لا تشفي الصدر في جلسة كهذه!"

حتى إذا تناطح الكأس بالكأس وابتدأ يفعل فعله بالرأس... وكانوا أتوا على المقبلات جميعها لوّح بيده لكبير "السفرجية" راغباً وجبة الغذاء التي انتقاها ندماؤه، من السلمون المدخن، والقريدس المقلي بدقيق "التمبورا" على الطريقة اليابانية، والزغاليل، و"فيليه" لحم البقر متوسطة النضج لتبقى عصارتها فيها فتكون حنونة على أسنانهم... وحمل ٍ رضيع ٍ مشوي ٍ محاصر بالأرز والصنوبر اللوز.

أما وقد ارتفعت أصواتهم وضحكاتهم لتعلو على صوت الموسيقى الناعمة التي كانت تبثـّها الأجهزة المنتشرة في صالة الطعام، فقد ارتأى الجالسون على الموائد المجاورة الفرار من نير وصخب وضوضاء هؤلاء الناس... ومن روائح السيجار الكوبي التي أغلقت أنوفهم!

وما أن تحلق حول مائدتهم بعض "السفرجية" في إشارة خفية إلى ضرورة مغادرتهم، فذخيرة المطبخ من الطعام أوشكت على النفاذ، إذ لم يبق صنف من الطعام إلا وقدم لهم... ومن جانب آخر حتى لا يضطروا إلى حملهم على الأكتاف إلى خارج المطعم بعد اشتغال بنت الكرمة في رؤوسهم!

يخرج السيد حزمة من الأوراق النقدية الجديدة جداً لتسديد الحساب مبقياً قطعة من فئة العشرين ديناراً لمن أتقنوا عملهم في إزاحة الكراسي لهم كلما توجهوا إلى المرافق الصحّية أو حين عودتهم، ولجهدهم في تبديل المعالق والشوك، يمسحونها بردائهم الأبيض ويعيدونها نفسها حسب التعليمات الداخلية السرية!

سَمِعت زمامير هوجاء متتالية فقدّرت أن شيئاً ما غير طبيعي في الأمر... فلا هي زمامير سيارات نقل الغاز المزعجة، ولا هي زمامير حافلات المدارس توقظ الحي بأكمله إن تأخر صبي مدلل عن اللحاق بها... فتوجهت إلى شرفة المنزل تستطلع الوضع، فإذ بسيارة جديدة من غير الأنواع التي يقـتـنـيـها سكان الحي وحولها بعض الصبية يتدافعون للفرجة.

وما هي إلا دقائق حتى دخل يصفـّر كالبلبل الغـّـريد ويهز بيمينه حقيبة سوداء فاخرة ما عهدته يحمل مثلها...لكنها شاهدتها كثيراً مع ممثلي المسلسلات التلفزيونية! وكان يلوح بمجموعة مفاتيح في أصابع يده اليسرى...استعاذت بالله إذ حسبت أن زوجها أصيب بلوثة تشبه الجنون.

 

وما أن همّت أن تستفسر من قلبها المحروق عن سر تبدل الحال موجهة نحوه نظرة تغلغلت في أعماقه...حتى خلع ربطة عنقه الحمراء بعنف وقذفها في فضاء الغرفة مزمجراً : أيُسأل مثلي عن تجارته؟ إنها التجارة... أرزاق تهبط على عباد الله وهو مُقسمها.

ثم سحب مبلغاً من الأوراق النقدية قائلاً : جددي أثوابك هذه كاملة ...واذهبي قبل غروب شمس اليوم إلى صالون "فـُرِجـَت" اصبغي شعرك بلون ذهبي إنه اللون الذي يناسب وجهك، "بدنا نعيش حياتنا..." وحتى يخمد ثورتها الداخلية أكثر، أردف قائلا: تنظيف ملابسنا منذ صباح الغد سيكون من مهمة " الدراي كلين ". وما أن سمعت هذه الفقرة حتى أقبلت على عنقه تقبلها على الرغم من اكتسائها بروائح السيجار المجبولة بالعرق! 

وما أن ألقى بجسده على أريكة قريبة حتى غطّ في النوم... يشخر شخيراً عالياً، مع تمتمات أشبه أن تكون هلوسات تائه... ترافقها حركات من يديه وكأنه يقود سيارة في شارع مزدحم.

ونحو الساعة التاسعة ليلاً، تضمخ بالعبير وأعلن أنه ذاهب إلى اجتماع هام فهو رجل أعمال يقتضي وضعه الجديد متابعات وترتيبات فبل طلوع النهار، فتوجه إلى نادٍ وملهى ليلي أرشده إليه صديق حميم يمارس هواياته البهلوانية فيه منذ فترة طويلة. وما إن ابتدأت وصلة "هزي يا نواعم" من صبايا راقصات من أقطار مختلفة، طلين وجوههن بكل كريمات الدنيا تجميلاً، وإخفاءً لملامحهن! مع ألوان من أحمر الشفاه يثيرون به ثيران المصارعة! حتى أخذته النخوة فصار "ينقط" الراقصات في صدورهن تشجيعاً لهن للاستمرار في أداء هذا الرقص الشرقي اللذيذ فلا يندثر...وللتضحية أكثر فأكثر بإبراز مفاتن أجسادهن وهن يتمايلن ذات اليمين وذات الشمال.

وكلما نادى "قبضاي" الملهى "تحية للسيد..." مشيداً بشجاعته وإنجازاته، وكان أحدهم مرر له معلومة أن السيد ليس من أثرياء الخارج لكنه محلي ووضعه فوق الريح، تتحمس الراقصات ويبدعن في أدائهن المرافق لضرب الطبول... فيسارع إلى جيبه ليلقي على رأس مليحة استظرفها لغنجها وسحرها القتال، بما تجود به نفسه وكرامته من الأوراق النقدية متباهياً أنه رجل مشهور معروف ومزهواً بتصفيق الجمهور له!

كذا كان ينفق لياليه بين الزق والعود، ليعود إلى بيته في جوف الليل متأرجحاً، وامرأته صابرة ذاوية ذابلة من تدهور حاله، وأفانينه في المكر!

وتدور الأيام على السـيـد مـديـون... الذي رهن بيته الذي يأويه وعائلته رهناً محكماً "للبنك " مقابل قرض  مدعياً تنمية وتطوير تجارته... وآثر أن يعيش حياة البذخ والترف "وشوفة الحال..." على حساب الآخرين إلى حين، وهو عالم كل العلم أنه غير قادر على الوفاء بدينه.

ولما دنا موعد سداد القسط الأول، أخبرهم أنه سيدفع الثاني مع الأول ولربما يسدد القرض كله فالوضع تمام التمام.. ومع أعذاره المتتالية وأكاذيبه وتهربه من الرد على الهواتف مع انه غير أرقامه عدة مرات... ارتأى "البنك" وهذا حقه أن ينفذ المادة القائلة "إذا تعذر تسديد القسط المستحق في وقته المقرر تكون الأقساط الباقية كلها مستحقه فوراً..." وكان الحجز! ليصار بعده إلى تهيئة الإجراءات لبيعه بالمزاد العلني! ولم تنجو سيارته من أمر الحجز أيضاً لتراكم الفوائد عليه. على أن علاقة المفاتيح ستبقى للذكرى معه.

  

 "لماذا فعلت بنا ما فعلت؟"  قالتها من قلبها المحروق، بينما طفرت دمعة ثقيلة من عينها إلى وجنتها إلى يدها التي أسندتها على الجنين الذي يرجو الحياة بعد شهور ثلاثة.

تمطى على أريكة وسرح رجليه...ثم جمع يديه فوق رأسه وأنشأ يقول " أنا كنت حابب أعيش حياتي زي الناس...وبعمرو مديون ما انـشنـق! " ثم أخذ يضع اللوم على الدهر ومحاربته له في مساعيه وعلى حظه المنكود، وأردف يردد شعراً:

 

أشَرِّقُ خلفَ الرزق وهو مُغرّبٌ        واقسمُ لو غـَربتُ كاد يشرقُ

 

وما إن سمعت منه هذا الشعر الذي لا ينطبق بتاتاً على حاله، فهو لم يسعَ نحو رزقه... حتى جال في خاطرها قول البارودي:  

 

              إذا ساء صنع المرء ساءت حياته     فما لصروف الدهر يوسعها سـبـاً

 

ولا نكران، أن السيد مديون طلب العون والسند في محنته هذه ممن تنعموا وتوردت وجناتهم على حسابه، لكنهم انفضوا وأقلعوا عنه شطر ميسورٍ آخر شامتين... فاستحق قول الشاعر:

 

عليك إذا هُـزلـتَ مـع اللـيـالـي     وحـولكَ حيـن تـَسْـمُنُ فـي هِراش

 


 

" دردشة مع المدير ! "

 

يـتوجه متفاخراً متبـاهـياً دون موعـد مسـبق إلـى مكـتب صـديقـه المـديـر، متجاوزاً استغاثة السكرتيرة أو السكرتير بالانتظار قليلاً لإعلام عطوفته. إلا أنه يقتحم الباب.. فيسلم ويقبـّل بحرارة صديقه المدير... وما أن يجلس حتى يبادر بالسؤال "شو الأخبار اليوم!"

الأوراق مكدسة أمام أخينا المدير، بحاجة لإبداء الرأي أو التوقيع، والهواتف ما كان ثابتاً منها أو محمولاً تكاد تقفز وتتطاير في الهواء من رنينها المتواصل، يقرب هذا من أذنه سانداً إياه على كتفه اليسرى، وقلمه في اليد الأخرى، ليوقع معاملة مراجع منتظر على الباب... عقله في اجتماع مقبل، وقلبه يخفق خشية ما يستجد من أعمال!

أما الضيف العزيز، فأذناه كالرادار تلتقط ما يدور من مكالمات لا بل يتدخل ويسأل: "إن شاء الله خير شوفي؟" عيونه تحملق على البريد المسّجى على المكتب قبالته عسى أن يظفر أو يقنص خبراً فيكون مادة دسمة لحديثه مع أصحابه، أليس هو في مكتب المدير يحتسي القهوة العربية... وينتظر الشاي أو القهوة التركية سكر وسط!

يسأل عطوفته ضيفه بأدب :هل من خدمة أؤديها لأخي؟  وبكل برودة يلملم الضيف نفسه بعد سعلة أو قحة يودع رذاذها في كفه اليمنى ويصرّح قائلاً  "لقيت حالي فاضي قلت أمر عليك وأدردش معك شوي!" 

  تتراقص رجلا السيد المدير، وإذ بالباب يفتح ثمة زائر آخر تظهر من جيبه أوراق بها مطالب فقد قال لأصحابه أنه يعرف المدير! تنهال القبل بين الضيفين يا لها من مصادفة، تشتعل السجائر ويبدأ السمر، تارة ينظرون في أوضاع الكون، وطوراً يتباكون الجوى، وآناً يتشاكون النوى، وحيناً  يقهقهون ولكن على أنفسهم!

يحمل المدير أوراقه على عجل ويخرج من المكتب فقد طارت من عقله المادة التي يتمحور حولها الاجتماع القادم... وماذا له أن يقول كان الله في عونه...

ثمة نصيحة مريحة... نزجيها لكل مسؤول وحتى يتفرغ لعمله، بوضع مغلفات متسلسلة الأرقام لدى مدير أو مديرة مكتبه، مع أوراق لمن شاء أن يراجعه شخصياً أو يبـثـه شيئاً من همومه أو لمن يرغب  في الترويح عن نفسه زائراً كائناً من كان... يدون فيها هذا المراجع الغرض الذي حضر من أجله، حيث يقوم المسؤول (شخصياً) بدراسة هذه الأوراق أو التحيات! والإجابة عليها ما أمكن يومياً ولو هاتفياً محطماً نظرية ما يشاع عنه من ارتفاع وكبرياء ليشعر المراجع والزائر أيضاً أن لا حاجة لجلوسه منتظراً المدير مستقبلاً، وما نعنيه بمغلفات متسلسلة الأرقام ليصار إلى تأكد المراجع من وصولها لعطوفته شخصياً.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام أنه عندما يقوم أحد المسؤولين بزيارة لإحدى الدوائر التابعة لاختصاصه القريب منها أو البعيد وهذا الأمر من صلب عمله وواجباته، أنه يتم الإعلان مسبقاً عن هذه الزيارة فتتحرك طواقم هذه الدائرة فرق للصيانة والتنظيف وفرق لتهيئة المرطبات ولون من البسكويت يسمى البتي فور، أما صحف الموظفين فيتم إخفائها في دروج عميقة ويتم إخراس الهواتف المحمولة. وهكذا فالمسرح يكون معداً وجاهزاً... ومغطىً أيضاً من أجهزة الإعلام المرئي منها والمقروء لإبراز نشاط عطوفته وإنجازاته.

إن الإدارة الناجحة أن يتحرك المسؤول عن مقعده ويتابع باستمرار سير العمل في دائرته ومؤسسته، وأن يتوقف أمام أي مراجع مستفسراً عن أسباب تأخير إنجاز معاملته، والتحقق من أسباب خروج آخر بمعاملة شبيهة ومماثلة على أقصى سرعة مع وداع الموظف المختص له على باب مكتبه مكحلاً وجنتيه بشيء من القبل!

 

Back