" وزغردت أم العريس ! "
أسندت حقيبة يدها تحت إبطها الأيسر، وانطلقت تشن غارات، سعياً وراء عروس لابنها المزيون، فما عادت وأبوه يحتملان فظاظته… أو وجوده معهما تحت سقف واحد…
وكانت جنـّدت لهذه المهمة الأقرباء والجيران والأعوان، تجوب من دار إلى دار، لا يستقر لها حال، لتتنسم أخبار الصبايا... وإذا ما تلقت هاتفاً ممن تطوع لهذه المهمة تركت كل شيء وتحركت على أقصى سرعة لمعاينة الوضع فهي في حالة طوارئ!
وكانت تضمر في كل جولاتها مواصفات خاصة حول هيئة العروس، من عرض خصرها إلى طولها، إلى لون بشرتها ووضعية شعرها طوله أو قصره، إلى اتساع أذنيها وعرض فمها، إلى امتداد عنقها وصولاً إلى طريقة مشيتها. فهي تريدها مفصلة تفصيلاً، وضمن قوالب محددة من مشاش المخ إلى أخمص القدم ومسكوبة سكباً على آخر قيراط ! وكانت تتحرّى عن الصبية التي تعجبها من صف الروضة حتى بعد كرور السنين، إلى الابتدائية فالإعدادية فالثانوية فالدراسات العليا. أما عن ابنها فهو أرفع من أن يُسأل عنه أو عن فهرس حياته فهو "كامل مكمل" فتوة ونضارة.
ولكم كانت تصطحب معها في غزوها شقيقتها أو صديقة عزيزة تمتلك أذنين واسعتين لتسترق السمع حيث تقتضي الضرورة... وتحسن محاصرة الصبايا وأمهاتهن بالاستفسارات ضمن تكتيكات متفق عليها، مع ضرورة خفة يدها في تفحّص الأثاث... فإن حمل ولو شيئاً من الغبار من زوبعة دخلت بدخولهم فلا داعي للمخاطرة بابنها!
أما وقد أينعت جهودها بقبول زيارة زوجها مصحوباً بابنه لإحدى العائلات، بعد أن زيّنت لصبية رقيقة كالنسيم... انتفاضة في حياتها مع ابنها الشهم الهمّام. وكانت دسّت في حضن أمها زجاجة عطر فاخر... وما تعوّدت تلك الأم على العطايا والهدايا، فزوجها من النوع العملي الذي يعتبر تآلف القلوب وتوادّها أساس السعادة والهناء.
ويصل أبوه رافعاً حاجبيه شامخاً بأنفه، وقد أحسن هندامه وطلى شعره وشاربيه وعطر جسده بعبير الفل، ليبدو في أبّهـة ووقار، حتى إذا رأوه عرفوا أن مآل الشاب عندما يكبر لأبيه، وهذا فعلاً ما قالته أم الصبية: " ما شاء الله... انظروا أباه في شرخ الشباب..."
أما العريس فدخل يعلك المستكة، وفوق أرنبة أنفه ركـّب نظارة تنفع لصد أشعة الشمس لا لوهج ودفء داخل البيوت، وكان ثبـّت شعره بطريقة غريبة عجيبة ليبدو إفرنجياً... وجلس يختلس النظرات ويعبث بهاتفه النقـّال مشتت الفكر، تاركاً لوالده المجال ليصول ويجول تارة عن تاريخه المجيد وعن رفضه استلام مناصب متقدمة عرضـت علية مراراً. وتارة أخرى أنه إنســان واصـل يعرف فـلاناً وفـلان، معتبراً نفسه عالماً بكل شيء، فهو لويس باستور في الطب واسحق نيوتن في الطبيعيات. وأثناء هذا السرد التزم والد الشابة بضبط نفسه واحترام ضيوفه، وهو المعروف بالحكمة والورع وسلامة الطويـّة ونبل الأخلاق.
وما أن دخلت الحسناء وفي أذنيها توصيات أمها: ارفعي ظهرك لفوق، ابتسمي ابتسامة خفيفة، أوعي طرف السجادة... تحمل بين يديها صينية تقبع عليها فناجين القهوة، حتى اضطربت فاصطكت ركبتاها، وخذلتها قدماها أو أوشكت، ثم نكـّست رأسها وبصرها، وقد اكتسى وجهها بلون قرمزي، إذ أخذ الروع منها كل مأخذ، فالعيون كلها تحملق فيها وتتفحصها، على أنها تمكنت من إنهاء واجب الضيافة بعد مساندة لسانية من أمها.
وما أن جلست قرب العريس المؤمـّل جلسة واحدة هي هذه، استغل فيها انشغال الجلاس بالسواليف حتى طوّحها بتملق شفتيه، يدخلها في حديثه من باب ويخرجها من آخر، مزهوّاً بمنطقه وكثرة ألاعيبه، وقد تعود على خداع الصبايا اللواتي يعرفهن واعداً كل واحدة يلتقيها بأنها ستكون لا محالة شريكة حياته. وما كان لهذه الصبية رفيعة التهذيب خبرة في أمور كهذه، وكيف لها أن تعرف أصلاً عن توفر أمثال هؤلاء الناس على وجه الأرض. وقد لقنت في حياتها دروساً أن الناس كلهم طيبون!
وما هي إلا لحظات وبجرأتها المعهودة سألته أمه أمام الجمع السؤال الذي يمقت النفس! "كيف لقيت القهوة يا كبدي؟ " ... "زاكية" أجاب دون انتظار، وتزغرد الأم على أعلى صوتها لتـُثـّبت الموضوع أمام الحاضر والمجاور والغائب، ولتضع أهل الصبية في موقف حرج... وكان النصيب! "وجدلي يا أم الجدايل جدلي"!
وترابط أم العريس النهار كله وحتى غياب الشمس... في هذا العش الزوجي الجديد، ترصد حركات كنتها ساعة بساعة، تفتح الخزائن وتغوص فيها... وتنبش الدروج، ولولا أنها تأخذ علاجاً للدوخة لصعدت إلى سدة غرفة النوم لا بل حاولت! وإذا ما اهتز الهاتف قبضت عليه وصمتت لتسمع صوت المرسل أولاً... كذلك إن ظهر على شاشة التلفاز مطرب وسيم الطلعة استلت سيجارة وأشعلتها وأمرت كنتها بإحضار ركوة قهوة في الحال لتنفرد بنفسها والمطرب فتطفئ ما حرمت منه أبان شبابها!
وإذا ما نزل عليهم ضيوف من جيلهم للمباركة بالزفاف الميمون، تنتقي أريكة معززة بالوسائد الجانبية لتدير الحوار بما تجود قريحتها... فتسلسل مسيرة حياة كل زائر ومَن أبوه وجدّه وخئولته... وأين عمله ومسكنه وما هو طعامه المفضّل؟ وما أن يغادر المباركون حتى تقتحم الهدايا الواردة تمزق عنها أوراقها شر تمزيق يقتلها الفضول، معتبرة هدايا معارف وأقرباء العروس رخيصة دون المستوى!
وبين الفينة والفينة ومن باب الاستفزاز تسأل كنتها : هل تتقنين صناعة "تشيز كيك باي بلو بيري؟ " كعكة الجبنة بالعناب، وكانت شاهدت طريقة صناعتها المكلفة جداً مراراً على شاشة التلفاز دون أن تفقه شيئاً...وما إن تجيب بالنفي حتى ترد عليها باستهزاء: "وقلتيلي كنتِ شاطرة بالمدرسة!" بينما هي لما كانت في عمرها لم تكن تتقن شيئاً حتى توضيب صحن من السلطة !
ذات صباح وما كادت الشمس تتسلل بأشعتها الذهبية من خلال الستائر... حتى كانت تضرب الباب بقبضة يدها... وما أن قفز ابنها من سريره مذعوراً وفتح الباب حتى دفعته بما تحمل من فطائر ومعجنات... ولمّا رأته متبرماً منكوداً... وما درت أن تشريفها المبكر جداً في يوم العطلة هذا قبض عليه صدره! استدعت كنتها إلى المطبخ على انفراد قائلة:" ليش مزعلتيه؟ " وأسعفتها عيناها بالدموع وكانت خير جواب!
وإذا ما حلت أمها ضيفة عليها لساعة من الزمن لتطمئن عليها وقليلاً ما فعلت، خشية ردّة فعل أم العريس... وبيدها مجموعة أكياس لأشياء كانت تستطيبها نفس الصبية... هجمت حماتها لتضمها إضمامة الكحل للمِروَد قائلة: هي في عيوني لو طلبت لبن العصفور لأحضرته لها...ألا اذهبي إلى زوجك ونامي الليل الطويل فكل شيء على ما يرام! على أن الأم كانت تستشعر في عيون ابنتها غماً وقـُـتاماً... لكن ما تلبث أبنتها أن تبدد لها مخاوفها بمداعبة حماتها بكلمة حلوة... حتى إذا عادت أمها إلى مسكنها نقلت صورة الوضع على أحسن حال فهي لا تريد لأبيها وقد أخذ منه الضغط ما أخذ خلال الشهور التي انصرمت، أن يناله سوء أو كرب.
كذا كانت حال هذه المرأة، وقد عاد زوجها الى عادته القديمة ينفق أغلب الأمسيات مع خلانه خارج المنزل وان عاد متأخراً وشكت له وفي حلقها غصة الخوف من الوحدة زمجر " حياتي وأنا حر فيها...أوعي تفتحي ثمك بهيك موضوع مرة ثانية أحسن ما..." لتحمي وجهها الشاحب من طول السهر بيديها الباردتين!
وهكذا صارت تنفق من صبرها، وتطوي أوجاعها وتأوهاتها ولا تبديها. ولطالما حدّثت نفسها: رحماك يا رب، ماذا فعلت لأعيش في هذا العذاب؟ وتنشد في عمق أعماقها:
" كُـفي سهامك يا دنيا وخليني أقل سهم ٍ من الأرزاء يرديني "
وعندما أبلغت زوجها بعوارض الحمل وأوجاعه…ابتدأ يبثها شيئاً يسيراً من العطف…على أن أمه تصدت: "احذر أن تمتطيك… هذا دلال وهذه وساوس وطول عمرنا نعالج الحوامل بالقرفة أو الحلبة أو البابونج."
وتوالت الأيام والأسابيع والشهور وما أن هلــّـت ملاك الرحمة بملامحها الشرق أوسطية تعلو وجهها ابتسامة رقيقة قائلة مبروك بـ…نـ…ت ، حتى أجفل كفاقد اللـّب ورمق أمه نظرة ملأى بالعتاب على سوء اختيارها! وأسرع نحو الأدراج مهرولاً تتبعه أمه وقد أعرضت بوجهها عن حماة ابنها وتباعدت بسرعة إلى المصعد لتهبط! والأفظع من هذا تحركها خلسة وتحت إبطها الأيسر حقيبتها
المعهودة… إلى الصائغ الذي ابتاعت منه قطعتي الذهب فقد خاب ظنها فهي لا تقبل لابنها أقل من ولد ذكر!
************
قالت العرب: "احذر العـَجَـلْ فـانـه مـوطـنُ الـزلــل."
وقال حكيم: "ما كان الغرق ليكلف أي شـيء، إن الـجـهـد كـل الجهد في الإنقاذ من الغرق".
ظواهر وسلبيات... "عالمكشوف"
تغلب على فئة من الناس حالة نفسية أشبه ما تكون "وسواساً متسلطاً" وهي انسياق الفرد مدفوعاً بقوة ملحة قاهرة إلى فعل شيء برغم أو ضد إرادته... حتى يصير الفرد خاضعاً لها وهي تمتلكه... فلا يهدأ له قرار ولا يستكين له حال إلا بعد أن يفرغ الشحنات الساكنة في أعماقه.
نجيء بهذه المقدمة بعد أن ازدادت الشكاوى من قيام شباب عابثين ممن تبخرت مشاعرهم وتـيـبـست عواطفهم ويعانون على ما أظن من الانكسار والخذلان، باستخدام أدوات حادة اختاروها بعناية ليمرورها على أجسام السيارات في سعيهم لإحداث أخاديدَ وخطوطَ عليها... نرى أنها تعبير عما يعانونه من قتامة الأخاديد والحفر في باطنهم وهذا ما يسميه علماء النفس "الٳسقاط ". وتمتد أيدي هذه الفئة لخلع ماسحات زجاج السيارات أو قصف هوائياتها...أو تحطيم مراياها، وتبلغ ممارستهم ذروتها برش أنواع من الطلاء أو الزفته من بقايا ورشة مجاورة على جوانب سيارات حديثة أو قديمة... لا نعلم كم تعب وسهر واسـتــدان مالكوها حتى استطاعوا اقتناءها!
والظاهرة الثانية تتعلق بإطلاق الشتائم أثناء قيادة السيارات... إذ يضغط سائق أرعن على زامور سيارته لتفسح له المجال للتجاوز عنك علماً أن وضع الشارع واختناقه في تلك اللحظة لا يسمح بذلك فأنت محاصر من أمامك ويمينك وشمالك... حتى إذا تسنى له التجاوز قذف بأعلى صوته ما يختزن من شتائم تحمل اصطلاحات بذيئة يندى لها جبين العاقل ليشتمك وأباك وأمك وبعضاً من ذويك هو لا يعرفهم، بعضهم في دنيا الحق... مع استخدامه لحركات يصدرها من كف يده اليمنى ذات دلالات لا يفهمها أحد إلا من كان على شاكلته... أما يده اليسرى فقد أسندها متكئاً على نافذة الباب المحاذي له للاستعانة بها لحركات مماثلة لسيارات أخرى إن اقتضت الضرورة... ولربما تقول في نفسك لعل لديه شأناً هاماً يريد اللحاق به... أو أن مركبة فضائية تنتظر إشارة منه لتنطلق أو تهبط... لكن حساباتك أخطأت وقد ذهبت بتفكيرك بعيداً جداً لمعرفة مراميه إذ أنك ستفاجئ بعد قليل بوقوفه أمام معرش لبيع البطيخ يفاوض صاحبه وقد وقف قبالته متسلحاً بخنجر لبرهان جودة ما يبيع وليقطع الطريق على كل من يشكك بحلاوة ما يعرض ولأهداف أخرى في أعماقه...
وأمام اللامبالاة والاستهتار يضرب واحدهم بسيارته سيارة واقفة آمنة، ويهرب من الموقع مبتهجاً أن لا عين بشرية قد رصدته... بينما لو كان ضميره حياً تتدفق فيه الدماء لسعى حتى يجد صاحبها أو يضع ملاحظة على الأقل تشير إلى فعله واعتذاره وعنوانه.
كذلك يستمرئ آخر طيشه ويتلذذ حين يحشر سيارته بين سيارات واقفة على ضيق المكان، حتى إذا دفع الباب ليخرج طعج به وبكل أريحية والسرور على محياه السيارة المجاورة له. ويعظم الوضع لو أنه كان مصطحباً معه مجموعة من الركاب إذ أنهم سيمارسون الأداء نفسه من أبوابها الثلاثة الأخرى والانفراج والبسمة تكتسح وجوههم وفي باطنهم يرددون "ولا من شاف ولا من دري!"
وأمام الظواهر السلبية السالفة والتي يستنكرها مجتمعنا الطيب نتذكر قول بودلير الشاعر الفرنسي " إن أكثر حيل إبليس دهاءً تكمن في إيهامنا بأنه غير موجود." على أن أمير الشعراء شوقي أبدع الوصف حين قال:
وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقهم فـأقم عليهم مأتماً وعويلا
" كل من همه على قده ! "
يحكى أن امرأة هندوسية فقدت وحيدها فأناخت عليها الهموم ومزقتها الأحزان... ولما عجزت عن الصبر والاحتمال توجهت إلى راهب معبد حكيم، تسكب أمامه شكواها وتبثه ضيقها، وتلتمس إزره قائلة خذ بيدي... وبكل عطف وحنان ومن عقله النير أشار عليها: " أن اذهبي يا ابنتي واحضري لي في كفك حفنة من الأرز من بيت لم تمتد إليه يد الموت... وبعد ذلك عودي إليّ لأرد لك ابنك..." فتهلل وجهها وأشرق، وأسرعت الخطى تقرع الأبواب من بيت إلى بيت وتسأل: هل كلكم بخير... هل كلكم في البيت؟ وكانت تواجه بالنفي الممزوج بالأسى، وتعود لتسأل: "هل غيب الموت أحداً من هذا البيت؟ وهل فقدتم عزيزاً؟" وتنحني الرؤوس حتى اذا ارتفعت كشفت أهداباً مبتلة بالدموع تنطق بالجواب!
وأنشأت تتسمع إلى حكاياتهم، وتتعاطف مع مآسيهم، واشتد الحال فصارت تبكي لبكائهم، واستحالت الدموع التي كانت تنهمر على عزيزها دموعاً على المتألمين نظيرها... ونسيت نفسها بعد أن اندمجت آلامها بآلامهم وعلى ما وضع الدهر عليهم من أثقال. وصاروا يجدون في الحديث إليها تفريجاً عن كربتهم وترويحاً عن أنفسهم... وأنها لكذلك حتى وهنت عزيمتها ونال منها التعب، فعادت أدراجها إلى بيتها بعد أن طال اغترابها عن الراهب. وقد أيقنت أن مصابها يهون أمام مصائب الآخرين، وأن الضربة التي أدمت قلبها تعد يسيرة أمام ضربات الآخرين لكثرة ما سمعت من أحزان وآلام، راضية لنفسها ما كتب لها.
لقد نفذت هذه المرأة إلى كبد الحقيقة واقتنعت أن مصابها يسير ومقبول على ما أصاب الآخرين... وأن فقيدها ليس بأول راحل عن وجه الأرض وما هي بأول ثكلى... وبناءً عليه فقد تغيرت صورة حياتها وعادت الابتسامة إلى ثغرها.
ولعل في هذه التجربة عبرة لمن يجّعِد جبينه ويسجن نفسه في قفص أحزانه، جاعلاً ذكرياتها المرة تجثم على عنقه وصدره... حتى اذا استمر على هذه الحال هيمن اكتئاب أسود عليه فصار يرى في باطن الأرض خيراً من ظهرها!
وكذا الحال مع من يبتر علاقاته مع الناس ويجلس وقد ملأ الحزن والأسى نفسه طوال النهار نادباً راثياً حظه... حتى اذا "جُن الليل وأرخى سدوله " أمضاه مكابداً شاكياً من "بطئ كواكبه" مردداً تارةً مع النابغة الذبياني:
تطاول حتى قلت ليس بمنقضِ وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
وطوراً مع امرؤ القيس :
فيـالك مـن ليـل كـأن نجـومـه بكـل مُغـار الفتـل شُـدت بيذبـل ِ
وإذا كان الكثيرون في أيامنا هذه يعيشون في وهم اليأس حتى أن أقل سهم من الأرزاء يصيب منهم مقتلا، فإننا نقول لهم إن وقائع الدنيا وحوادثها ليست محصورة على الإطلاق بأناس عصرنا بل هي ملازمة للإنسان منذ غابر العصور. ولعل ما قاله المتنبي قبل أكثر من ألف عام يعزز ما نرمي إليه:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عـَــنانا
وتــوّلَوا بغـصـةِ كـلـهَّــم منـ ـه وان ســر بعضهم أحــيانا
ربما تـُحسِن الصنيعَ ليـالــيــ ـهِ ولـكـن تـكـدر الإحـــسـانا
وأنها لحقيقة ساطعة أن الكثير من الناس لديهم متاعب وهموم لكنها مستودعة في باطنهم ولا يظهرونها... حتى اذا جلست إلى واحدهم ملأ الجو مرحاً وبهجة، متقبلاً همسات المحيطين به " نياله مش فارقة معه... باله فاضي." علما أنه لا يزال يتلقى لطمات الدنيا معتبراً ذلك نصيبه المقدر له ! يقول الشاعر:
كل من تلقاه يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن
وقصارى القول أن الإنسان أي إنسان يمر عادة في عقبات وأوجاع ومتاعب، لكن العاقل الحكيم هو الذي يواجهها ويجتازها بصبر الرجال وبسالة الأبطال، ذلك أن لا حياة تؤخذ من امرئ قبل أوانها!
" الـسيـد مـسـؤول"
تجمهر المهنئون وقد أبـدوا سروراً بالغاً لعودة صديقهم "السيد مسؤول" إلى منصب جديد، هذا ينهال عليه بالقبل وذاك يحتضنه بحرارة وآخر يهزه هزاً قائلاً أنه لم يغب عن عينه لحظة مذ تقاعد!
أما الموظفون الذين لم يتخلف منهم أحدٌ عن دوامه في ذلك الصباح، وقد كانوا أمضوا الليل بطوله تجهيزاً ليوم اللقاء، شعر يصبغ وذقون تنعم وبذلات تكوى وأحذية تصقل وهواجس تتخبط في داخل الرؤوس... فقد تقدموا بانتظام إلى مكتبه هذا يسلم مكتفياً... وآخر يقسم أنه كان يرجّي هذا اللقاء مذ كان يسري في ظهور جدوده على حد قول المتنبي! وثالث يعدل ربطة عنقه عمودياً خشية انحرافها... ركبه تصطك وأفكاره تتصارع فقد كان عابثاًَ ولكن بحماية لسان متزلف للمدراء والمسؤولين فهل سينجح هذه المرة!
أما المراجعون فلا داع لإنجاز معاملاتهم في يوم العرس هذا، فربما تكون هناك تغييرات في المواقع، بل وربما تستجد تعليمات على المعاملات التي بين أيديهم، أو إضافة مكاتب جديدة لتتوسع حلقة المقولة المشهورة والموجهة للمراجع الطائع: " شوف فلان ". أما السكرتيرة فقد انهمكت في قص إعلانات التهاني والمؤازرة من أناس يهنئون من القلب لا يبتغون مصلحة، وآخرين ينشدون الدعاية لأنفسهم ويضمرون استثمار هذا المسؤول سواء عرفهم أم لم يعرفهم فكل شيء بحسابه بعد أيام! وبينما هي كذلك، إذ يقفز الهاتف من أمامها على غير عادته... بقوة رنة جديدة على مسامعها، فها هي حرم السيد المسؤول تثبت وجودها وتحاول من خلال الاستشعار عن بعد معرفة أي لون من السكرتيرات هي... حسبما اقترحت عليها الكوافيره وهي تصفف شعرها وتهمس في أذنها :" إن الرجال كالماء في الغربال! "
أما وقد انتهى مهرجان التهاني لذلك اليوم، علماً أن التهاني ستستمر ولن تتوقف حتى إحالته على التقاعد من جديد! فقد دعا السيد مسؤول مدير مكتبه ليتحادثا "على الرايق" فيتهاوى الأخير مع رشفات القهوة الحلوة على هذا الكرم والانفتاح المبكر.. فيبدأ معدداً عيوب من سلف شاكيا كم عانى من متاعب وتحمل من تجاوزات، فينسف في اقل من نصف ساعة جهوده وإنجازاته، ومغتنماً إصغاء معلمه الجديد لهذا الضرب من القدح ليعظم من يشاء ويطيح بمن يشاء مؤكداً انه كان ينوي أن يحطم جرة، إلا أن النقص في عمال نظافة مؤسسته منعه! هو هكذا شفتاه مشبوهتان لا خير يرتجى منه متلون يميل حيث تميل الريح على حد قول الشاعر!
انه لمؤسف أن يكون الاحترام الموجه للمسؤول في زماننا هذا قائماً على أساس المنفعة والمصلحة، بينما أمانة الضمير تستوجب احترامه على قدر عطائه المنزه لوطنه، وعلى ما يحمل من خصال حميدة ومن تواضع لخدمة أي إنسان صغر شأنه أم كبر..وليس لموقع يتسلمه أو لبذلة يرتديها فالناس أغلبهم يصفقون للجالس على الكرسي... وحال ترجله ينفضوّن في جحود عنه شامتين... فيشعر بالغربة ولا أحد يحفل به وقد كانوا إن عطس يحاصرون بيته محملين بالزهور أو الشوكولاته أو لون من الحلويات تسمى البقلاوة وأخواتها!
إن المسؤول الأنموذج، هو من لا يستطيب أحاديث هواة الطعن والتجريح على أي مسؤول سبق، وهو من يرفض مدح متكسب عن عمل أنجزه هو من صميم وظيفته أصلا ً. كما أن في استئناسه برأي خبراء ومختصين أو من مسؤولين متقاعدين يحملون خبرة وتجارب عميقة لا يعد انتقاصاً من مكانته أو كرامته.
ثمة ملاحظة أن الجوائز التي تمنحها الدولة لمؤسسة معينه نراها تجير من أصدقائه في إعلاناتهم لصالح القائم على هذه المؤسسة فقط وكأن المراد تلميعه وهذا يشكل إحباطاً لموظفي هذه المؤسسة والذين لولا تضافر جهودهم على مدار السنين لما كان ذلك ممكناً!
" فلما اشتد ساعِده رماني "
حدثني صاحبي وفي حلقه غصة مريرة، قال: في كَرْبـِهِ وضيقته كان يهرع إليّ لاهثاً فيتشبث بي بقوة ملتمساً أزري... كنت أطوقه بذراعي، وأسند رأسه المتعب على كتفي، فيكاشفني آلامه وانسداد الآفاق من حوله شاكياً الانكسار والإحباط. كنت له حزام نجاة، معيناً في الضيق، ونصيراً ساعة تلاطمه الرياح الهوجاء وتعاركه العواصف والزوابع... إلى أن تنقشع الغيوم القاتمة المتلبدة من حياته!
وما إن اشتد عوده وبلغ هدفه مستوفياً كل متطلبات مستقبله... حتى انتفخ كالديك الحبشي وتباهى كالطاووس حتى على أقرب المقربين له. وصار يحسب أنه فلتة من فلتات زمانه، وأن لا فضل لأحد عليه... فهو من أنشأ نفسه بنفسه، كما وصار يتوهم انه من جبلة طين تختلف عن سواه من البشر... ولا عجب في ذلك فقد ضعضعت المادة مشاعره وجميع حواسه!
على أن المؤسف أن الأمر اشتد معه، فصار يطلق سهامه ونباله كيفما اتفق ويذيع المفتريات على من يحلو له... ليرشقني بمرارة لسانه، متناسياً ماضيه... وجهود من حرره من اليأس. وصار حالي مماثلاً لحال القائل:
رماني من له وتري وقوسي وكفي والرماح فكيف أرمي
وأمام هذه المرارة التي تجرعها صاحبي ممن أظلمت بصائره، وقد أدركت أنه يخفي أوجاعاً أخرى أراد لها أن تطوى في أعماقه، خطر على بالي المثل الذي وصلنا من جعبة الأجداد " هذا جزاء مجير أم عامر* " و قلت: لقد جذبت قلبي إليك أيها الصديق...هو هكذا الجاحد ناكر المعروف "يتمسكن حتى يتمكن" ثم إن مثل هؤلاء الأنفار لا يُرَدّ عليهم، وأرجوك إلا تنحو نحوه وترميه! بل ابق كما أنت " كالنسر فوق القمة الشماء " ذلك أن :
" لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بـديـنـار"
الا اعمل بما يمليه عليك ضميرك وإنسانيتك وافعل الخير غير منتظر جزاء من إنسان، وادر ظهرك لما تلوكه الأفواه... هم هكذا بعض الناس ومنذ قديم الزمان، قد تركوا الحفاظ على المثل والأخلاق فالأسير ينسى إحسان من أطلقه... والصافح يندم لما يلمسه من قلة معروف المذنب الذي عفا عنه، كما جاء على لسان الشاعـر:
والناس قد نبذوا الحفاظ فـَمـُطلـقٌ ينسى الذي يولى وعاف يندم
أما وقد همّ صاحبي بالمغادرة إذ أشرق وجهه والتأم صدع قلبه المجروح، رمقته بنظرة اخترقت باطنه... مردداً مع الحطيئة :
من يعمل الخير لا يعدم جَوَازِيَهُ لا يذهبُ العُرفُ بين الله والناس
**********
* أم عامر : كنية الضبع ، قيل أنها قدمت مذعورة على أعرابي في خيمته، فأجارها وأطعمها ما عنده حتى شبعت واستأنست، فلما صادفت منه فرصةً افترسته فضرب بها المثل.
" زهــقـان بـابـا "
إنها لضرورة ملحة أن يستعرض الآباء أمام أبنائهم سيرة حياتهم وكم عانوا في صدر أيامهم من صعاب وعقبات، وكيف تضافرت الحوادث لتعاكس مخططاتهم، فما لانت لهم قناة ولا أدركهم وهنٌ في السعي لتأمين حياة كريمة ومستقبل مشرق لهم.
ولعل الكثير من الآباء يواجهون مشاكل مع أبنائهم، بحيث بات وجودهم تحت سقف واحد معهم هماً ونكداً وإحباطاً للرؤى والآمال على نحو ما... ذلك أن الأبناء الذين يترعرعون في الترف ويستمدون عزيمتهم من جيوبٍ قادرة، فطعامهم وشرابهم وكسائهم الذي يشتهون رهن إشارةٍ منهم، وكذلك مصروف جيبهم من "جل الشعر" مروراً بوقود سياراتهم الحديثة والتي يستخدمونها لتفريغ شحنات طيشهم في حركاتهم الاستعراضية على الشوارع، وانتهاءً بتغطية فواتير هواتفهم الجوالة والتي يستبدلونها كلما طلع اختراع أحدث، ليستخدموه في لهوهم لقنص الصور وتسجيل همس من حولهم لإيقاعهم في مآزق وشباك، وللدردشة عبر المحيطات... نقول أن هؤلاء الأبناء متوهمون إن هم فكروا بأن الأفق يبشر لهم دائماً أبداً بالرخاء والورود...
فإذا كان هناك من يمهد سبيلهم الوعر ويحطم ما يعترضهم من صخور، فإن أقل اختبار في الحياة سيرديهم إن وقفوا في ميدان الحياة وحدهم، ولا ريب أنهم واقفون فدوام الحال من المحال... ومن هنا فعلى كل أب أن يطرح على نفسه هذا السؤال: هل سيتمكن ولدي من مواجهة الحياة والتكيف مع ظروفها المتقلبة وحوادثها أم أنني قضيتُ عليه في الإغداق والكرم غير المبرر، وفي صمتي على سلوكياته السلبية لا بل في دفاعي عن أفعاله الخاطئة... ورضوخي لأوامر أمه الحنون الداعمة له باستمرار "اتركه، حرام عليك، خليه يعيش حياته شو صحابه أحسن منه."
وبدلاً من أن يجلس واحدهم صحبة أبيه ليتملى من حضوره ويتعلم النصح والحكمة ممن هم في مجلسه، تراه يغنج بقده المتراخي مترنحاً عابثاً بجواله، بينما رجله اليسرى دون وجل أمام محدثه، الذي يسرد دروساً نافعة من الحياة. وبلحظة يعلن محرجاً أباه " زهـآن بابا "... ليخرج مندفعاً مع أصدقائه، ليربي إرادته على الليل وظلامه ومشاكساته، وليطأ بيته عائداً خلسة في ساعة متأخرة، ولكن مهلاً فهذا الصنف من الشباب سيدفع ثمن ذلك سحابة حياته!
تنظر إلى بعض من الشباب أو ما يسمى الجيل الصاعد، فتأسف على جهد الأهل الذي بذلوه في تربيتهم " كل شبر بنذر" كما يقال، لأنهم على غير استعداد لتقديم أية مساعدة يحتاجها المنزل، والويل لمن يطلب منهم عملاً.. فإذا ما اقتضت الضرورة مثلاً وكلفت واحدهم لينقل كيس نفايات بيته إلى حاوية مجاورة، وفي الكيس حصة من مخلفاته الشخصية، تململ وزمجر قائلاً: هذا ليس عملي... فقد تعود أن يرى أباه ينجز هذه المهمة، ولكن في سنين طراوة عوده. وإن خرج تلفت يميناً ويساراً وأفقياً حتى لا ترصده عين أحد متمتماً في أعماقه أنه لن يفعلها ثانية أو دون ذلك ما لا تحمد عواقبه!
إننا نستصرخ هؤلاء الآباء على اصطحاب أبنائهم الذين لا يعرفون من الحياة سوى أشيائها الجميلة إلى حيث ابتدأت سيرتهم القاسية، فليس من العار بشيء أن يشاهدوا بيوت آبائهم القديمة في الحارات والأزقة، ما كان سقفه من القصيب المدعم بجسر حديدي أو خشبي وجدرانه من الحجارة والتراب، حتى وان لاحت هذه البيوت دوارساً وأطلالا... ذلك أنه من غير الجائز تناسي الماضي أو الهروب منه. مع أهمية أن يشرح الأب لابنه في أي عمر ابتدأ يعمل وأين، وكم سعى حتى كاد أن ينتعل الدماء على حد قول الشاعر... وكم رتـقـت ثيابه، وكيف كان يباكر الشمس إلى عمله أميناً على معيشتهم يأكل ما توفر من غذاء عند الظهيرة واقفاً كيلا يغفو راضياً قانعاً من أجل حياة فضلى لهم...
وإننا على يقين أن الذهول سيعقد ألسنتهم خلال هذه التجربة وستنهمر الدموع من مآقيهم وهم يحيطون بصدور آبائهم مقبلين أيديهم على ما تحقق بالرغم من خشونة الحياة آنذاك... وسيعيدون النظر في ممارساتهم الهوجاء، ولن يزهو أو يتكبر أحد منهم من بعد على أحد.
" في ظاهرة حظك اليوم"
كان عازماً على المضي في مشروعه الجديد، إلا أن المخاوف والشكوك هاجمته، فأسند رأسه إلى كف يده اليمنى متألماً... جاء هذا إثر سماعه ما مفاده أن برجه الناري سيمنى بالفشل والخسارة في هذا العام... أما امرأته فقد أكدت له ذلك، وكانت أمضت أياماً وليالي تتابع نشاطات وتحذيرات المتنبئين الذين لهم القول الفصل في تقرير منحى حياتها... وهكذا تم الاتفاق على توقيف كافة النشاطات والأعمال وهجر مشورة العقل والواقع وانتظار فرج المتنبئين في تخيلاتهم الجديدة، على اعتبار أنهم أدرى بمستقبلهما ومستقبل ربع تعداد بني البشر!
لا أحد ينكر ميل الإنسان الفطري وشغفه وسعيه الدؤوب إلى معرفة مستقبله وما يخبؤه من مكنونات... وأن الكثير من الناس يرون في الاحتماء بالغيب ارتياحاً وطمأنينة وخلاصاً من عذابات القلب ونير الهموم... إلا أن العبث في عقول الناس بأساليب ساحرة والقول أن الكوكب "جوبيتير" غاضب والكوكب " فينوس" فرحان... وما يتبع ذلك عندما يطلق المتنبأ لخياله العنان فيسرح ويمرح بعقول السامعين برسم خارطة شخصية مستقبلية لهم تتضمن العمل، الدراسة، الزواج، السفر، الصحة، يوماً بيوم وساعة بساعة... وكأن الفلكي هذا صاحب قوى خارقة وخبرات واسعة ويقترب أن يكون قادراً على حل لغز " أبي الهول" !
على أن المضحك المبكي والذي يقترب أن يكون استخفافاً بعقلية الناس هو تقديم النصح بضرورة تناول مأكولات معينة وشرب أشربة معينة في تواريخ محددة دفعاً للشرور وجلباً للخيرات! مع ما يواكب هذه اللقاءات من ترويج لبيع حلي وحجارة معينة، بارك عليها المنجم نفخاً ولمساً ستقود مقتنيها إلى دنيا الحظ والبركة بسرعة البرق طبعاً بعد تأدية أثمانها!
وتصل المسألة ذروتها عندما تأخذ التوقعات منحنى سياسياً بتوجيه أسئلة مثل: ماذا عن أوضاع العالم السياسية وعلاقات الدول بعضها ببعض ومصير شعوبها وبماذا يفكر قادة دول العالم؟ حتى يخيّل للمشاهد والسامع أنهم أقاموا غرفة عمليات لإدارة وتنظيم دفة هذا الكون المترامي الأطراف الشاسع الواسع. وأن مستقبل العالم " مبسوط أمامهم" أو قل أنهم صاروا قيّمين على العالم بمن فيه!
ولما كانت هذه التوقعات قد تنامت وتجاوزت حدها في هذه الفترة، فإننا نستغرب من إثارة القلق والمخاوف بين الناس والإدعاء بحتمية حدوث زلازل أو هزات في مواقع من العالم... وكأن المتنبئين قد وصلوا بأدمغتهم إلى درجة من العلم عجز عنها أصحاب الاختصاص من علماء الزلازل والجيولوجيا... بدلاً من إشاعة الفرح والتفاؤل في وجوه البشر.
لقد قدمت ومازالت علوم الفلك المنظمة والتي تعتمد على الرياضيات والحسابات والدراسات الدقيقة، وفقاً لما تقدمه مراصد النجوم والأفلاك إنجازات واسعة للحضارة وفوائد غير منكورة للبشرية.
وإذا كان عنصر المصادفة وارداً في الحياة الإنسانية فلا يفقدن أحدٌ توازنه ويتهلل في حال تحقق أمر ما له، معتبراً ذلك بفضل توقعات المتوقعين الذين يزينون للناس أنه بفضل ذكائهم الفطري ومجهودهم الفكري واستشعارهم المسبق وقع ما وقع وكان ما كان!
آملين أن يستيقظ الوعي لدى بني البشر فيتوجهوا لصوت الضمير والى وجه من عنده علم الساعة مستلهمين هديه ورشده فهو الأعلم بالعلو والعمق والعرض والمدى...فباب السماء أرحب وأقرب من باب المنجمين والعرافين.
*********
قال زهير :
واعـلـمُ عِـلـمَ اليـومِ والأمـسِ قـبلـهُ ولكـنني عـن عـلـم مـا فـي غـدٍ عَـمـي
" وهل العيش إلا ذاك؟ "
قيل لأعرابي : كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال:وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفض عرقاً... ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى!
تلك كانت خطته متى كان الهجير... يُركز عصاه في الرمل، وينشر عباءته عليها، ويتفيأ في ظلها فتقيه لفحة الشمس ولهيبها مستمتعاً بالحال!!
لم يناطح صديقنا الأعرابي الواقع ولم يستسلم لليأس والقنوط من ظروف الطبيعة القاسية، ولكنه عرف بعد أن صقلته التجربة، كيف يتكيف مع هذا المُناخ العنيد بغبطة وسرور، ولطالما تعامل أصلاً مع شتى الشدائد والمحن بصبر وإباء، ساعياً غير مستقر في مكان لكي لا يستعبده المكان نحو مائه وغذائه بهمة وعزيمة.
لكن ما بال إنسان هذا العصر، إذا ما طلعت الشمس بكبريائها صيفاً لتقوم بوظيفتها المعهودة والتي ما عافتها على مر العصور، ورفعت درجة الحرارة على الأرض وهذا حق لها، أليس الفصل فصلها، صرخ متذمراً شاكياً خائفاً على جلده الطريء الناعم من أن تصهره أشعة الشمس، متململاً عن العمل والإنتاج مدعياً انحطاط قواه متخيلاً أنه يعيش على خط الاستواء!
وإذا ما لاحت الغيوم وهبت العواصف وانهمر مطر الخير شتاءً، تخيل نفسه في القطب المتجمد... فتراه قد فقد توازنه وصبره وهرع ليحشد ويحتاط ويتحفظ على مؤونة الغذاء والوقود، وكأن الدنيا مقبلة على نهايتها متناسياً أن وراء هذا الخير نشوة للأرض ومنافع للإنسان العاقل الذي يعي معنى انهمار الغيث وبركته.
ان في حركة الرياح وقصف الرعود وتقلب الفصول فوائد وحكماً... وهي في نظري زيارات لا أجمل ولا أحلى من زوار أعزاء لفترات محدودة هي جزء من نظام الطبيعة والكون. فلماذا المغالاة في التأوه والدلال ولماذا ان مر النسيم العليل على وجه البعض رعش؟
وانه لأمر مؤلم ما ينتاب البعض من استياء، وهو ينظر إلى سيارته وقد داعبتها زوبعة أو حتى رشة مطر فأخفت شيئاً من لمعانها... فكيف له أن يعيد تنظيفها وكيف له أن يقودها فيغضب على الطقس ويلصق به ما وسعه من تهم!
آه منك يا دهر، فلقد طفح الكيل بعد أن صارت رفاهية العصر تثقل كاهل الإنسان وتقض مضجعه ولا ترفه عنه، لا بل تجعله يرزأ نفسياً وجسدياً تحت عبئها وصار عبداً لها!
لقد أبطرت الدنيا الناس باغراءاتها، فصارت الأشياء اصطناعية وهمية... وصار التلذذ بالأشياء الكمالية الفانية التي تعمي القلب وتشبع الرغبات هدفاً. وعندما لا يجد البعض هذه الأشياء الفانية يتوجع ويشعر بحالة من البؤس فيعاتب نفسه أنه محروم ومظلوم ويؤنب من حوله بضرورة تأمين ما يشاء مهما اقتضت ظروفهم وإمكانياتهم!
إنها حكاية الأعرابي الشجاع الذي ما أحاطت به أجهزة التكييف وما عرف "المحمول" وما توفرت له قارئة للنشرة الجوية تقول : يكون الجو هذا اليوم كذا!
هي حكاية فيها عبرة وعظة لبتر عادة التذمر والتأفف وأن كل ما ينتصب أمام الإنسان من عقبات داخلية أو خارجية يجب أن لا تثبط عزائمه .
ما نريد لإنسان هذا العصر أن يكون واقعياً صادقاً مع نفسه، وأن يعود لهدوئه ويدخل في أعماق نفسه لينطلق بهذه النفس صعداً مرتفعاً بها عن الأنا !! متقبلاً كل ما يأتي عليه من تقلبات في حياته بروح الرضا والفرح.
"يعطيك من طرف اللسان حلاوة..."
يبدأ مشواره معك بعد أن عدل شاربيه إلى العلاء، وتراقصت على شفتيه ابتسامة مشبعة بالخبث والدهاء... يلاطفك ويمالقك ليستهويك ويحوز عليك ثم يحاصرك بلسانه حتى تخور قواك فيهيمن عليك وقد كان حشد باطنه مكراً وجهز الحيلة سلفاً في جوفه واعداً إياك بالأمنيات العِذاب وفاتحاً أمامك أبواب الطمع ليجرك وراءه حتى تفقد السيطرة على عقلك فتحسب الذئب نعجه!
ولقد تعود على ذلك فلا قدرة له بعد على كبح جماح لسانه الذي تمرس بالشر وعاداته فصار هذا الأمر بالنسبة له ممارسة روتينية، كما أن كل الناس بالنسبة له مطاياً لمآربه وخصوصاً أصدقائه يغمس خارج الصحن ليطعمهم وهماً... وهم ميدان عمله الأول يُجَّن لنجاحهم وتفوقهم فيحيك لهم المكائد وينصب لهم الشراك. ولا يتورع عن قذفهم إلى مزالق الشطط... وإذا ما سقط أحدهم بأساليب عفرتته وألاعيبه، تهلل قلبه وتـنحنح كيداً وتشفياً وقد لاحت على محياه نشوة الطرب والانتصار فصار يفرك يديه وفي لحظة وبكل خفة ورشاقة يستدير بظهره مطلقاً ساقيه للريح حتى يتلاشى إلى حين... ليظهر بعدها متنمراً ساعياً بنهم شديد نحو صيد جديد ذلك انه كلما أوقع فريسة يتلذذ في أعماقه.
إنها طريقة حياته حتى يسقط! فتراه يستل منديله ليمسح دموعه وقد كان رش بين طياته مادة تسهم في انهمار المزيد... لاطماً خده ونادباً حظه مبرراً ما فعل قائلاً: "لقد أغلقت الدنيا بوجهي وما كان بيدي حيلة لأعتق نفسي من حدودها وأعيش حياتي زي الناس، كنت أنظر إلى الآخرين لأعيش بشخصياتهم ففعلت حتى صرت لا أستطيع إيجاد نفسي الحقيقية... أنا إنسان لم يتمكن من تشكيل نفسه فكان الاحتيال هو طريقي الأسهل والوحيد..." انه يلوذ بهذه الحجة مختصراً الزمن... لأنه عوّد لسانه على النفاق وشفتيه على الغدر، قائلاً لم يبق لدي أمل كانت كل الطرق مغلقة في وجهي. وهكذا وبكل برودة أعصاب يغلق كل الطرق الأخرى ويخرس ضميره مغلقاً معه السمع والبصر ويعطي لنفسه رخصة لبدء حياة الكذب والنفاق.
في كتاب الطريق الوحيد لمؤلفه عزيز نيسين يقول باشازاده: فهمت متأخرا جداً... أنني احتال على نفسي طوال حياتي! فوق هذا أظن أنني احتال على الآخرين... إن القول لا حل آخر لدي ولا يوجد سوى ذلك الطريق مفتوحا يعني تجاهل بقية الطرق انه خداع للذات واحتيال على النفس..
وإذا كان الكذب كما يقولون شراً سهل المنال لا يحتاج إلى جهد أو تنظيم أو شطارة فان سوقه رائج ومليء بموجوداته فهذا يكذب في كلامه، وذاك يكذب في سكوته، والثالث يكذب في ضحكه، وغيره يكذب في عبوسه، ومنهم من يكذب بإشارة من عينيه، ومنهم من يكذب بهز أكتافه... وان كل محاولة لإفهام السامع خلاف الحقيقة هو كذب سواء جاءت على شكل توصيات كاذبة... أو معاني مستترة أو ثـناء أو ذم وان أقسى أنواع الكذب واشده إيلاماً هو الكذب الذي يلحق الأذى بالآخرين ومستقبلهم!
بقي أن نقول إن عظمة الإنسان تكمن في تمسكه بالقيم الأخلاقية والإنسانية، إنها طهارة النفس ونقاوة الضمير والاستقامة مع امتلاء القلب بالحق فلا يكون للباطل موضع. وصدق الشاعر في قوله:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
"ظاهرة تاكسي... لوين ؟ "
سائقو سيارات التاكسي في عمان ومنذ مدة طويلة ينتقون زبائنهم من الركاب على مزاجهم... فإذا كانت وجهة امرأة عجوز أو رجل ٍ علا الشيب هامته، إلى جبل الحسين من جبل الأشرفية... قالوا وجهتنا مرج الحمام. وإن استوقفت صبية جمالها في قلبها وروحها سيارة وطلبت الوصول إلى جبل المريخ من جبل عمان، قالوا وجهتنا الجامعة الأردنية. وإن حمل رجل كيس خبز ورأساً من الملفوف في يمينه، وأشار لسيارة بالوقوف لتقله إلى كراج الشرق الأوسط من وسط البلد، أدعى سائقها إنه ذاهب إلى دائرة الترخيص! أو الحجة الدائمة العداد معطل... حتى يتصيد راكباً ورائه مهمة مستعجلة ليأخذ منه مبلغاً محترماً! إنه التفنن في التحايل... تمر عشر سيارات من أمامك وتتعرض للسؤال المعهود "لوين ؟" ليتلطف سائق ضميره حي ليقلك إلى الوجهة التي ترغب، بعد أن تكون الشمس قد فعلت فعلها بالرأس وكادت أن تفجر شرايين الدماغ. والحال ينسحب في فصل الشتاء، حيث يستجدي المواطن سائقاً تمترس وراء مقود سيارته ليطرح الأعذار إياها مع ما يوحيه إليه برد الشتاء!
قد يبدو هذا السرد مضحكاً لدى الكثيرين ممن يملكون أكثر من سيارة خاصة، ولم يتسن لهم خوض تجارب كهذه لكنها قضية موجعة وظاهرة خطيرة تلازم مواطننا صباح مساء. والدعوة مفتوحة لمن أراد التأكد، يكفي أن يحاول إيقاف سيارة "تاكسي" من مكان معين ويطلب منه أن يوصله إلى شارع الملك طلال بوسط البلد مثلاً أو أن يحاول محاولات من ابتدأنا بهم هذا المقال!
أوليس عندما يتوقف سائق سيارة "تاكسي" جوار مواطن أشار له، تعني أنه مستعد لنقله؟ فلماذا يصار إلى قراءة وجهه أو وجهها بتمعن من النافذة... ثم الاستفسار "لوين؟" لتقييم الوضع حسب المزاج!
نفهم جميعنا، أنه عندما يريد أحد الأشخاص فتح مكتب "تاكسي" في موقع معين، يبرر حاجة سكان المنطقة الماسة لهذه الخدمة لرفع معاناتهم! فيحشد كل الواسطات المتاحة لهذا الأمر... فلا يغادرون مكاتب المسؤولين حتى يبثوا فيما سـعـوا من أجله متوقعين أن قول: "اشربوا قهوتكو... صار..." تصلح لكل زمان ومكان!
لكن حال أخذه الترخيص والتصريح بالعمل بعد دراسة دقيقة ممن يعنيهم الأمر، أن اعتبارات خدمة المنطقة تستوجب فعلاً فتح مكتب، ينشر سياراته هنا وهناك، ويستحيل عند الضرورة أن تجد سيارة لنقل مريض أو لغرض هام آخر... وإن توفرت، يسأل القائم بأعمال المكتب: "لوين؟" ليتخذ القرار الملائم! وليكتشف سكان المنطقة إذ ظهرت النوايا، أن وعود هذا المكتب محض افتراءات!
ولا يغيب عن بالنا مسألة الكوبونات التي كانت تمنح من المكاتب للسيارات العاملة لديها لإثبات وجود السيارة في المكتب بعد كل ساعة من الانطلاق، حتى اكتشفت الجهات الرسمية أن بعض الموكلين بإدارة هذه المكاتب صاروا يزودون السائقين بكوبونات تغطي ساعات النهار بطوله لتبرز عند اللزوم... والحال هذا تبقى السيارات منتشرة خارج المكاتب في التفاف لا ينم عن مواطنة صالحة، فأوقفت الجهات الرسمية التعامل بها...
ولعل من المفيد أن نذكر أن بعضاً من السائقين "يعفطون" السجائر ونوافذ المركبات مغلقة... ونجرؤ فنقول عندما يكون الركاب من الإناث لسبب لا نراه ينم عن سلوك قويم، حتى إذا تلفظت إحداهن برجاء فتح النافذة تشدق قائلاً "مش عاجبك انزلي..." لكن أين في وسط الطريق. مع مراوغة البعض بأخذ طرق بديلة تحت حجج اخترعوها مثال الطريق الفلاني عليه أزمة! كما أنه أمر مؤسف إصرار البعض على إتحاف الركاب بسماع أغان ٍ صاخبة جهزوا لها سماعات في مواقع مختلفة من السيارة على الرغم من أن التعليمات تحظر ذلك.
ثمة ملاحظة هامة وردت على لسان الكثيرين، أن بعض سائقي مكاتب التكسيات وبدلاً من منح صغار السن والأطفال الثقة والطمأنينة وهم يستقلون سياراتهم، يبثون في أذهانهم أحاديثاً تربكهم... لا بل يريد السائق بعشرة دقائق أن ينسف مفاهيمهم... مع ما يواكب هذا من استفسارات عن أحوال ذويهم الخاصة... فإن صمت الطفل ضرب السائق المقود لإرهابه!
وإزاء ما أسلفنا وهي بمجملها تجارب واقعية من الميدان نتساءل، هل سيبقى المواطن يتحمل ممارسات بغيضة كهذه؟ مع توقعنا أن يكون الرد الأسهل والأسرع: توجد بطاقة على "تابلو" السيارة عليها معلومات كاملة اشتكوا عليه... أو خذوا رقم السيارة والباقي علينا! في الوقت الذي تخلو فيه أغلب السيارات من هذه البطاقات والبعض منها لا يعود للسائق نفسه... ثم هل ستأخذ الشكاوى إذا قبلت على الهاتف بجدية... أم يطالب المواطن بتعطيل عمله ودراسته وملاحقة الأمر وكأنه هو المشتكى عليه... حتى يعاف نفسه! آملين أن لا نكون في تسليط الضوء على هذه الظاهرة كمن يكتب على الماء!!
" نظرة ميدانية في مشكلة التلوث"
في الوقت الذي تنصب فيه الجهود لمتابعة ومعالجة أسباب التلوث الناجم عن عوادم محركات المركبات ونوعية الوقود المستخدم فيها، فإنه من الملاحظ أن هناك عوامل أخرى كثيرة تسهم أيضاً في تلوث الهواء، يفترض أن يكون لها نصيب من المتابعة. إذ أن مشاهدة سحب الدخان الأسود والأبخرة المشبعة بالزيوت المحترقة، تتصاعد وتنتشر بتشكيلات مختلفة مع حركة الرياح بسبب عمليات الطهي قلياً بالزيوت أو عن طريق الشواء في العديد من المطاعم، سواء تمت آليات الطهي بداخلها أو ما احتل منها جزءاًً من الأرصفة، ليتنعم من جاورها والمارّة باستنشاق ما وسعهم منها... وذلك لعدم توفر أجهزة تحتوي مراوح شفط ملائمة تمتص هذه الأبخرة والغازات لتعالجها وتقذفها إلى مداخن مرتفعة فتبعد ضررها عن السكان المجاورين أو المؤسسات المتواجدة في المواقع .. وان حصل وتوفرت هذه الأجهزة لدى البعض فان إبطال عملها أو عدم تغيير وصيانة فلاترها اختصاراً للنفقات ولو على أكتاف صحة الناس وحقهم المشروع بهواء نقي... أمر لا يشغل بال أصحاب هذه النشاطات!
وينسحب الحال أيضاً على العديد من المخابز أو محلات صناعة الحلويات ، أما مشاغل التنظيف على الناشف تحت مسمى "دراي كلين" فالأبخرة الكيماوية التي تصدرها لها روائح نفاذة تصل الأدمغة قبل جيوب الأنف! ولربما يعود أحد أسباب هذه المشكلة، إلى أن ارتفاع أبراج مداخن هذه المحلات على الأسطح لا يتجاوز المتر الواحد أو مضافاً إليه بعضاً من المتر، فتنطلق حمم الدخان المشبع بالأبخرة والغازات فتخلق ظروفاً صحية بالغة الصعوبة على المواطنين .
كما أن الحقيقة العلمية تؤكد أن المزيد من الطاقة المستخدمة على أشكالها المختلفة يعني المزيد من الغازات والأبخرة الضارة نجئ بهذا القول مع تعاظم أعداد مصالح كهذه وبشكل ملحوظ.
لقد كان ولم يزل شعار "واجب الإنسان نحو بيئته" من أجل إتمام مشروع نقاء هوائنا وبيئتنا محط اهتمام الحكومات المتعاقبة مشيرين إلى قانون حماية البيئة رقم ١٢ لعام ١٩٩٥ والذي جاء تتويجاً لوثيقة الاستراتيجية الوطنية لحماية البيئة، مع التنويه لجهود المراكز البحثية والجامعات في إجراء الدراسات والبحوث التطبيقية في مختلف العوامل التي تؤثر على نوعية الهواء بما في ذلك رصد وقياس الملوثات المختلفة مثل ملوثات المياه حيث لا يقل دورها عن دور الهواء في التأثير على بيئتنا وإنساننا.
وجدير بالذكر أن مؤسسات دولية متعددة قد دعمت برامج التوعية البيئية في الأردن، وتم إنفاق مبالغ هائلة من اجل قضايا البيئة والمحافظة عليها نقية من العبث، ولكننا لا نجد نتائج ملموسة على أرض الواقع فأدخنة المحركات وغيرها تتصاعد هنا ومخلفات محلات الخضار تلقى على الأرصفة وتحت البسطات هناك! وعلى هذا الأساس يبدو أن برامج التوعية غير كافية إذا لم تكن مقرونة بإجراءات جذرية رادعة وانزال العقوبات بحق كل مخالف. ذلك أن الفرد عادة لا يحفل بالبيئة
لأن أمورها لا تمسه بشكل مباشر وشخصي... فتراه يخاطب نفسه قائلاً: إذا فعلت كذا وحافظت من جانبي فالآخرون مستمرون بالعبث! وهذا تعليل سلوكي خاطئ.
وثمة أسئلة تطرح نفسها أين دور الجهات الرسمية غير الحكومية وأين الدور المعلن للجمعيات غير الحكومية في المحافظة على البيئة ومحاربة التلوث وأين هي البرامج والاستراتيجيات وهل قنوات الاتصال مع الخبراء المعنيين مفتوحة للانتفاع ببحوثهم في هذه المسائل؟
إن مخاطبة الناس بالإعلانات سواء منها المقروء أم المرئي وبطريقة فكاهية هزلية ودون آليات حازمة، لن يغير من واقع الحال في أية مشكلة، ابتداءً من المحافظة على البيئة مروراً بالمحافظة على المياه من الهدر وانتهاءً بالمحافظة على الآثار!