" لا بأس عليك... مشافى ! "
يُبادر فور دخوله بتأنيب صديقه المريض، لماذا لم يخبره أنه نازل في المستشفى ..وأنه من غير الجائز والمعقول أن يتلقى الخبر من آخرين علموا قبله... أليس هو عزيز عليه؟ يتوسل صديقنا وهو على فراشه والألم يدقه من أعلى إلى أسفل طالباً الصفح والعفو وبأن الأمر كان فجأة...يتحول التوبيخ الآن إلى من حوله من أهله المرعوبين الذين سارعوا بإسعافه، أنهم قد ارتكبوا ذنباً أعظم من أن يغفر لعدم إبلاغه!
وبعد هذه المسرحية من التأنيب والتوبيخ يسأل ببرودة أعصاب "شو الي صار معك وكيف كان ذلك؟" ويـبـدأ الشرح... كان الأمر منذ ساعتين فقط...
يتقاطر الزوار ويطيب العناق، هذا يُلقي بثـقـل رأسه وصدره ليطبع قبلة على جبهته، وآخر يأبى المريض على مضض...الا أن يرفع رأسه قليلا لينال منه قبلة مشحونة برائحة السيجارة التي أطفأها مكرهاً قبل دخوله الغرفة. وقبلة ثالث رش عطراً بسخاء ليغطي الرائحة المنبعثة من جسده...فالطقس حار والمياه ستصل إلى منزله بعد يومين، ونظريته تقول اقتصاد في الماء و تبذير في العطور!
يتزاحم الزوار ويتم على عجل اقتحام الغرف المجاورة لإحضار المزيد من المقاعد، والتي ترتطم بالأبواب والجدران أثـناء إدخالها وتسبب إزعاجاً ومعمعة في المستشفى كله. وحيث لم يبق مكان للمزيد من المقاعد فأن امتطاء سرير المريض والجلوس عليه أمر محبب يتقنه وينفذه هواة متخصصون ....!
تبدأ السواليف والاغتيابات من فريق، والمناقشات من فريق آخر، ابتداء من أوضاع الفصائل المتناحرة في ليـبـيريا، مروراً بالعوامل والأسباب وما يترتب من مضاعفات خروج شادي الأسود من سوبر ستار، وانتهاء بفوائد البطيخ في شطف داخل الجسم من جانب وتدني أسعاره من جانب آخر! هذا على إيقاع الهاتف المجاور لسريره والذي لم يهدأ له قرار، تسانده هواتف السادة المتواجدين أصحاب النخوة.
تستأذن الممرضة الجمع برغبتها في قياس حرارته وضغطه، وترجوهم بأدب بالغ مغادرة الغرفة لدقائق...إلا أن واحداً منهم ينظر إليها بغضب صارخاً أن عليها أن تعرف مع من تتكلم وأصلاً من هي لتصرفه وصحبه من الغرفة؟
يتجمهر الزوار خارج الغرفة، منهم الفضولي الذي يستمتع بفتح أبواب غرف المرضى المجاورين لمعرفة من فيها ولو بحجة البحث عن اسم مريض غادر قبل سنة...ومنهم من يتجول في أروقة المستشفى مختالاً بنفسه، فهو بصحة جيدة وحواسه تعمل بانتظام وفلسفته في الحياة أن المرض لا يأتي إلا للآخرين...ويستل فضولي آخر قلمه ليدون أسماء مرسلي باقات الزهور وقد أغلقت جزءاً من كوريدور المستشفى..
تخرج الممرضة ويعود الزوار إلى الغرفة مستفسرين كيف صرت الآن؟ يعبث أحدهم خلسة بالجلوكوز فقد ارتأى من خبرته السّيالة ..أن تساقط نقاطه غير كافٍ! توزع الحلوى على الموجودين مع شكرهم على مشاعرهم النبيلة... في رسالة لطيفة لهم عسى أن يغادروا من اجل راحة المريض، إلا أن الحماس يعظم بعد دخول عامل البوفيه ملبيا طلب أحدهم لإظهار كرمه، حاملا ما طاب من الشراب الساخن والذي تنبعث منه روائح القهوة والكابوتشينو والشاي، لتوزع عليهم فقد طاب المقام... إلا أن البعض يعتذر وعند الإصرار يقول: "إذا كان لا بد فأفضّل مشروب بارد.. " يحضر الطبيب وبصعوبة يصل إلى سرير مريضه بعد أن تشابكت الأيدي للتحية والأفواه للتـنظير... فيجده وقد شارف على فقدان وسائل اتصاله بالعالم ... فيأمرهم بالمغادرة فوراً ويطلب وضع لوحة على الباب " ممنوع الزيارة قطعياً بأمر الطبيب ".
يحكى أن زائراً دخل متجاهلا اللوحة المشار إليها، شاجباً وجود صديقه في المستشفى ومعنفاً إياه قائلا: أليست يداك بخير وعيناك بخير ورجلاك بخير وطريق الطعام سالـك فلماذا أنت هنا؟ ويصدر أمراً له بضرورة المغادرة معه في الحال، فنقطة الدم التي يتحدثون عنها أنها نزفت من دماغه أمر طبيعي غير مهم...وهذه حركة آلية نافعة لتزييت آلة الرأس! وعليه أن لا يبالي بأوامر الأطباء "هدول ياخذوك ويجيبوك علشان يشتغلوا وأنا صحيح مش طبيب لكن بعرفها وهي طايرة" ولا بأس عليك مشافى!
" الإشــاعــات "
تتزاحم الإشاعات أمامنا بأشكال مختلفة وتستحوذ على وقت الناس وتشغلهم، ولها خبراء مختصون بالفبركة والتهويل والنشر والتعزيز...
تبدأ الإشاعة بأن يهمس أحدهم بأذن مزين شعره في واحد من صالونات الحلاقة حيث تطيب السواليف: "الوزير فلان مروح وبلاش تجيب سيرة" وما أن يتلقى كلمة "نعيماً بعد الموسى" ويغادر، حتى يقدح المزين سيجارة يرتطم دخانها بأهدابه التي رفعها ما أمكنه ذلك، أليس لديه أخبار هامة؟ وما هي إلا مراوغة خفيفة حتى يتلقف مساعده وقد تسلح بمقص يطقطق فيه بالهواء هذه الإشاعة لينقلها بدوره إلى أول زبون جديد قائلاً: " الظاهر في تغييرات وتبديلات ، ووزراء مروحين وخلي الموضوع بيننا " وما أن غادر هذا الزبون حتى نقر على أزرار هاتفه النقال لصديق له يهوى الجلوس في عز النهار في الكوفي شوب ليعلمه أن خبراً " بريمو " في جعبته من ناس واصلة... ويشترط عليه نفساً من أرجيلة مقابل إذاعته وما أن وافق حتى أفاده أن الوزارة على وشك الاستقالة والموضوع مكتوم وعليه أن لا يعلم أحداً. وتتوالى الساعات آخذة بعضها البعض لتتوزع هذه الإشاعة، وليتم تزكية وزراء واستبعاد آخرين، والمراهنة على أسماء البعض لتسليط الأضواء عليهم وتلميعهم، لتعود الإشاعة في آخر النهار إلى المزين بقوالب أخرى يصدقها وكأنها لم تنطلق من دياره!
كما أن تكلفة بث الإشاعة رخيص جداً... يكفي أن يدفع أحد العابثين قروشاً معدودات أجرة نقله في السرفيس ويتأبط زجاجة ماء من نوع معين ويلوي رقبته باتجاه أذن السائق هامساً: " ترى الماء ملوث وما بدهم يحكوا لأحد دير بالك على العيال" ويقوم بهز زجاجة الماء تأكيداً للأمر ومعززاً أن الخبر من جهات مطلعة! " وبلاش تجيب سيرة " وما أن ينقلع هذا المشاغب مع زجاجته من السيارة حتى يتصل السائق مع امرأته حرصاً منه على سلامتها، لتعمم بدورها على أهلها أولاً ثم جيرانها. أما هو ومن باب أمانته على صحة الناس، فقد اهتم أن يمرر المعلومة مضافاً إليها بعض التوابل إلى الركاب وسائقي الخط... وما أن تمضي ساعة حتى تكون سيارات المياه المعبأة تعيق حركة المرور وربطات المياه والقوارير تتكدس على أبواب المحلات والناس من حولها عطشى حيث يحلو شرب الماء ولتتبخر ميزانية البيت لكن واأسفاه عندما تتبخر إشاعة تلوث الماء!
قبل عامين تقريباً تدخلت الحكومة الرشيدة لوقف مهزلة الإشاعات المتداولة حول خطف الأطفال أو انتزاع أعضاء منهم، وقد بث هذه الإشاعة الكريهة هواة حضور المسلسلات وأفلام الرعب، الذين يطلقون العنان لخيالهم المريض كي يسرح ويمرح بهدف إثارة حالة الهلع والقلق بين الناس. وإذا كان اللوم يقع على بعض من الصحف التي نشرت هذه الإشاعة لأهداف تسويقية وجذباً للقراء دون التأكد من صحتها… فإن المواطن يتساءل لماذا تتأخر الجهات المعنية في إجلاء الصورة وحسم الأمر ونفي الإشاعة وسد أفواه العابثين؟ كما أن المواطن يفترض فيه أن يحلل بعقله ما يسمع فلا يتداول أو يؤطر أو يروج حكايات كهذه فنحن لسنا في غابة... وليكن مطمئناً على سلامته.
ومن جانب آخر فان الإخفاق والفشل من سمات مروجي الإشاعات، ذلك أنهم يتفجرون حنقاً وغيرة من نجاح الآخرين وتوهج عطائهم، فيبدأون بنسج القصص والسواليف عنهم لخدمة مآرب شخصية أو لخدمة طرف ما على أكتاف تشويه سمعة ومركز وإنجازات طرف آخر.
وخلاصة الخلاصة، أن من يبث الإشاعات هو إنسان خارج عن القيم الأخلاقية والمبادئ الدينية والإنسانية بالإضافة لكونه عديم الوفاء والانتماء لوطنه... واني موقن أنه وحالما تنجلي إشاعته الكاذبة سيجرجر الخزي في أعماقه، وسينساب عرق فاقدي الإحساس والضمير البارد من على جبينه إن بقي هناك شرش للحياء في منتصف رأسه!
" طـق حنك على إيقاع "
أحاول جاهداً أن أجد جملة مفيدة واحدة ذات معنى من أغلب أغاني الفيديو كليب فلا أتمكن، وأناشد من حولي أن يفعلوا ذلك وعبثاً يحاولون... في الوقت الذي يستهوي هذا النمط من الغناء الكثيرين فيبعث فيهم النشوة والطرب ويحفزهم على الانكباب على الرقص بشهية فائقة…
انه لمن غير الجائز القول، إن هذا اللون من الغناء قد احتل مكانته وثبت أقدامه ورسخ أركانه على الساحة الفنية العربية بمجملها، أو تمكن من اقتحام المزاج العربي الذواق للفن ككل.. ويكمن السبب على ما أراه أنه قد احتضن كلمات ركيكة في بنائها، وألفاظاً فارغة في كيانها، معانيها تضحك الحزين... وتحرك الرصين ليسد مسامعه!
ومهما يكن الشأن في أمر هذه الأغاني، فهي ظاهرة أخطأت الطريق إلى التراث الفني الغنائي العربي الأصيل وان التقت مع رغبات العامة من الناشئة وغيرهم والذين يدافعون عنها بقوة… إلا أنها تحديداً رصف كلمات تساندها مجموعة ضروب إيقاعية تتكسر على أبواب الحواس فتقف عندها، أو بتعبير أدق طق حنك على إيقاع!
وإذا كان لهذا اللون من الغناء بما هـُيأت له من ظروف ومؤثرات، أن يطغى حالياً على الألوان الغنائية الشائعة، فلربما يعود السبب في منحه النصيب الأكبر والمساحة الأوسع من بث المحطات الفضائية لجذب المشاهد... والذي يحاول سواه يائساً في كثير من الأحيان، التفتيش على محطة تغطي ما ألفه من فن الغناء الأصيل، الذي شكل ولم يزل وسيبقى لدى الكثيرين فن طرب عذب هادف يقف وراءه شعراء وكتاب وملحنون متخصصون ومطربون كبار أهل خبرة ودربة وعطاء، تدخل أعمالهم الآذان بلا استئذان ينبوعاً يتدفق بالشذى في عذوبة وحيوية.
ولقد عملت تلك الأغاني الأصيلة عملها في النفوس وحببت لنا أدبنا وشعرنا، فصرنا نبحث عن مجمل أعمال هؤلاء الشعراء الذين وقفوا وراءها سواء كانت قصائد أو موشحات، لننهل المزيد من أعمالهم ولنتعرف على شخصياتهم والبيئة التي نشأوا فيها وأرى في هذا انتصاراً للثقافة….
لقد شكلت الأغنية العربية ضرباً رفيعاً من ضروب الفن... له أدبياته الخاصة القائمة على احترام جمهور المشاهدين والسامعين تخاطب ذوقهم المرهف ومسمعهم العذب بكلام منثور أو منظوم محكم وثيق جزل يمازج القلب ويوقع فيه ألطف المشاعر، وحققت أيضاً آمال الشباب في ريعان الصبا وانطلاقة الشباب فطبعت في ذاكرتهم ذكريات لا تمحى على مر السنين.
يقول القاضي الجرجاني : " أن الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار"
كذلك نلاحظ في هذا النمط من الطرب عدم تركيز التصوير مباشرة على المطرب أثناء أدائه الغناء.. ليستمتع المشاهد بالكلمات وحروفها وهي تخرج من الفم ومحاجره آخذة حقها ونصيبها لفظاً، بل تتحول الكاميرا إلى المطرب وهو يدور حول نفسه مختالاً، وحواليه ومن أمامه مجموعات راقصة مفتونة ومغرمة بأدائه، بعضها فرق محلية وبعضها من بلاد بعيدة تم تصوير العمل في ديارهم لتعريف المشاهد بفولكلورهم وأزيائهم لا بل حضارة بلادهم... وكأن الأمر تسويق سياحي للخارج، وكأن بعلبك أو جرش أو تدمر أو بابل أو الأهرامات بفرقها الشعبية العريقة لا تفي بالغرض.
وحين يُزََّجُ بك في حفل ما فحدث ولا حرج، إذ تسيطر هذه الأغاني الهادرة على الموقف فلا تعود تعلم أين أنت… الأشياء كلها ترقص من حولك ضجيج وضوضاء وكأن الحرب قد شمرت عن ساقها... فينقبض اللسان عن الكلام إذ يتعطل السمع فلا أحد يسمع أحداً بعد… فتهتف في أعماقك أترى لم يبقَ مكان بعد لرائعة جبران بصوت فيروز :
سكن الليل، وفي ثوب الـسكـون تـختـبـي الأحـلام
وســعى الـبدر، وللـبدر عـيـون تـرصــد الأيــــام
فـتعـالي يـا ابـنة الحــقل نــزور كـرمـة العشــــاق
عـلنـا نـطـفـي بذيـاك الـعـصيـر حــرقـة الأشــواق
أو لصباح فخري في موشح :
مـا بـيـن التـجـافـي والـبعـاد أحـرمـت أجـفـانـي الـرقـاد
أو الكثير الكثير من روائعنا فهل من مجيب !
" ظاهرة ماذا طبختم اليوم ؟ "
سقى الله على أيام زمان... يوم كانت الأسرة تتحلق وحدة متكاملة من المحبة حول طبق الطعام المصنوع من القش الملون أو حول طبلية من الخشب، تحني رأسها أثناء الأكل شكراً لواهب النعم على نعمه ، في بيت صفت أجواؤه، فلا اعتداد ولا عناد.
كانت الأمهات يطبخن صنفاً واحداً مما تيسر... فتفوح في أرجاء البيت رائحة الطعام ذكية كالمسك... فتأكل الأسرة ولا يتأفف أحد ولا يتذمر.
لقد كان المطبخ العربي الأصيل وما زال بمأكولاته المتوازنة بأشكالها وألوانها، والغنية بكل ما يلزم لنمو الجسم والعقل، يعتمد على خيور الأرض ونتاج الحقل ،من الحبوب والبقول والخضار مع ما يتيسر من اللحوم... والتي تغطي حاجة الجسم من الفيتامينات والسعرات الحرارية.
على أن الحال اختلف الآن في عصر جحد النعمة والفخفخة الزائفة، وتنكر الابن لوالديه ولدورهما الكبير في حياته... أو بصورة أدق في عصر انهيار النظام الأبوي! إذ يدخل أحدهم إلى بيته وقد أرخى حبال شعره على الموضة الغربية، أو رفعه على موديل "سبايكي" أي يكون الشعر المشبع "بالجل" كالمسامير المغروسة بالرأس... فيكمم أنفه بكفه الأيسر حالاً إن اشتم رائحة البامية المطبوخة أو الفاصولياء أو الملفوف أو العدس أو الزهرة البلدية أو " قدحة المجدرة " وإن تضرعت أمه إليه "اسند قلبك يا ولدي بصحن من البامية المدعمة بقطعة من لحم الضأن"، أبى شاكياً من تمغص بطنه من مأكولات كهذه... ليطلق ساقيه للريح شطر مطعم يقدم وجبات جاهزة، ليلتهم بشغف ونهم وجبة يقبلها على علاتها مبتسماً!
وأغرب من هذا أن يتصل فتىً من داخل بيته الذي يترعرع فيه دون مشاورة والديه، وكأنه يقصد بتر علاقته معهما، ليصله طعام جاهز على الرغم من جهد أمه وانكسار ظهرها ، وقد انحنت الصباح بطوله تلف ورق الملفوف وتنظمه تنظيماً رائعاً داخل قدر الطبخ وتراقب نضجه، حتى إذا سألته عن سبب هجره لما تطبخ، وقد انسلخ يلتهم وجبته قبالة التلفاز، أجاب : "أنا حر...آكل ما يعجبني "
وان عاد أحدهم من مدرسته أو جامعته ودخل المطبخ احتدم غضباً وصار يبرق ويرعد معنفاً أمه "تعلمين أنني لا أحب السبانغ...ومع هذا تطبخينها! ترى عصر هذه الأكلات ولّى ومضى، شو هل البيت؟"
حتى إذا سمع والده الحديث بأذنيه وكان مستلقياً في غرفة مجاورة يرتاح من كد الصباح، ينتظره متلهفاً للقائه، ليشاركه على طاولة واحدة وجبة الطعام الصحية المغذية هذه، ارتفع ضغطه وكاد أن يسقط مغشياً عليه، وكان قبلها كثير الجلد... إذ كيف لهذا أن يعنف أمه بدلا من طبع قبلة على يدها؟ كما كان يفعل هو لوالدته... وكلنا ذاك الرجل... قبل أن يطويهم الردى على رجاء المعاد.
وكيلا يتماحكا فيتحول المطبخ إلى ساحة ملاكمة ومصارعة، بعد أن نظر الولد إلى أبيه نظرة شرسة... أخبره "يا لضياع التعب... أغرب عن وجهي!" وما أن سمع هذه الجملة حتى هشّ وبشّ منطلقاً نحو الشارع يهاتف أقرانه "لاقوني على مطعم جاهز أفندي... عصافير بطني عم بتزقزق، لا حدا حوّش!".
ومن قلبه المحروق فتح فاه منشداً مع المعري :
أرى ولد الفتى عبئاً عليه لقد سـعــِدَ الذي أضحى عقيماً
ثم خاطب رفيقة حياته بعد أن طبع على جبينها قبلة وفاء لاصطبارها، إذ أنه الآن علم أنها لم تكن لتنقل إليه ممارسات هذا الشقي حرصاً على صحته، "تذكرين... عندما بشرت الممرضة أن المولود ذكر كيف هرعت بلا وعي أقفز درجات المستشفى إلى اقرب محل للحلويات أوزع الحلوى وأنثر حبات "الشوكولاته" على كل الرؤوس، فقد تحققت أدعية الداعين، بدنا نشوف لك خلف... بدنا نشوف مين يحمل اسمك!"
أنا السبب في اعتلائه الموج وفيما لحقنا من أذى أدبي. قالها والألم يعتصره. لقد دللته كثيراً وجعلته يرتع في بحبوحة وهاك النتيجة خيبة أمل وإحباط! إيه شريكة حياتي... ما معنى التغني بالجاه والغنى والحال هذا... على أنني أوصيك ِ إذا ما غاب نجمي وشيدت الصواوين أن يصار إلى وضع لوحة كبيرة يـخـط عليها بخط كبير "من خلف مات!".
إنها الموجة التي تجتاح الجيل المندفع من شباب اليوم، في تقليد واتباع لنظم حياة لا تتلاءم وفطرتنا أو مع ركائز حياتنا الاجتماعية مع ما تفرزه من سلوكيات سلبية تنعكس على أصحاب الحكمة والعبرة والفضل من ذويهم.
أترى هل ستعود الأسرة إلى تناغمها وانسجامها وأصالتها مع ما نعانيه من ممارسات جيل الناشئة المنجرف وراء الميول والأهواء وحطام الأرض؟
ويبقى السؤال ماذا لو أصابت هذه الفئة المدللة في مجتمعنا أحداث الزمن، ونوازل الدهر، ومخبآت الغيوب؟
" ظـاهــرة… الأخ مــنـيـن ! "
ما أن ترنحت سيارته مـؤذِنـة باحتضار أحد دواليبها، حتى أخذ أقصى يمينه مشكوراً وابتدأ ورشة التبديل والتغيير. وبينما هو غارق في حومة العمل، حضر أحد المجاورين محاصراً سيجارة بين أصابع يده اليمنى بينما دس اليسرى في جيبه قائلاً خير شو في ؟ فأجابه: شغلة بسيطة بنشر!
أما وقد تعود على زج نفسه في كل مسألة وشأن، فقد انفرجت شفتاه وأطلق سؤاله المعتاد الأخ منيـن؟ ومضى على رسله في متابعة الدوران حول هذا السؤال، غير عابئ بمن يخاطب وصراعه مع دولاب سيارته من جانب، وانشغال عقله في موعد مضروب من جانب آخر. فالأمر هذا لا يعنيه فما يشغله في هذه المرحلة هو معرفة من أين الأخ ويتابع محدثي قائلاً : لولا أن يدي كانتا غارقتين في لجة سـخـم الدولاب لحصل ما لم يكن متوقعاً!
إنها حكاية " الأخ منيـن" وقد شاعت حتى صارت من عوائد بعضنا يطربون لها، فينفرج وجههم ويبتسم ثغرهم وتطيب نفوسهم . ففي صالات الأفراح لها نصيب وتحت شـوادر الأتراح المزركشة الألوان ثمة هاوٍ لها ما ربحت تجارته يوماً، يتربع على مقعد وثير أو كرسي عادي، يشدو بها وقد تضامن معه نفر في توجيه هذا السؤال كلما دخل مُواسٍ حيث يجدون لذة وارتياحاً في نبش أصله وفصله... وقد يتذرع بروح الصبر والسكينة... حتى يرى في خروجه قبل أن يصدروا حكماً عليه خيراً من جلوسه!
وما أن تجلس في سيارة أجرة وتحدد هدفك، حتى يوجه لك سائقها السؤال نفسه بطريقة غير حضارية... فيتشتت فكرك وتتمنى على نفسك لو أنك ذهبت على نعليك راجلا ً... كذلك إن خذلك الطريق وتوقفت مستوضحاً من أحدهم ليرشدك ويصوب اتجاهك سيفعل لا محالة ولكن بعد أن تجيب على سؤاله مدار البحث!
وهكذا فانهم كُـثـرٌ من يريدون إشباع فضولهم وحشر أنفسهم في دواخل الآخرين، من مزين الشعر مروراً بصانع الحلويات وبائع المفروشات وموزع المحروقات وانتهاءً بقابض الفواتير وسكرتير المدير. ولا ننسى في كثير من الأحيان فـذلـكـة بعض الطلبة بتوجيه السؤال عينه لمعلميهم بطريقة استعراضية وما يترتب على ذلك من انعكاسات!
لا ريب أن التعارف والتواصل شيء حسن، فالإنسان كائن اجتماعي، ولكن عندما يقوم هواة التجزئة وفي غير مناسبة إطلاق هذا السؤال لمآرب وأهداف ظاهرة وباطنة فهذا أمرٌ غير محمود. إن ما نريده الوقوف بجدية مع التوجهات الرسمية في هذا الشأن وتوظيف الطاقات خدمة ً لإنسانـنا، وان نتبارى على فعل الخير لمصلحة الوطن. فلا يجوز بحال من الأحوال المفاضلة بين الناس على قواعد
معينة أثناء مجالس السواليف...أو العبث في نسيج المجتمع الذي ننتمي إليه ونفاخر الدنيا به. وكل من يراهن على غير هذا مخطئ عابث. فالإنسان في أردننا العظيم وارث لواء الثورة العربية الكبرى، معروف بوعيه شعاره الاخوة والمحبة والتضامن ، وذلك لإيمانه الراسخ بأن الرصاصة الأولى التي أطلقها الحسين بن علي طيب الله ثراه كانت من أجل عمان وبغداد ودمشق وبيروت والقدس الشريف.