" الـزواج حـــظ مــخــبوء ! " فـي أهـمـيـة مـشـروع حـمـايـة الأسـرة

 لقد أبدع من وصف الأسرة بقوله: "الأسرة هيكل حب واخلاص ووفاء متبادل، إنها منفذ روح الله الحية إلى مسالك هذه الدنيا لتقوم بما قدر عليها استيفاء لما قدر لها".

يبدو أن الكثير من الأباء يحسبون الحياة أرقاماً وحسابات... ويتفاخرون بأن شؤون بيوتهم ومن فيها لا تعنيهم، وأن أفراد أسرهم يعيشون في رخاء وبحبوحة على آخر قيراط معتبرين تغطية الحاجات المادية لهم هي كل شيء، وتصل درجة اللامبالاة لدى البعض أن نبأ دخول مولود له من صلبه إلى عالم الدنيا، يصله عن طريق سائقه، فيوصيه بإرسال الورود والحلويات واعداً أنه عندما يفرغ من أعماله وبرامجه التي قد لا تنتهي سيعرج على المستشفى ليطلق الاسم الذي يقرره هو على المولود وليطمئن على والدته!

ولكم تحدثنا مع أشخاص غير متفاعلين أو متواصلين مع أبنائهم بحيث أنهم يجهلون في أي صفوف هم، أو تواريخ ميلادهم وفي بعض من الحالات تصيبهم شطحات عن تذكر أسمائهم!

ومن هنا فعلى كل أب أن يخصص وقتاً لبيته، وان يكون قلباً لأبنائه وزوجته يشرع هذا القلب لهم مسبغاً على كل واحد منهم حنانه وعطفه متواصلاً معهم ومتفاعلاً مع حاجاتهم النفسية قبل المادية ساعياً أن يبلغ كل فرد في أسرته ملء إنسانيته.

إن الزواج حظ مخبوء كما يعلم الجميع، ومن هنا فإننا نعجب من الزوج المتسلط المملوء بذاته والمغتر بآرائه، والذي يتناسى نقائصه في لحظة فيعلو صوته على أي خطأ ولو بسيط في بيته، إذ هو من النوع الذي يشتري المشاكل شراءً ويعشق النكد كل العشق... فتراه رافعاً حاجبـيـه غاضباً مزمجرا "ترى مش طايق حدا فيكم"، وبعد أن يفرغ من كفه اليمنى الموجعة شحنات الكراهية المكبوتة في أعماقه على خدّ زوجته الطريء الطاهر، يترك المنزل ليمضي ليلته مع خلانه فالسعادة حسب فلسفته تكمن خارج بيته!

وأمام زوج كهذا سلطوي ممزق، وأطفال أبرياء قـَطـّب الحزن وجوههم يحدقون في المشهد، ويختزنون مجرياته العنيفة في عقلهم الباطن لتظهر بأشكال خطيرة لا محالة عندما يكبرون.  تتكاثر خواطر الأم فلا تغمض لها عين... إذ تهب في داخلها أعاصير اليأس والقنوط فتتساءل: ما ذنبي وما هو ذنبهم وحتى متى؟  وإن كان هو الأقوى فعلا أفليس عليه أن يحترم الأضعف ويعفو له عن هفواته إن وجدت... وتنهمر الدموع مدراراً !

إن جلوس الأطفال الساعات الطوال في ركن منزو من المنزل أمام أجهزة الحاسوب وتسللهم ببراعة إلى شبكة "الإنترنت" دون موجه أو رقيب، أمر لا يدعو لابتهاج الأهل في كل الحالات. ذلك أن اتصال الأطفال مع أشخاص لا يعرفونهم واستغلال هؤلاء الغرباء بدهائهم لـكوامن الضعف في هؤلاء الأطفال الذين يقومون ببراءة ببث همومهم وشرح أوضاع ومشاكل ذويهم بدقائقها... حتى إذا نمت العلاقة وأحس الأطفال بدفء الطرف الآخر وقعوا ضحية الاستغلال والاعتداء الجسدي... من خلال ما يمرر لهم من رسائل ومشاهد إباحية.

وبسبب ازدياد حالات التفكك والتزعزع والعنف، ولتحقيق الأمن والحماية للأطفال والنساء والمسنين من أي اعتداء داخلي أو خارجي، يبرز الدور العظيم لمشروع حماية الأسرة في الأردن والتابع لمديرية الأمن العام، لاحياء الأسرة الكسيرة وصون كرامتها ورفعها إلى مركزها الطبيعي اللائق، من خلال إعادة التناغم والانسجام والتفاهم بين أفرادها، وردع كل من يحاول النيل من ترابطها. من خلال كوادر مؤهلة ومدربة على درجة عالية من الوعي والمسؤولية، والذين يقومون بمهامهم بسرية كاملة آخذين بعين الاعتبار عادات وتقاليد المجتمع.

 

horizontal rule

 

"ويـحـهُ يـبـكـي لـِمَا لـم يـقـع...* "

كان يتمغط متثائباً على أريكة قبالة شاشة التلفاز، فقنصت عيناه نبأ إصابة الدجاج بالأنفلونزا في مكان بعيد عنه من العالم، لا هو يأكل لحمه ولا قوة لأجنحته لتطير إليه، على الرغم من أدراجه تحت مسمى الطيور...فاهتز هزة المقرور وصعدت منه صرخة لاهبة أقعدت أهل بيته الذين تجمعوا حواليه فأشار بإصبعه إلى شريط الأخبار مصرحاًُ بلسان لاهت " السنه بلشت من أولها انفلونزا دجاج ".

فعالجوه سريعاً بماء الورد والزهر، مع التطمينات بإتلاف ما لديهم من الطيور المفرزة دون ذنب... وقد خبروا طبعه فلا يريدون وجع رأس...

وما أن توجه إلى سيارته وهم بدخولها، حتى هوى قلبه وارتخت مفاصله من أصوات انطلقت من سيارة إسعاف. إلا أن سائقـه هدأ من روعه قائلاً: أن لا شيء يدعو للقلق ، فمرافق سائق الإسعاف يضحك والأمر لا يتعدى رغبتهم في تجاوز طابور السيارات والاشاره! فأدار وجهه غير مقتنع، فالنهار يبدو له من أوله على غير ما يرام. ثم فتح الجريدة على مصراعيها فهو لا يريد أن يرى احداً ولا لأحد أن يراه. وبسرعة إلى صفحة السابقين إلى دنيا الحق، وبعدها لقراءة برجه ليبني على هذه القراءة برنامج عمله فيبتسم له الحظ مره على الورق.. ويعاكسه عشر مرات وكان طالعه وكما توقع ذاك الصباح نحوسا.

هو في مكتبه الآن، مكفهر الوجه يحاصره اكتئاب أسود ولون أثاث مكتبه وكما اختاره أسود بأسود. وما أن دخل المراسل مقدماً تحية الصباح وفنجاناً من القهوة نصف المحروقة حسب أوامره الثابتة، حتى رن هاتفه فانتفض واختلج متوقعاً خبراً مشؤوماً، وإذ بصديق له يداعبه بنكتة لـيُـزهزه  له صباحه... وقد عرف نوع مزاجه فيرد عليه: الله يجيرنا من هل الضحكة! هو هكذا يهـيـم بـاستمرار في أمثال التوقعات السوداء، حتى بعد الضحك والسمر فصار ينتظر وقوعها. فالقلق والخوف من القادم يشل حركاته وخطواته وكلماته، فإذا حصل في بداية نهاره خطأ بسيط قال: الله يستر تالي هذا اليوم! أي أنه يتوقع مصائب فيما تبقى من نهاره، وإذا حصلت هفوة بسيطة مساءً قال الله يعطينا خير هالمساء! كذلك يجــتر حدثاً من الماضي ملازماً له في عقله قائلا ً: مثل هذا اليوم قبل سنه حصلت معي مشكلة الله يسترنا من هذا اليوم!

وما أن أمسى المساء وعاد إلى بيته، حتى هرع إلى ريموت التلفاز فهو من حقه الآن ولن يسمح لأحد بمجادلته في ذلك! فأخذ يشرق في أزراره ويغرب منقباً على مواقع الألم والوجع في العالم، مشيحا بوجهه عن الأخبار السارة: من تنقيب المركبة سبيريت في تربة المريخ وغباره وصوره الرائعة أو من اكتشاف العلماء الاسبان لطريقة علمية لاستبدال الجلد المحروق أو أية مشاهد تبعث الأمل في المستقبل، وانه لكذلك حتى تشكى من ثقل رأسه فغط من التعب نائماً، شخيره يختلط بزفيره وباتت الكوابيس تنتظره.

إن هذا النوع من الناس في ازدياد يوماً بعد يوم، وأكثرنا عاش بنفسه تجارب مع نوع من الرجال ان قرع أحد باب بيته هب فزعاً مذعوراً حاسباً ألف حساب بأن خبراً مشؤوما آت إليه! وان شاهد جيراناً له على الطريق خاطبهم: "من غير شر وين رايحين!"

إن القلق غالبا مرجعه إلى خيال صاحبه، ولربما الكثير من الأزمات التي يعاني منها الإنسان موجودة في عقله لا في العالم الخارجي. كما أن توقع الفشل هو أسوأ من الفشل، والبكاء على أمر لم يقع هو أمر يفتك بصاحبه. كذلك التشاؤم المستمر والهواجس القاتلة واستباق الحوادث فلا أحد يعلم المستقبل، وعلى ضوء هذا حـرّيٌ بالمرء أن لا يمقت ذاته ويرفض نفسه، بل أن يواجه الحياة وأحداثها بالإيمان بالله تعالى ومشيئته بجرأة وأن لا يستـبـق الهموم أو يجعل للتشاؤم في حياته موضعاً.          

**********

من موشح ابن زهر:

كلما فـكر فـي البـيـنِ بـكـى       وَيـْحَـهُ يبكي لما لم يَـقـَعِ

horizontal rule

 

"في ظاهرة ولائـم الـمآتـم وطـقـوس العـزاء"

    من قلوب تفيض بالصدق والواقعية، جاءت قرارات شيوخ ووجهاء بعض من عشائرنا، اعتماد وثائق شرف للتخلص من بعض العادات الاجتماعية المتبعة في حالات الوفاة وخصوصاً غذاء ما بعد الدفن، كذلك عدم توجيه الدعوات لهذا الغذاء، بالمناداة أو الاستجارة بالله لتلبية الدعوة.

إن هذه القرارات ستعود بالنفع والإيجاب على أبناء بلدنا كلهم، وهي والحق يقال تجسيد حي لما تتحلى به عشائرنا الأردنية من طيب الصفات، ورجاحة العقل، وعمق إدراك للواقع المعاش. فوقف هدر الأموال التي تنفق لمناسبات كهذه، وتحويلها إلى صناديق خيرية خاصة سيسهم في تخفيف وطأة المعيشة على الأقل حظاً ليتمكنوا من مواجهة معركة الحياة للعيش بكرامة، وتحقيق تطلعات كل فرد في مستقبل زاهر. ذلك أنه من غير المقبول مع شدة كرب الموت على ذوي المصاب، تحميلهم نفقات ومصاريف كبيرة في الوقت الذي يعاني منه البعض ظروفاً مادية ً صعبة لضآلة المورد والدخل.

وإذا كان واقع الحال يقتضي إعادة النظر في بعض من عاداتنا الاجتماعية في ظل المتغيرات التي طرأت على المجتمع، لزيادة أعداد الناس،  ولارتفاع تكاليف إقامة المراسم الملازمة لهذه العادات، فان الأولوية يجدر ان تتوجه نحو ظاهرة الإنفاق بسخاء على ولائم المآتم في مواقع كثيرة من بلدنا وعلى مدار أيام العزاء الثلاثة، حيث يتم إحضار كميات كبيرة من الطعام تفوق حاجة المعزين والمواسين، والذين يطبق البعض منهم برامج من الحمية  و"الريجيم" ليكون مصير ما يفضل الحاويات... علماً أن هناك من يتحرك مشكوراً  بما يتبقى من هذه الأطعمة إلى المراكز الخيرية، على أننا نرى أن ما يفترض تقديمه لهذه المراكز هو  الطازج والأجود وليس ما يفيض عن الحاجة! ومما هو جدير بالذكر أن هذا الكرم الزائد يلاقي أيضاً نقد الناقدين الآكلين بعد تجفيف أفواههم : الظاهر اللحم بلغاري مش بلدي، لبـن الجميد مش أصلي يبدو من خارج الحدود، حتى  الأرز والسمن والبهار عرضة للنقد... ومن هنا فإن تسخير الأموال المخصصة لهذه الولائم يكون أجدى لو أنفق لمنفعة الفقراء واليتامى والمرضى الذين ينتظرون فرجاً لإجراء عملية جراحية لإبقائهم على قيد الحياة، أو لطالب مُجـِـدّ تعذر عليه إتمام دراسته، وهذا بحد ذاته انتصار لإنساننا الذي نعهد فيه الخير والوعي.

والأمر الثاني الذي نود طرحه هو تحول الكثير من صواوين وصالات وبيوت العزاء في عصرنا الذي طغت فيه المادة... إلى مقار لتخمين وعقد صفقات الأراضي والعقارات... فترى واحداً عن يمينك ينظر في أسعار الأراضي، ويسهب في شرح ما تحقق له من قفزات مالية جراء البيع والشراء، داعياً إلى من فاته الأمر سرعة رهن نفسه وما يملك لأخذ نصيبه من هذه الفانية... وتبصر آخـَـرَ عن شمالك تراكمت عليه الأبصار يبث إشاعة حاكتها مخيلته حول تعديل حكومي فيعيـّن بفهلوته فلاناً ويحيل آخر على المعاش...هذا النوع من الرجال الذين يرون في تجمع أي عزاء ميداناً خصباً لضخ الإشاعات..وبين هذا وذاك فتى يعبث بجواله مع حركات استعراضية غير آبهٍ بمن حوله من المعزين فهو يعتبرهم " دقه قديمه " !   

كل هذا يجري على أرض الواقع، في مآتم هذا الزمان...عوضاً عن ذكر مآثر وخصال المتوفى ووضع هالة على أعماله الخيرية ومبادراته وإصلاحه لذات البين، وكيف استنصر جهده الذاتي متكلاً على باعه وذراعه لينشئ نفسه. لتكون في مسيرة حياته عبرة وموعظة للآخرين فلا يوارى الثرى مع أخباره وفضائله. أو أن يكون الحديث عن زوال الدنيا وأن الإنسان "مثل العشب أيامه يزهر كزهرة الحقول ثم تهب عليه ريح فيزول ولا يعرف بعد مقامه" وأن لا مال ينفع صاحبه "إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر..." على حد قول الطائي.

horizontal rule

 

"إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه..."

 كان شارد الذهن يستمرئ طيشه... تتراقص رجله اليمنى كيفما اتفق بين دعسة البنزين ودواسة الفرامل.. ويترنح رأسه أفقياً وعمودياً ليس لمتابعة المرايا المثبتة على يمين سيارته أو شمالها أو فضائها.. بل طرباً ونشوة، وقد فقد اتزانه فصار ينقر ويطبل بكلتا يديه على المقود، فهو مشحون بالعواطف والانفعالات يطلق الآهات والتنهدات، ويتفاعل مع أغنية يسمعها ويردد كلماتها بصوت مرتفع، وقد حسب أنها ركبت خصيصاً له ليخاطب من خلالها حبيبة يتوهمها ربما لا تعرفه ولا تفكر فيه.. يبثها أوجاعه وحرقته وشكوى خيانتها وعدم الاهتمام به !

ورغبة منه في الاستحواذ على الناس كل الناس وجذب انتباههم لحالته، فقد رفع صوت مسجل سيارته على آخر ما وسعه ليتحفهم بما اختاره لهم.. وليفرض عليهم شكوى فؤاده من خلال أغاني الغزل والعشق ووصف المعشوق. ومستعرضاً مواهبه وهو يخترق الشوارع متسكعاً مستهتراً بالتعليمات والأنظمة والناس.. يمارس حركات بهلوانية مع ما يصاحب ذلك من تشفيط وتشحيط وتزمير! وأما التحكم والتركيز علـى مركبـتـه للمحافظة على سلامته وسلامة الآخرين فـهذا لا يعنيه... ومتروك لنصيب من يقع تحت عجلاتها لينتهي الأمر برشفة قهوة مرة !

 أن اختيار هؤلاء الشباب الذين لا نعلم تكوين أمخاخهم...لألوان الغناء الصاخب لبثها من سماعات قوية تم تثبيتها في مركباتهم، لتقذف حممها عنوة إلى السامع في أوقات حدّدودها بدقة لتناسب مع ما يدعونه من خبرتهم أذواق السامعين وأماكن تواجدهم، إنما يدل على عبثية منظمة. فعند بوابات المدارس والكليات والجامعات يطلقون لوناً خاصاً من الأغاني، وأمام المساكن والحارات لوناً آخر قد تكون أغاني مبتذلة..كما انهم قسموا بدهاء لونا من الطرب لجولاتهم في عمان الغربية، ولونا آخر للشرقية. أما في شطحاتهم المسائية والليلية وخصوصاً في الشوارع المأهولة. فـقـُل كان الله في عونِ عُيونِ مَن ثـقـُــلت جفونهم وأُرهقت أجسامهم بعد أرزاء النهار وهمومه ...

إذا كان أمر السيارات التي تنفث عوادمها دخانا أسود يلوث البيئة يستوجب الملاحقة وسحب الرخص، فان مطاردة السيارات التي تخدش آذان المواطنين من لهو سائقيها وعبثهم، لمسألة تتطلب إجراءات حازمة. بعد أن تعاظمت هذه الظاهرة لتشمل سيارات بعض مكاتب التكسي، وقد غفل أصحابها عن ممارسات سائقيها وحركاتهم الطائشة .. وانتقلت العدوى إلى مركبات نقل الأطعمة الجاهزة والمجهزة بسماعات تضخ أغانٍ على صوت مرتفع وبلغات مختلفة لا يفقه حتى السائق أو الموزع معانيها!

كما أن الحال يقترب من أن يكون مماثلاً على محلات بيع الأشرطة الغنائية، وقد انتصبت السماعات الكبيرة بداخلها والمكبرات على أبوبها، تلقي بضجيجها المرهق صباح مساء على المارة والسكان وعلى من جاور من مكاتب ومؤسسات وعيادات .

إن هذه التصرفات السلوكية غير السوية، تشكل خروجاً عن الذوق والخلق بما تحمله من الإساءة إلى المجتمع من جانب وسلب راحة المواطنين من جانب آخر. ناهيك عن تشتيت أفكار أبنائنا الطلبة من متابعة المقررات المطلوبة منهم وهم ينشدون السكينة في بيوتهم... وهذا أمر لا يجوز إغفاله على الإطلاق ومن هنا فإننا نأمل ملاحقة هؤلاء الصبية، واقتياد هواة هذا الضرب من العبث إلى المراكز الأمنية ومحاسبتهم باعتبارها ممارسات تستوجب الردع والعقاب.

ما نريده لشبابنا أن لا يستسلموا لأهوائهم ويندفعوا وراء العبث والاستخفاف بمشاعر الناس بـل أن تـهـب الحمية وتتجمع الطاقات إلى كل ما هو منتج ونافع لنسير معاً على طريق الخير خدمة لٳنسانِنا ومستقبله متمسكين بالقيم والمثاليات والأخلاق.

horizontal rule

 

"حـق الـجـار عـلى الـجـار... بـداية الـحـوار"

يروي التراث ان جاراً لأبي دُلف ببغداد أثقله دَينٌ كبير... فكان لا بد له أن يبيع داره إذ عجز عن الوفاء، فساوموه بها فسألهم ألفي دينار... لكن الأمر اختلط عليهم، كيف لا والدار لا تساوي أكثر من خمسمئة دينار. وما أن قرأ الدهشة على صفحة وجوههم حتى قال: " وجواري من أبي دُلف بألف وخمسمئة دينار! فبلغ أبا دلف، فأمر بقضاء دين جاره وقال لا تبع دارك، ولا تنتقل من جوارنا.  

في محاضرة بعنوان "رؤية جديدة للحوار الإسلامي المسيحي" ألقيت في نادي الروتاري بعمان، ارتأى المطران الدكتور سليم الصائغ أن تكون القصة التي أسلفنا من تراثنا المجيد مفتاحاً لمحاضرته، مضيفاً "ليتنا نرجع إلى دفاتر الآباء والأجداد... لقد آن أن يلتقي الجار بجاره ليس تلاقياً سطحياً بل تلاقياً ودياً نابعاً من الأعماق... إنه لأمر مؤلم أن واحدة من أهم عوائدنا الاجتماعية وتقاليدنا العظيمة قد أوشكت على الاندثار، نطالب بالحوار والجار يجهل اسم جاره." حقاً ليتنا نعود بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء يوم كان الجيران يتحلقون حول بعضهم البعض يتجاذبون أطراف الكلام مستجلين مشاكلهم وحاجاتهم، ومستعلمين عن أحوال الصغير والكبير، ومندفعين بعفوية لخدمة صاحب أية مسألة فالكل عائلة واحدة.

قد تكون اللامبالاة أو الانشغال بحشد الأموال أو ربما عبادة قيم جديدة ليست من منظومة بيئتنا، من أهم الأسباب التي تحول دون التلاقي الآن، وهذا ما يسبب المصطلح المعروف "الجيرة الضائعة أو قل الأخوة الضائعة" مما سيفضي إن استمر الحال على ما هو عليه إلى أن يصبح الإنسان دون مشاعر وأحاسيس، عكوفاً على ذاته مؤطراً مهمشاً.

إن ما نشاهده الآن على أرض الواقع، أن الحميّة تدب لتتصافح الأيدي وتنهال القبل بين الجيران عند مشاهدة الكراسي تتهافت إلى أحد المنازل في ساعات المآتم والفواجع، ومن هنا فإننا ندعو إلى أن يكون لقاء الجيران على غير هذا الصعيد وحده! إن تصحر مشاعر الجار تجاه جاره دليل على التواء ما، يجدر تصويبه، ولا يتم هذا الا بفتح قنوات الحوار بين الجار وجاره لتفجير ينابيع المحبة التي تعني الارتفاع فوق منازعات الحياة ورؤية وجه الحق جل جلاله في وجه كل إنسان. كذلك بوأد عادة تصنيف الناس لبعضهم البعض على قواعد تـقوض في مضمونها ركائز المجتمع،فتصنيفاتنا لبعضنا البعض يفترض أن تكون على أساس الإنتاج والعطاء ومدى خدمة الإنسان لأخيه الإنسان.

إن رؤيتنا للأخر تبقى الأساس للمستقبل يقول المحاضر، وعليه فالمستقبل المشرق لا يمكن أن يقوم إلا باحترام الآخر كما هو واحترام حقوقه وخصوصياته وعدم وضعه في قوالب منتقاة. إن المائز في هذه الرؤية الجديدة هي الدعوة للانطلاق بأوراق العمل والنظريات إلى الميدان للتطبيق والتنفيذ، وذلك بتفقد المعوز واليتيم والمريض، كذلك في التحرك لمساعدة اخوتنا من أصحاب الاحتياجات الخاصة لتهيئة أسباب السعادة والأمان لهم، وفتح الآفاق أمامهم وذلك بدمجهم في المجتمع فهم عناصر قادرة على الإنتاج والعطاء. إن هذا التفعيل يقطع ما يثار من أحاديث أن الحوارات التي تجري هنا وهناك غالباً ما تنتهي بالعواطف وعقد صداقات بين المتحاورين.

إن مشهد شيخ وكاهن يعودان كتفا إلى كتف مريضاً في مشفى أو فقيراً قسا عليه الزمن أو يعيدان الدفء والألفة لبيت تهزه المخاصمات، أرى هذا المشهد هو الحوار الحق... وهذا قائم والحق يقال  في بعض من مدننا وقرانا، إنها السماحة والاخوة والمحبة في أبهى حللها.

إن التآخي والتضامن الذي يعيشه انساننا على هذه الأرض الطيبة يشكل أنموذجا يحتذى، على أساس احترام مشاعر الآخر والتسليم بمعتقده، وبكنوز كتابه الكريم المقدس، فالله جلت قدرته المشرع الأول هو الكلي المحيط، شاء بتدبيره الذي لا يدركه المحدود البشري أن يكون الناس على دين آبائهم، متذكرين أن لا فضل لأحد على أحد، بل فضل الواحد الأزلي على الجميع.

Back