" وفي الجسم ِنفسٌ لا تشـيب ُ بشـيـبه "
من بلاد سيلان على المحيط الهندي، أحضروا له تلك الصبية لتخدم وترعى وتمنع عنه وحشة الانفراد وقسوته ووخزاته...كانت تمسك بيده خشية أن يسقط فقد اهتزت خطواته ولم تعد مرنه كأيام الشباب، لكنه أصر على أن يخرج من بيته في جولة... فقد مل الجلوس على عتبة باب بيته، لتكتحل عيناه بالنظر إلى الشوارع والأزقة ولتعاوده ذكرياتها العذبة مع أناشيد الطيور وهي ترفرف وتزقزق مبتهجة تتبعه في مشواره.. وفجأة يطوف به الخيال، وإذ بدمعة تترقرق بين أهداب عينيه حين تذكر الذين علمهم الجري والمشي في هذه الحارات في طفولتهم البريئة...وأين هم منه الآن؟ وكم عصفت به الرياح العاتية، وكم تحمل من الأحزان والمخاطر في طريق الأشواك والشباك في سنين السعي والعمل بلا كلل أو ملل.. يحبس عن نفسه راحتها لا بل ويضيق على حياته الا لما يلزم في سبيل أبنائه ليعيشوا بكرامة وبحبوحة ويسر حتى صار هذا الفعل على ألسنتهم بعد حين تهمة أنه لم يكن مسرفاً!
وحين آلت إليهم السيطرة على ما جمع وشيد .. جهزوا له صبية من بلاد أخرى لتحنو عليه... تأتمر بأوامرهم وتصغي لأحكامهم لا هو يفهم عليها ولا هي تفهم عليه... أليست من بلاد غربة بعيدة بتكوينها الاجتماعي والثقافي والنفسي ولا تتناسب مفاهيمها مطلقا مع هذا الرجل الذي رُش الشيب على رأسه! متجاهلين أنها فعلاً مرحلة المشيب لهذا الرجل. ولكن حاشا للحياة أن تشيب فالإنسان الداخلي فيه يتجدد يوماً بعد يوم...ولسان حاله:
وفي الجسمِ نفسٌ لا تشيبُ بشيبهِ ولو أن ما في الوجهِ منهُ حِرابُ
انه لأمر مؤسف أن الكثير من الأبناء الذين طوحت بهم النزعات والشهوات ومن باب الفخفخة الجوفاء...لا ينفكون يوجهون الانتقادات لوالديهم ويستخدمون أساليب تمجها النفس في معاملتهم متخذين من قصتهم في المجالس وكأنها حكايات عن أناس من عصر ما قبل التاريخ! كما أن الاستـئساد على الوالدين يشكل تجاوزاً خارقاً لكل المبادئ الإنسانية.
إن أي تندر على قرار أو فعل قاموا به هو ظلم نلحقه بهم، إذ يتوجب علينا أن لا نقيس معادلات الماضي بظروفها القاسية آنذاك على مقاييس الحاضر وبهرجته. فاتزان عقلهم وذكائهم الفطري الحاد ومعالجتهم للأمور في أوقاتها بدقة وروية كان عظيما وناجزا.ً وعلينا أن نستفيد من الاختبارات التي نقشتها السنين الطوال على حواسهم بعمق وثبات، لنستأنس بها فمن فمهم تقطر الحكمة وعلينا أن نتذوقها كل يوم... كما أنه لا قيمة للسجايا التي يتشدق بها البعض إذا تجردت من العاطفة ومفرداتها!
وفي الوقت الذي يتوقع فيه البعض أن ليس باستطاعة هؤلاء الرجال بعد مرحلة من العمر من عمل ينجزونه أو طاقة يستخدمونها، نجد أن الدراسات في العالم بأسره تشير إلى عكس ذلك تماماً فالكثير الكثير من هؤلاء الرجال قدموا للحضارة والتاريخ ومازالوا يقدمون أفضل إنتاجهم بين الستين والسبعين من عمرهم... وأفخر وأعمق إنتاجهم بين السبعين والثمانين... وأعمالاً عظيمة خالدة بعد الثمانين ...
تقول الأسطورة الإغريقية القديمة : ان "ميديا " كان يضع الأجساد الضعيفة من الكبر والشيخوخة في قدر خاص فيردها إلي عنفوان الشباب وفرح الصبا . فهلا كنا نحن قدوراً من العطف والحنان والاحترام لهم؟
" ظاهرة تجميع المخلفات على أسطح المنازل"
في الوقت الذي تستمر فيه الجهود على المستوى الرسمي وبالتعاون مع قطاعات واسعة من المجتمع للمحافظة على بيئتنا نظيفة جميلة، نرى أن الكثير من المواطنين يجدون لذة في حشد سطوح منازلهم بمخلفات متنوعة على أشكال وألوان تم استهلاكها حتى آخر تخـوم هذه الكلمة... وصارت مع مرور الوقت مكاره تشوه جمال بيئتنا وصورتها.
وإذا كانت طبيعة بلدنا جبالاً وتلالاً... وتقتضي منك أن تصعد أو تهبط في كل تنقل لك أو حركة... فلا أرى أنك بحاجة إلى ركوب طائرة هيلوكبتر لمراقبة هذه الظاهرة ومشاهدة ما يتكدس على سطوح البيوت والأبنية من العجب العجاب!
فعلى الكثير من السطوح تتراكم كنبات محطمة وفرشات مهترئة تتخذها القوارض والزواحف ملاجئ آمنة للعيش والتكاثر، كذلك قطع من أخشاب متآكل و"سحارات" خشبية أو بلاستيكية أو من البولستر تعشعش فيها طيورٌ غريبة مختلفة، وأجزاء محطمة من بقايا مرافق صحية وزجاج مهشم... أو أشباح لهياكل أبواب ونوافذ من قبل التاريخ الحديث... ناهيك عن الكاوتشوك الممسوح وطمبونات السيارات وقطع غيار مما تعافه حتى محلات "السكراب" والخردة، ولا ننسى الزينكو والطوب والحجارة والسجاد المتعفن وشوالات الخيش خط أحمر وما تراكم عليها بفعل الرياح العاتية والعواصف الرملية وعوامل الصيف والشتاء.
وإذا كنا نعرف من الهوايات التي يعشقها ويمارسها المرء جمع الطوابع أو النقود القديمة أو التحف والنحاسيات أو الكتب كخير جليس... فان هواية جمع الجالونات الفارغة مع تنك الزيت والزيتون وقد أدركها الصدأ وفعل فيها ما فعل... والـحُـنُـــو على عبوات الألبان وما شابه من عبوات لا قيمة لها بعد التهام محتوياتها... والمسارعة للاحتفاظ بها على أقرب سطح متوفر باعتبارها مدخرات ومقتنيات فهذا ضرب من الهوايات غريب عجيب... والحال لا يختلف نهائياً إذا ما شاهدنا ما يتراكم على سطوح الدكاكين والمطاعم والمخابز، حتى إذا ما أتيح لإنسان عاقل أن يصعد على واحد من هذه السطوح لاستغاث طالباً النزول خشية الغثيان مما يرى ويشتم !
ولما كانت العطل المدرسية كثيرة على مدار العام، ونخص بالذكر العطلة الصيفية حيث ينتشر العديد من شبابنا هنا وهناك في سعي نحو الـلاشـيء... فإننا نأمل أن تهب الحمية فيهم وتتضافر جهودهم وتفرغ طاقاتهم لتعزيل سطوح الأبنية والبيوت التي يقطنون فيها أولا وأن يصار إلى تنفيذ ذلك بطريقه منظمة حضارية بحيث لا يتم إلقاء هذه المخلفات على الأرصفة وعلى الشوارع فتكون الكارثة أكبر! وان يمتد نشاطهم بعفوية واعتزاز لصيانة وطلاء ما وسعهم من جدران حاراتهم وأزقتها باستخدام أفكار فيها لمسات من الإبداع والتفنن لتجميل العمل، والأمر بمجمله لن يكلف إلا الشيء اليسير مادياً كما أن هذا النشاط العظيم لن ينقص من قيمة ومكانة أي منهم بل سيمنحهم سعادة ما بعدها سعادة بعد أن ينجزوا هذه المهام... وستتبدل صورتهم للأفضل أمام مجتمعهم وأنفسهم وصبايا الحي!
ربما يبدو هذا الحديث أمراً مضحكاً لبعض من القراء... إلا أن غاية ما نريد أن نصل إليه هو أن نفجر في شبابنا ينابيع البذل والخدمة والعطاء وان نستنهض هممهم في أوجه العمل الجماعي النافع ليبقى بلدنا جميلاً نظيفاً .
"ظاهرة السيد فـهـمـان... "
كان الحديث ممتعاً إذ تمحور حول أهمية الرياضة والحمية في علاج مرض السكري، وأن التهام كميات كبيرة من الطعام وخاصة الغنية بالسكريات يشكل سبباً رئيساً من أسباب هذا المرض، مضافاً إليه القعود لساعات قبالة شاشة التلفاز دون حراك... حتى وإن اقتضت الضرورة كأساً من الماء أو منديلاً ورقياً! جاء هذا على لسان أخصائي رأى أن يغذي الجلسة بمادة نافعة عوضاً عن قتل الوقت وإضاعته... هذا الاصطلاح الأكثر شيوعاً في مجتمعنا وخصوصاً على لسان الشباب. وكيلا تفوته الفرصة أطلق "السيد فهمان" لسانه ليصبح طرفاً في النقاش قائلاً: "بلا حمية بلا كلام فارغ طالما طريق الزاد سالك لا توفروا... لا أحد يأخذ معه شيئاً." ويسترسل بعد ذلك في تنظيره ليخلط بين الأنسولين والبنسلين! أما صديقنا الأخصائي فرأى أن ينجو بنفسه من هذا الحال فغادر مطلقاً ساقيه للريح!
السيد فهمان لا يعرف حسن الاستماع... ولا يحب الصمت وهو دائم التدخل والمقاطعة، يسلب حق جالسيه الحديث ويزاحم في الرد ولو أن استفساراً وجه لغيره... يتكلم في كل المواضيع ويجول في كل الميادين، فهو في نظر نفسه موسوعة متنقلة... كما أنه لا يقبل تصويباً لحديثه ولسان حاله للآخر دائماً "مش هيك..." يدفع الحق بالباطل ويتفوق على الأقران بالمناظرة غير المنطقية، على نمط تلامذة المدرسة السفسطائية القديمة... يهدم كل المرجعيات ويقيم الحجة التي يراها تلائم الموقف الذي أمامه. كما أن أسلوبه في الاستحواذ على جلسائه مع تأييد بعض الأنفار لحديثه ومداراة البعض الآخر له تحبباً، يمنحه الفرصة للحديث في الطب والعلائق بين الشرق والغرب، والفلك والتبصير، والوسواس القهري، والطاقة الشمسية وفعلها في تسخين الماء، وأيضاً في أسباب تقصف الشعر والسياسة!
يطعم السيد فهمان حديثه بأسماء شخصيات لها الفضل في بناء الحضارة ليوهم السامع أنه أمام كفاءة قل نظيرها، فيذكر أن اينشتاين هو صاحب معادلة " ط تساوي ك س٤ " لكنه لا يفقه معناها ولا تفسيراً لرموزها إنما حفظها غيباً، ويضيف أن صاحب هذه النظرية من مواليد الساحل الإفريقي... ويخلط في مجلس آخر بينه وبين شخصية فرانكشتاين الوهمية! وأجزم لو أن ألبرت اينشتاين العالم العظيم كان حياً لسحب هذه النظرية وقام بفعل غير محمود العواقب! وكذا الحال عن عميد الأدب العربي صاحب الإرادة الفولاذية طه حسين حيث أنه يردد اسمه باستمرار مع أنه يجهل كل شيء عنه سوى أنه كان ضريراً. أما ابن سينا عالم الطب والطبيعة والهندسة المشهور فله في جلساته نصيب فيذكر مثلاً أنه التقاه في ندوة عقدت في المكسيك وكان على خلاف معه في مسألة الجينات!
ولكي يروّج السيد فهمان نفسه، يدعي أنه قام ببحث علمي حول مسألة معينة بمشاركة أحد الخبراء المعروفين، حتى اذا وصلت المعلومة لهذا الخبير نفى أن يكون أصلاً على معرفة بفهمان والذي كثيراً ما يستخدم هذه اللغة ليزج اسمه بين جمهرة العلماء تلميعاً لشخصه.
كما ويحدثك السيد فهمان عن مغامراته في أصقاع الدنيا تارة عن قرطبة وتجواله في شوارعها ومدى إعجابه بأنواع المصابيح التي تزين جدرانها مطلقاً العنان لخياله في وصف أمسيات الفرح والأنس فيها... وتارة كيف استقل القطار السريع جداً في طوكيو متوجهاً إلى إحدى البلدات لتناول صحن فول مغمور بزيت الزيتون متباهياً أنه تمكن من ذلك بفضل إتقانه للغتهم! وتارة أخرى كيف طوقوا عنقه دون غيره، بعقد من الفل والياسمين عندما زار لاهور وشارك في الرقص الشعبي بكل جداره! وفي الحق أن البرامج التلفزيونية التي تنقل المشاهد إلى مدن العالم دون الحاجة إلى تأشيرة أو بطاقة سفر أو تبديل عملة، تفعل فعلها مع السيد فهمان الذي يتمثل نفسه زائراً لتلك الدول، ومضيفاً ما يراه مناسباً من عبارات لتأكيد رحلته!
ولعل من أدهى دواهي السيد فهمان، تنسيقه مع صديق على شاكلته، ليتصل به بعد فترة وجيزة من وصوله لمكان ما... حتى إذا وردت مكالمته، تظاهر أنه يتكلم مع شخص مهم وصار يسدي مشورته ونصحه على الهواء مباشرة... لتترك هذه الممارسة في نفوس سامعيه أثراً بليغاً استحق عليه اسمه! ولقد استحب هذا الضرب من السلوك، حتى صار بالنسبة له عادة لا تفارقه.
إنها ظاهرة السيد فهمان يرتدي أثواباً متنوعة ويفرض نفسه على المجالس... وصدق المثل القائل "رحم الله امرؤاً عرف قدره فوقف عنده".
" ظاهرة الكتابة على الأوراق النقدية "
يطيب للبعض أن يَخُطُوا على أوراق النقد المتداولة ما تفيض قريحتهم من خواطر وما يعتمل بين حنايا ضلوعهم من آهات... هذا يفرغ بقلمه على ورقة الدينار خلجات قلبه بصدر بيت من الشعر يجده سبيلاً للتخاطب مع صبية أنكرته، ومعززاً ما يكابد من آلام النفس والجسد برسم قلب يخترقه "سهم كيوبيد" الشهير! وآخر يندب حظه ونصيبه مودعاً ديناره بكتابة عبارات تعبر عن حرقته وأسفه لفراقه جيبه الدافئ، ولكن على أمل أن يلتقيه ثانية... ولربما "وداع أن لا تلاقيا..." حيناً آخر! وثالث، من هواة التأريخ يدون تاريخ وصول ديناره لمحفظته وتاريخ مغادرته، وبين هذا وذاك يرسم خطوط طول وعرض مع مفردات عصيـة عن التفسير. ورابع، ومن باب الميوعة والخسة يجد لذة وارتياحا بكتابة كلمات بذيئة فيها قدح وشتم للآخرين بسبب بريقهم ولمعانهم وذلك تشفياً وحسداً وغيرة. وخامس، ومن باب التوفير وضبط النفقات، يرى من الأيسر أن يقيد على ورقة النقد التي بين يديه متطلبات بيته من البصل والبقدونس والمعاليق وقوانص الدجاج وانتهاء بنفقات الحلاقة والمواصلات!
ومن المشاهد اليومية التي تدعو للأسف أن يمزق أحدهم ديناره في حالة من الغضب معتبراً هذا التصرف انتصاراً على من حوله، ليعود إلى إلصاقه ثانية بأي شيء يجده حتى لو كان "تيب كهرباء"، في حالة من عدم التوازن العقلي! وأعجب من ذلك كله أن يعبث عابث أعمته الضلالة والانحراف بقلمه المسموم على الصور والرسومات التي ترصع الأوراق النقدية والتي نحني الهامات إجلالاً لها كونها تمثل عزنا وكبريائنا وفخارنا.
لسنا نعلم إن كانت هذه الممارسات تجيء تنفيساً وإشباعاً لرغبات دفينة أم بدافع اللامبالاة وعدم الوعي، إلا أنها على أي حال تجسد حالة مرضية تقتضي إجراءات علاجية سريعة، إذ لا يجوز بحال من الأحوال أن يقول قائل "هذا ديناري أفعل به ما أشاء" متجاهلاً انه ورقة نقد للتداول بكل ما تحمل هذه الكلمة من مدلولات، بالإضافة إلى كونه وثيقة تاريخية نعتقد أن القلة القليلة من الناس تفهم وتستوعب ما تحمله من عبر ومعانٍ سامية.
ولما كانت الأمة التي تتناسى ماضيها ولا تذكره مثل الرجل الذي يفقد ذاكرته، فقد جاءت الإصدارات النقدية الجديدة بفئاتها الخمس موفقة للغاية في تناول صور البطولة والشهادة والإنجاز لمن سطرت أسماؤهم على صفحات الخلود من بني هاشم ، لتبقى ذكراهم نبراساً مشعاً يهدي الحاضر والمستقبل.
لقد كان قمة في الوفاء للامة وللتاريخ أن يتصدر الدينار الأردني وهو الأكثر تداولاً بين أوراق العملة رسم لمفجر ثورة العرب الكبرى "ملك العرب" الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه، لتبقى ذكراه ورسالة الثورة العربية الكبرى التي حمل لواءها خالدة في ذاكرة انساننا، مع ما تحمل هذه الورقة النقدية من رسومات بديعة لوسام النهضة المرصع ولعملة تلك الفترة والتي حملت اسم "الهاشمي" و"الحسين بن علي". ولرجال الثورة العربية يرفعون علمها رمزا للشمم والكبرياء وتعبيراً عن آمال الأمة وطموحاتها.
وكذا الحال مع فئات العملة الورقية الأخرى حيث أبرزت صوراً لأبطال كل مرحلة واشارات إلى المحطات الهامة من تاريخ أردننا الغالي، ورسومات نذكر منها قصر معان وقصر رغدان والمجلس النيابي الأول ورسماً للقدس الشريف وللأقصى المبارك موضع اهتمام ورعاية المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، مع زخارف ورسوم قيمة للمواقع الأثرية تحكي قصة الحضارات التي مر بها بلدنا العزيز.
وأمام هذه الحقائق التي نقف عليها شهوداً جديرٌ القيام بحملة توعية وارشاد وتحذير... نترك للمعنيين في وزارة المالية والبنك المركزي بشكل خاص تحديد آلياتها وطرق تنفيذها بمؤازرة الإعلام المرئي والمطبوع... ذلك أننا لا نميل إلى ما يذهب إليه البعض في تعليل هذه الظاهرة الخطيرة على أنها ضربٌ من التسلية والتنكيت!
" توارى عن الأنظار... "
توارى عن الأنظار فور إعلان النتائج... خائفا من تأنيب أهله وغضبهم، وخجولاً من زملائه ومعارفه، يتخبط متلفتا ًيمينا ًو يساراً، و كأن الناس كلهم يتبعونه أو يحملقون فيه أو يتحدثون عنه... شارد الذهن بالحسناء ابنة الجيران وماذا ستحكم عليه... فقد تهاوت الآمال بحياة زوجية مبكرة!
أما صاحب المتجر المجاور فقد أفاد: أنه حضر مرتبكاً ولم يقدم السلام، بل ألقى بدينار غير آبه لاسترداد ما تبقى منه ثمن علبة سجاير، وقفز إلى الشارع... واختفى في اللامكان!
يميل المساء ويخيم الليل فإذ هو عائد إلى بيته، و بسرعة البرق يُوصد باب غرفته عليه، ويفرض حصاراً على نفسه أنين وبكاء في الداخل... تتوسل أمه أولا ثم أبوه: أن افتح الباب يا بني فنحن نحبك... وتنهمر الدموع من عيني أبيه وأمه...
نعم ونحن نحبكم، ألستم غراساً في كرم هذا الوطن يتعهدكم بالرعاية والعناية والنماء... وأنتم في مهجة الوطن أنفاسٌ حية... أنتم لستم ضعفاء إلا إذا أردتم أن تكونوا ضعفاء... وأن عدم تمكنكم من اجتياز امتحان التوجيهي أو أي امتحان آخر في الحياة لا يعني خاتمة المطاف ونهاية للحياة... وكيف للحياة أصلا أن تتوقف على نتيجة امتحان أو فحص، جهّز أسئلته بشر مثلكم لمصلحتكم ولتهيئتكم لمرحلة أخرى من مستقبلكم؟
صحيح أنه في لحظات كهذه، قد يبدو لمثل هؤلاء الشباب أن مكانهم أو موقعهم قد اهتز، وأن الموقف الذي ألم بهم هو الأصعب على وجه الأرض. لكن لا يجوز أن يستولي عليهم العجز والضعف... أو أن تنطلق من أفواههم عبارات الشكوى والتذمر، فالعلامة ليست تقييماً لكل شيء في الحياة... ذلك أن الخوض في معترك الحياة وإدراك حقائقها وارتياد آفاقها الرحبة، بخطى ثابتة وعزم وطيد هو نجاح وانتصار، كما أن المثابرة على الدراسة لإتمام ما تعذر إنجازه هو قهر للإحباط وثبات على الموقف...
يمر كل إنسان في حياته بصخور وعقبات، لكن عليه أن يسحقها ولا يستسلم لها...فالتجارب هي أدوات ترفع الإنسان وترقى به نحو الأفضل... ومخطئ من يقول أن التجارب وعلى أشكالها المختلفة تأتي عرضاً بل أن كل واحد منها مرتب بتدبير أسمى من أن يدركه عقل إنسان! وأنت كذلك في حال إخفاقك في أي امتحان فانه يشحذ الهمة في عزيمتك ودونه يثلم حدك ويعلوك الصدأ... ولو تقصينا العديد ممن لم يحالفهم الحظ في امتحان أو اختبار وما فترت عزيمتهم... لوجدنا انهم قد حققوا إنجازات عظيمة فكانت نقلة لهم إلى آفاق جديدة رحبة وصح بهم قول: "رب ضارة نافعة" .
وانه لرثاء معيب للنفس، أن يتحدث إليك همساً ولي أمر طالب أخفق في اجتياز فحص ما، متناسياً أن هذا الأمر لمصلحة فلذة كبده لمزيد من الدراسة والتركيز... وأنه لا مصلحة لمن يدقق أو يقرر العلامة... لأنها أمانة في عنقه "هكذا قدم الطالب وهذا ما استحقه" حيث يكثر التنظير في هذا الشأن أيضاً .
انه لواجب أن لا يهيمن على من فشل في اجتياز فحص ما شعور "الصغارة والحقارة" وعليه أن لا يتزعزع، بل أن يدع الجزع جانبا ويسير بتصميم وثقة للمستقبل، إن الفوز والنجاح شيء رائع ولكنه ليس نهاية الطريق على الإطلاق.
يعلمنا التاريخ أن المعلم الثاني الفارابي كان (بستانياً) في بستان بدمشق، وكان يشتغل بالحكمة ليلاً على ضوء قنديل حارس البستان يستمتع بجمال النجوم والكواكب لأنها لا ترى إلا في ظلمة الليل والسكون! فقدم للبشرية مؤلفات عظيمة منها: " آراء أهل المدينة الفاضلة " وكتاب "إحصاء العلوم" ومؤلفه المشهور: "الجمع بين رأي الحكيمين" أي أفلاطون وأرسطو. ولنا في مثال اديسون الذي حُرم التعليم في صباه فكان بائعاً للجرائد، كيف استطاع برغم ذلك أن يحدث انقلاباً في تاريخ الصناعة عندما أنار العالم بمصباحه الكهربائي!