الباب الثالث : الأسقفية الأنكليكانيــــــةherusalemcover.JPG (30056 bytes)


الفصل الثالث

الأسقف صموئيل غوبات
(1846- 1879)


من طوائفهم، فالأسقف مستعد لضمهم لكنيسته(22)·

horizontal rule



3- المدارس والرعايا العربية الأولى في فلسطين 1847 - 1851:

بدأ غوبات بإنشاء الرعايا والمدارس من مجموعات <قرّاء التوراة المحليين>، الذين ظهرت لدى بعضهم عوارض التأثّر بالتعاليم الإنجيلية والرغبة في الانضمام للكنيسة الأنكليكانية· ولتكوين طائفة جديدة وضم الأتباع إلى كنيسته، اعتمد غوبات على فتوى صادرة عن مفتي بيروت لإرساء الشرعية على نشاطه الإرسالي : "على أثر تنصير درزي في بيروت حصلنا على فتوى صادرة من مفتي بيروت يعلن فيها رسمياً السماح للدروز واليهود التابعين للباب العالي بالانضمام إلى الدين المسيحي، وأنه بوسع المسيحيين الانتقال من طائفة لأخرى··· وتستند هذه الفتوى على الشرع الإسلامي الذي يعترف بوجود ديانتين سماويتين (الإسلام والمسيحية) تؤديان إلى الله، وأخرى شيطانية تقود لإبليس (الدرزية)؛ ولا يبالي المسلمون لأي دين من الأديان السماوية أو الطائفة التي قد ينضم إليها غير المؤمنين من أتباع إبليس"(23)· والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الفتوى صحيحة؟ وهل اختلقها غوبات؟ أو ربما فسّرها بما يخدم مصالحه؟ من الأكيد أنّ الفتوى لا تتناسب مع الوضع القائم آنذاك في السلطنة العثمانية، إذ إنّ الأنكليكانية لم يُعْترف بها بعد كملّة رسمية· على كل حال سواء أكانت الفتوى صحيحة أم محرفة أم مختلقة، فقد اعتمد عليها غوبات في توسيع عمله الإرسالي وترسيخه· ولما كان تنصير اليهود أمراً شبه مستحيل، إذ أقاموا سداً منيعاً تجاه المد البروتستنتي، وواصل موسى مونتيفيوري زياراته التفقدية لفلسطين لدعم القلعة اليهودية ومقاومة الإغراءات التي يقدمها المرسلون لفقراء اليهود، فلم يبقَ في الحلبة إلاّ المسيحيون العرب، والفريق الضعيف بينهم الروم الأرثوذكس، إذ إنه من الصعب ضم أبناء الطوائف الفرنسيسية إلى البروتستنتية، خصوصاً وقد وصل إلى القدس في مطلع عام 1848 بطريرك القدس المقيم المنسنيور فاليركا لإنعاش الرعايا اللاتينية والعمل على زيادة عددها· وانطلق غوبات من القدس إلى الأرياف والمدن يؤسّس المدارس ويقيم نواة الطوائف الأنكليكانية·
أ - القــدس :
أفتُتِحَت المدرسة الراعوية في القدس عام 1847 بعشرة طلاب بإدارة سيدة إنكليزية، وفي عام 1848 بلغ عدد الطلاب ستة وعشرين طالباً· وقد قاوم اليهود المدرسة وقاطعوا برامجها بإيحاء ربابنتهم الذين أشاعوا أنّ "اليهود يكرهون أن يأكل أطفالهم من طعام المسيحيين"(24)، إذ إن المدرسة قدمت وجبة طعام مجانية لطلابها· واشترت الكنيسة مقبرة على جبل صهيون· وأُكْمِلَ العمل في <كنيسة المسيح>، وهي الكنيسة التي حفر أساساتها نكلسون، وتابع العمل فيها الكسندر بعد أن توقف مراراً، ودشّنها غوبات في 21 كانون الثاني 1849، "بحضور أسقف فلسطيني وعدة قسس وعدد من اليهود وغيرهم"(25)· ويؤكد هذا الاحتفال بتدشين الكنيسة على عزلة غوبات ومقاطعة رؤساء الطوائف المسيحية التدشين، الذي لم يحضره القنصل الروسي والفرنسي وبطاركة الأرمن واللاتين والروم· أما <الأسقف الفلسطيني> الذي يذكره غوبات فهو كما وصفه القنصل البريطاني في القدس الذي حضر التدشين، "أسقف اليعاقبة وهم أقلية صغيرة في القدس"(26)· وتتسع الكنيسة لمئتين وخمسين شخصاً وبلغت كلفتها 12 ألف جنيه استرليني(27)· وفي الكنيسة كتب ليتورجية إنكليزية وألمانية وعبرية(28)·
ب - نابلـــس :
يرد ذكر نابلس والطائفة الإنجيلية فيها، في رسالة غوبات الراعوية الصادرة في 30 تشرين الأول 1848 (29): فقد قدّم ثمانية أشخاص أو عشرة من أرثوذكس نابلس عريضة إلى غوبات، يعلنون فيها عن رغبتهم في هجر كنيستهم وتكوين طائفة إنجيلية تحت إشراف الأسقف الأنكليكاني· فنصحهم غوبات بقراءة الكتاب المقدس والصلاة والبقاء في كنيستهم، إلى حين طردهم أو فصلهم عن طائفتهم بسبب عقائدهم الإنجيلية· وبعد عدة لقاءات ومراسلات بينه وبين الجماعة النابلسية، بعث لهم بمرسل للتحقيق في أحوالهم الروحية، فوجدها بائسة، فالجهل منتشر ومعرفة الكتاب المقدس معدومة بين هؤلاء المسيحيين· وقدم عدة أشخاص وعائلات في نابلس عريضة إلى المرسل يطلبون فيها الانضمام إلى الكنيسة الأنكليكانية وفتح مدرسة· على أثر ذلك اشترى غوبات بيتاً يستعمل مدرسة وكنيسة، وحصل على وعد من السلطات العثمانية في القدس ونابلس برعاية المدرسة وحمايتها، ووظف معلماً للمدرسة من نابلس· وبعد مدة وجيزة بُعِثَت المشاكل من مرقدها، فقدّم أحد وجهاء الطائفة الأنكليكانية إلى المحاكمة واتُهم بالتعامل مع الأجانب· وما أن انتهت بسلام قضية المتهم الملفقة حتى افتُتِحَت المدرسة في الخامس من أيلول 1848 بواحد وعشرين طالباً، وبعد أسبوع من افتتاحها حرم البطريرك الأرثوذكسي كلّ من يرسل أبناءه إلى المدرسة الإنكليزية·
جـ - السلـــط :
في عام 1849، اختار غوبات السلط منطلقاً للعمل في شرقي الأردن، والسلط مدينة رئيسة يقطنها مسيحيون أرثوذكس، فبعث لهم الأسقف بقارىء متجول يشرح نصوص الكتاب المقدس للمؤمنين· ويبدو أن المدرسة لم تلق مقاومة عنيفة لأن معلمها وضع نفسه في حماية عشيرة قوية أمّنت حمايته والحفاظ على المدرسة(30)·
ويذكر غوبات في رسالته الراعوية (1 تشرين الأول 1849) افتتاح مدرسة لحساب كاهن أرثوذكسي في السلط، وأخرى برئاسة معلم· وقد رضي بطريرك الروم بتبني المدرسة ودفع نفقاتها على أن تلتزم بشروطه· ويرى غوبات في ذلك خطوة للتقارب مع بطريركية الروم(31)· وفي كتاب آخر له إلى ملك بروسيا (29 كانون الأول 1851) ( 32)، يؤكد أنّ وفداً من السلط بزعامة أحد شيوخها قابله في سبيل الانضمام اليه، وأنّ المدرسة التي كان قد أنشأها قد تعرضت لمقاومة بطريركية الروم وأُغلقت، وأنّ عدد مسيحيي السلط 1100 نسمة·
أما عن الأسباب التي حدت أعداداً قليلة نسبياً على الانضمام إلى الكنيسة الأنكليكانية، فبعضها دينية مبنية على قناعة شخصية، ولكن معظمها يعود لأسباب اقتصادية واجتماعية، كالحصول على مساعدات مالية وعينية، واستغلال الحماية والرعاية التي توفرها القنصليات الأجنبية، والحصول على التعليم المجاني في المدارس الإرسالية· ولعبت الخلافات العشائرية حول قضايا الزواج والميراث والأراضي والثأر دوراً في الانضمام إلى كنائس مختلفة نكاية بالخصوم!
إن إحصائية هشلر لعام 1852 تؤكّد نمو الكنيسة الأنكليكانية وازدهارها في عهد غوبات، كما هو مبين في الجدول التالي(33:(
المبشرون الأوروبيون 5
- المعاونون العلمانيون الأوروبيون 6    
- المعلمون اليهود والعرب 9
- الطائفة العربية واليهودية 131
- متناولو الشركة الافخارستيا 34
- المـــدارس 3
- الطــــلاب 291
- الكادر الطبي (المستوصف والمستشف4 (
- نزلاء المستشفى 457
- مرضى العيادة الخارجية 5113
- معاينة المرضى في البيوت 2713


وسيصل ازدهار الأسقفية أوجه بعد اعتراف السلطنة العثمانية بالبروتستنتية ملّة رسمية، والتحاق جمعيات إرسالية جديدة في خدمة الأسقفية·

horizontal rule



4- أسقفية القدس الأنكليكانية بين عامي 1851 - 1856 :

قاد الأسقف غوبات بذكاء وحكمة الأسقفية الأنكليكانية في فترة حرجة بين عامي 1851 - 1856· ،ونجح في أن تعترف بريطانيا وبروسيا ضمناً بحقه في دعوة المسيحيين المحليين إلى الأسقفية، وإنشاء طائفه أنكليكانية من عرب فلسطين· أما السلطنة العثمانية فقد اعترفت بالبروتستنتية ملّة رسمية أسوة بغيرها من الكنائس· ولاقى غوبات في هذه الفترة التأييد والمعارضة، وكان النجاح حليفه، فيُعَد بذلك المؤسس الحقيقي للأسقفية الأنكليكانية باعتبارها في عصره كنيسة محلية·
أ - موقف الحكومة والكنيسة في بريطانيا من سياسة غوبات الكنسية :
نصح غوبات بعد تسلمه مهامه في القدس الحكومة البريطانية بالتعامل مع سكان سوريا على أساس طائفي وليس كأمة واحدة· وشجّع الحكومة على تبني القضية البروتستنتية في الشرق، كما يراها هو أرضاً صلبة يمكن لبريطانيا أن تبني عليها نفوذها في السلطنة العثمانية(34)· وأسفرت خطة غوبات الكنسية عن استفزاز الروم الأرثوذكس· ففي 13 أيلول 1848، أشارت الخارجية البريطانية على غوبات عن طريق قنصلها في القدس بما يلي: "على الأسقف الأنكليكاني أن يمتنع عن التدخل في اعتقادات المسيحيين المحليين الدينية"(35)· ونصحه بنزون بالتريث لئلا يُفَسّر عمله سياسياً، كمحاولة اكتساب الأتباع من الطوائف الأخرى، أو التدخل في صلاحياتها، فأجابه غوبات بدهاء: "اعترف أنني لست متمرساً في السياسة"(36)·
وبعد أخذٍ وردٍ بين غوبات والحكومة البريطانية، عُرضت القضية على بالمرستون فأبدى رأيه في 20 كانون الأول 1848: "لا مانع في أن يقّدم الأسقف التعاليم الدينية لمن يقصده من أية طائفة، ولكن عليه هو أن يمتنع عن أن يقصد أبناء الطوائف الأخرى، ويسعى إلى ردهم عن معتقداتهم وضمهم إليه"(37)· وأعطى هذا الجواب الدبلوماسي غوبات الضوء الأخضر للاستمرار في سياسته· فأضحى الرد تراجعاً عن سياسة الأسقفية المعلنة عام 1841، أي هداية اليهود وعدم التدخل بالمسيحيين المحليين· وفي الحقيقة أخذ غوبات يتصرف وكأنه يتمتع بكامل الدعم من حكومة بريطانيا، وعبّر أولئك الذين رغبوا في الانضمام إلى الكنيسة الأنكليكانية بقولهم: <نريد أن نصير إنكليزاً> وليس بعبارة <نريد أن نصير بروتستنتاً> ففي النظام الملّي العثماني آنذاك عُدّ الدين والقومية إلى حد ما وجهان لعملة واحدة(38)·
والحقيقة أن غوبات قد أحرج رئاسة الكنيسة الأنكليكانية في بريطانيا لتحرشه بالكنائس الشرقية، فقد أُسِّسَت أسقفية القدس لهداية اليهود وليس المسيحيين المحليين، والكنيسة الأنكليكانية تكنّ الاحترام والتقدير لهذه الكنائس، وتسعى لقيام علائق ودية معها· أما غوبات فقد استثمر سنواته الأولى في فلسطين لإنشاء مدارس إرسالية وتكوين شبه رعايا أنكليكانية من أبناء الكنائس الشرقية، مستغلاً التيارات والمواقف المتباينة إزاء الكنائس الشرقية في الكنيسة الأنكليكانية: "إنّ هناك اختلافاً في الرأي بين جناحي الكــنيسـة الأنـكـلـيكـانــية: الـكـنـيسـة الـعــلـيـا (High Church) والـكـنـيسـة السُفلى(Low Church)· فالعُليا قائمة على الأسقفية، وترى في الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والأنكليكانية ثلاثة فروع في كنيسة المسيح المقدسة· أمّا الكنيسة السفلى فتتفق مع لوثر في نظرية الخلاص بالإيمان وحده، وتنظر إلى الكنائس التي تجاهد تحت رايتها كأخوات، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهي الكنائس المشيخية والكلفنية والإنجيلية· ويميل غوبات للكنيسة الإنجيلية دون تحزب لطرف أو لآخر"(39)· ويسمي غوبات الجناح المعارض لمواقفه بـ <المعجبين بالكنيسة الأرثوذكسية> (40) · فأبدى المعجبون بالأرثوذكسية استياءهم لمواقفه غير الودية، فالتجأ إلى رئيس أساقفة كنتربري سَمِّر (Summer) يسأله النصح· فأجاب رئيس الأساقفة بكتاب بتاريخ 8 تشرين الثاني 1850، ويفسّر فيه البند السابع من الفقرة الأولى لاتفاق موقع بين رئيس أساقفة كنتربري وبنزون في 7 كانون الأول 1841، ويعالج هذا البند موقف الكنيسة الأنكليكانية من الكنيسة الأرثوذكسية، وجاء في رده: على الكنيسة الأنكليكانية أن تتحاشى معاداة الكنيسة الأرثوذكسية، ولكن من جهة أخرى إذا شعر الروم الأرثوذكس بعدم الرضى بأوضاع كنيستهم وبحاجتهم إلى مزيد من المعرفة في الكتاب المقدس، وأبدوا تعاطفاً وقناعةً بالمعتقدات الأنكليكانية، فعلى الأسقف أن يتجاوب معهم، ومن غير المعقول أن يُمنع الأسقف من مساندة مثل هؤلاء المسيحيين· ومن المتوقع أن يرعى هذه الجماعات المسيحية التي تكونت في الظروف المار ذكرها كهنة متنورون من أبناء هذه الرعايا، وإذا عُهِد بهذه المهمة لقسس أنكليكانيين، فذلك إجراء مناسب لحماية أولئك المنشقين عن طوائفهم الأصلية من دمار روحي كامل(41)· هذا الاعلان الجريء الذي من شأنه تقوية نفوذ غوبات وإحراز النصر في مسألة المسيحيين الشرقيين، لم يُنشر إلا بعد خمسة وثلاثين عاماً، وربما كان يؤدي نشره آنذاك "إلى إثارة المتاعب لرئيس الأساقفة"(42)· فظل موقف غوبات حرجاً وصعباً في اصطدامه بالجناح المؤيد للكنيسة الأرثوذكسية في الكنيسة الأنكليكانية، لعدم التصريح له باستخدام رد رئيس الأساقفة كقرينة لتبرير مواقفه·
وتُشكل مجمل المواقف البريطانية الرسمية وغير الرسمية العلنية والسرية الحكومية والكنسية تجاه سياسة غوبات في نشر البروتستنتية بين أتباع الكنائس الشرقية تطوراً إيجابياً لصالح غوبات، وخصوصاً بعد الاعتراف بالبروتستنتية ملّة رسمية، والتحاق جمعية المرسلين الكنسية (C.M.S) للعمل في أسقفية القدس· ولم يُلْقِ محبو الروم في الكنيسة الأنكليكانية السلاح، ولم ينسحبوا من حلبة الصراع لصالح غوبات، بل تابعوا حملات المعارضة لغوبات، وأهم هذه الحملات ما يلي:
- حملة القس جون ماسون نيل :(John Mason Neal) نشر القس نيل بياناً عام 1853 باللغتين الإنكليزية واليونانية يعارض فيها غوبات، ووقّع البيان أكثر من الف أنكليكاني، وأُرسِلت نسخة من البيان لبطريرك الروم والسنودس الأرثوذكسي(43) .
- الحملة الثانية قادها أربعة أساقفة أنكليكان من محبي الكنيسة الأرثوذكسية، وأصدروا بياناً مناهضاً لغوبات في تشرين الثاني 1853(44).
أما غوبات فاستغلّ الحملات لصالحه، إذ زادت أعداد المتعاطفين معه الذين غمروه بالعطايا والتبرعات· ولما أنهى بناء إحدى مدارسه علّق على ذلك، وكان صادقاً في قوله، بأنه بنى مدرسته بفضل خصومه(45·(
ب - آراء كنيسة وحدوية رائدة للملك فردريش فلهلم الرابع :
اتصفت المواقف البريطانية في قضية الطوائف الشرقية والبروتستنتية بالدبلوماسية، وإمكانية تفسيرها بعدة معان حسب الظروف· أما المواقف البروسية فقد افتقدت المرونة البريطانية، وأشارت صراحة على غوبات بتبني سياسة إنشاء جماعات بروتستنتية من أتباع الكنائس الشرقية على أساس توفيقي· وفي كتاب صدر بتاريخ 23 تموز 1851 يقيّم الملك فردريش فلهلم الرابع دور غوبات بقوله: "ها إن الحياة الإنجيلية تنتعش في حضن الكنائس الشرقية الهرمة، وأنا واثق أنّك لن تفقد شجاعتك، وأن فكرتك في بناء كنائس وطنية صغيرة من أتباع الطوائف الرومية والسُريانية والقبطية الضعيفة، أفضل من إكراه هذه الكنائس بالتحول مباشرة إلى الأنكليكانية أو اللوثرية، إنها لفكرة سماوية، ولا تدع الفرصة تفوتك والملك إلى جانبك"(46)· ثم ينتقل الملك وهو من المعجبين بالنظريات الدينية إلى موضوع ليتورجي، فيقترح على غوبات تجديد الليتورجية البيزنطية التي تدور حول الأفخارستيا كما هي الحال في الليتورجية اللاتينية· إذ إن الليتورجية البيزنطية فقدت بمرور الزمن رونقها وابتعدت عن واقع الحياة والحس العام، ولذا فاليهود غير قادرين على الاندماج بهذه الطقوس مما يعيق تنصيرهم في حضن الكنيسة الأرثوذكسية· فيحبّذ الملك تجديد هذه الليتورجية وتنقيحها بالروح الإنجيلية· وينصح بالعودة إلى النصوص الأفخارستيا القديمة للقديس ايريناوس، وفي نهاية المطاف يعود ذلك بالخير على البروتستنتية التي قد يسمح الله تعالى بأن تتبنى ليتورجية شرقية معدّلة، وفي الوقت عينه تستفيد الكنائس الشرقية من الإصلاح الإنجيلي لليتورجياتها·
أما خلاصة فكرة الملك على الرغم من تعقيدها، فهي تقديم البروتستنتية للشرقيين بثوب شرقي· وتفقد آراء الملك بريقها وفاعليتها لما فيها من نزعة توفيقية شديدة· فأسقفية القدس قائمة أصلاً على مبدأ توفيقي بين الأنكليكانية الأسقفية واللوثرية الإصلاحية غير الأسقفية· والملك يعقد هذا الواقع بموالفة أخرى بين الليتورجيات، ولعل ذلك من أصعب قضايا التوفيق والموالفة، ولذا يتهرب غوبات من الإجابة الصريحة على اقتراحات الملك، ويعلن في كتاب بتاريخ 29 كانون الأول 1851 جهله بالعلوم الليتورجية، وتفضيله ليتورجية الكنيسة الإصلاحية السويسرية التي تربّى في كنفها(47)· فغاية غوبات الأولى ليس التوفيق بين الليتورجيات ودراسة نصوص القديس ايريناوس حول الأفخارستيا، بقدر ما هو الاعتراف بالبروتستنتية ملّة رسمية في الدولة العثمانية·
جـ - اعتراف السلطنة العثمانية بالبروتستنتية ملّة رسمية :
كان النظام المليّ هو الإطار القانوني الشرعي للوجود المسيحي في السلطنة العثمانية، فمن خلاله نمت الجماعات المسيحية وتطورت· فالدخول في هذا الإطار الديني الواقعي كان أمنية القائمين على الأسقفية الأنكليكانية منذ إنشائها، حتى يتمكن الأسقف شرعياً من بناء الكنائس والمدارس وإنشاء الرعايا، ليطمئن من ينضم إلى هذه الرعايا بأن الحماية الدينية والمدنية التي فقدها بالانفصال عن طائفته الأصلية، سيجدها في الملّة البروتستنتية التي تتمتع قسساً ومؤمنين ومؤسسات بحماية بريطانيا وبروسيا· وتحققت هذه الأمنية في نيسان 1851 (1 محرم 1267هـ) بصدور الفرمان العثماني الذي شمل البروتسنت باختلاف طوائفهم في ملّة واحدة، وذلك بعد أن قام غوبات والدبلوماسية البريطانية بجهود واتصالات مكثفة بالأستانة· ولا شك أنّ زعامة هذه الملّة كانت لغوبات دون منازع، وآنذاك غزت الجمعيات البروتستنتية فلسطين بمختلف جنسياتها وأنواعها، وانضمّت للعمل تحت راية غوبات في ظل النظام الملّي(48)·
د - جمعيات ومؤسّسات جديدة في خدمة الأسقفية :
1) جمعية المُرسلين الكنسية : (CMS)
بدأ غوبات حياته الإرسالية بالعمل مع جمعية المرسلين، ورأى فيها حليفة قوية، فعزم على استدعائها إلى فلسطين: "فمن الطبيعي أنْ يميل فؤاده إليها بكل جوارحه فدعا هذه الجمعية لمساندته"(49)· وخطوة غوبات الجديدة تتوافق مع الاعتراف بالبروتستنتية كملّة في السلطنة العثمانية· ففي أيار 1851 عقد ممثلو الجمعية مؤتمراً في القدس برئاسته وتقرر أن تعمل جمعية المرسلين الكنسية في جنوب سورية (فلسطين)، بينما يحتفظ البورد الأمريكي بشمال سورية منطقة نفوذ له· وهذا القرار تناسى جمعية لندن اليهودية، صاحبة الفضل في قيام أسقفية القدس· فبطبيعة الحال لم يكن هدف جمعية المرسلين الكنسية دعوة اليهود إلى المسيحية، ولكن إصلاح الكنائس الشرقية إكليروساً وشعباً وتحقيق صحوة روحية بنشر الكتاب المقدس وكتاب الصلاة الأنكليكاني الطقسي(50)·
في آب 1851، وصل فردريك اوغسطوس كلاين (Frederich Augustus Klein) رئيس جمعية المرسلين الكنسية المعيّن في القدس، وكلاين خريج معهد بازل وكلية اسلنجتون، وجاء معه أمين سره ساندرسكي (Sandreczki)· وأصدرت الجمعية بياناً في هذه المناسبة في بريطانيا تشرح فيه سياستها في فلسطين· ولاقى البيان واتفاق غوبات والجمعية معارضة في بريطانيا، وانتقده محبو الروم في الكنيسة الأنكليكانية، وبيان الأساقفة الأنكليكان الأربعة المار ذكره جاء على أثر هذا البيان· ولم تزعزع حملات المعارضة اتفاق غوبات والجمعية، فهو المنظّر والمخطط، والجمعية تؤمّن المال والمرسلين· واحتفظ الأسقف بمدارسه وإرسالياته في القدس ونابلس والسلط، وأطلق العنان لجمعية المرسلين الكنسية لتفتح مدارسها ومراكزها في فلسطين والأردن· واستعملت الجمعية أساليب غوبات وغيره من المرسلين في التقرب للمواطنين: توزيع نسخ الكتاب المقدس، الاجتماعات وقراءة الكتاب المقدس، تقديم وجبات الطعام والملابس للطلاب وخدمات طبية ورواتب مغرية لموظفيها(51)·
2) جمعية الشمّاسات في كيزفيرت على الراين (الشماسات الألمانيات):
(Das Diakonissen Mutterhaus Kaiserwerth am Rhein)
مؤسس هذه الجمعية ورئيسها القس ثيودور فلندر، الذي قام سنة 1846 بزيارة إلى لندن تعرّف خلالها إلى المطران صموئيل غوبات المعيّن في القدس، واتفق الاثنان على أن تقوم الجمعية بنشاطها الإرسالي في القدس· وبعد أن باشر المطران عمله في القدس طلب من فلندر عام 1850 تزويده بشمّاستين، فجاء في رسالته الراعوية (30 تشرين الأول 1851): "··· قد انتشرت في السنة الماضية الأوبئة الفتّاكة، وبالكاد وجدنا الممرضات للعناية بالمرضى، فكتبتُ للقس فلندر في كيزفيرث وتوسلت إليه أن يبعث لي بشمّاستين لعيادة المرضى وزيارة النساء المهتديات إلى البروتستنتية زيارات منتظمة، وللعمل كبديلات للمعلمات في المدارس"(52)· وكان فلندر في برلين حين تسلّم رسالة غوبات، فما كان إلا أن أبلغ الملك فردريش فلهلم الرابع بذلك وطلب منه العون· وتمّ الاتفاق على إرسال أربع شمّاسات، وتزويدهن بالأموال اللازمة من صندوق تبرعات كنيسة بروسيا الإنجيلية الوطنية· وتبرع صندوق اتحاد المرأة الألمانية بإعاشة اثنتين منهن واثنتين على نفقة غوبات·
وصل فلندر إلى القدس في 17 نيسان 1851، ترافقه الشمّاسات الألمانيات الأربع، ووقع الاختيار على منزل صغير ليس بعيداً عن موقع >كنيسة المسيح<، ويتألف المنزل من طابـقـين، اسـتعمل الطـابـق الأرضـي كمـأوى للـبـنات وكـان نـواة لمـدرسـة طاليتا قومي ( Talitha Kumi (53))، أما الطابق العلوي فيحتوي على غرفتين واستعمل مستشفى بثمانية أسرة، وتولى إدارته طبيب من مستشفى جمعية لندن اليهودية· واستقبل المستشفى المرضى من كافة الطوائف الدينية في القدس وبلغ عدد رواده في السنة الأولى مئة مريض· وافتتحت الشمّاسات مدرســة بإدارة الشمّاســة شارلوطه بلز (Charlotte Pilz)، عرفت بمدرسة شارلوطة نسبة إليها(54)·

3) نزل فرسان مار يوحنا (Das Hospiz des Johanniter Ordens)
في عام 1850، طلب الأسقف غوبات من الملك فريدريش فلهلم الرابع بناء نزل لاستقبال الحجاج الألمان، فاستجاب ملك بروسيا وقدم له مبلغاً من المال لبناء النزل المقترح عام 1851· واشترى غوبات بالإضافة إلى ذلك نزلاً ثانياً بقرب كنيسة القيامة عام 1858· وكانت إدارة النزل توزع الكتاب المقدس مجاناً على النزلاء، وتمنحهم شهادة بالحج صادرة عن جمعية القدس (Des Jerusalem Verein)· وفي سنة 1869 منحت السلطنة العثمانية لبروسيا بقية الموقع المعروف باسم المارستان·
هـ - أثر حرب القرم (1854 - 1856) وخط همايون (1856) في نمو الأسقفية وعلاقتها بالمواطنين:
أعلنت بريطانيا وفرنسا والبيومنت الحرب إلى جانب تركيا على روسيا، ودارت رحى هذه الحرب في شبه جزيرة القرم· ومن وجهة النظر البروتستنتية في فلسطين، فإنّ احتمال انتصار روسيا كان ضربة للوجود البروتستنتي في الشرق، أما انتصار تركيا بمساندة حلفائها وصدور الخط الهمايوني فكان انتصاراً للبروتستنتية ومزيداً من الحرية الدينية التي يضمنها خط همايون ولكن الفرق بين ما جاء في خط همايون وبين الواقع كان شاسعاً، فانتصار تركيا في حرب القرم فسّرته العامة آنذاك بأن العسكر الروسي هدّد أمن السلطنة، فأمر السلطان أتباعه الفرنسيين والإنكليز بردّ العدوان، فأطاعوا الأمر، وهزم الجيش السلطاني الروس المعتدين(55)· ففي 30 آذار 1856، قرعت أجراس إرسالية نابلس، ولما سأل حاكم نابلس العثماني غوبات تبريراً لقرع الأجراس، أجابه أنه فعل ذلك استناداً إلى ما جاء في خط همايون· وبعد يومين رُفعت الأعلام الفرنسية والإنكليزية على مبنى الإرسالية مما أدى إلى إثارة شعور المواطنين في نابلس، فجُرح أحد المسلمين وقُتل مسيحي في أعمال الشغب التي وقعت(56)·
كانت حصيلة هذه الحقبة من تاريخ أسقفية القدس (1851 - 1856) اتجاه الأسقفية إلى المسيحيين العرب على حساب هداية اليهود للمسيحية· وصارت البروتستنتية ملّة أسوة بغيرها من الملل المسيحية· وظهرت جمعيات جديدة للعمل في الأسقفية على حساب جمعية لندن اليهودية، التي ظل العمل الإرسالي البروتستنتي حقبة طويلة من الزمن حكراً عليها· واستقلّ غوبات مالياً باعتماده على عدة مصادر لتمويله: كالهبات الـفــرديـة وصنـاديـق التـمويـل الـبـريـطانـيـة، وأهـمها صندوق أبرشية القدس الإرسالي (Jerusalem Diocesan Missionary Fund)، الذي أُسّس في بريطانيا عام 1852 لتمويل مشاريع الأسقفية· أما مجموع الطلاب في مدارس غوبات فبلغ 260 طالباً موزعين على النحو التالي: 39 طالباً يهودياً، 16 طالباً يهودياً متنصراً، 6 طلاب من السامريين في نابلس، 199 طالباً مسيحياً، منهم 68 من عائلات بروتستنتية(57) ·

horizontal rule



5- أسقفية القدس الأنكليكانية بين عامي 1856 - 1879 :

شهد القرن التاسع عشر في الستينات والسبعينات طفرة في عدد المؤسسات الإرسالية والمدارس والرعايا· ولم تقتصر هذه الطفرة على الكنيسة الأنكليكانية بل شملت الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية· فبلغ عدد المدارس الأرثوذكسية ما يزيد على عشرين مدرسة برعاية الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية التي أُسِّسَت عام 1882· واستدعى بطريرك اللاتين عشرات الجمعيات الرهبانية من شتى التخصّصات للعمل في الأبرشية الأورشليمية· أما في الكنيسة الأنكليكانية فازداد عدد المدارس وهي على نوعين: النوع الأول يتبع مباشرة للأسقف، والثاني مدارس خاصة بالجمعيات تحت إشراف الأسقف، وهذه الجمعيات بريطانية وألمانية وأمريكية·
أ - المــــدارس :
بلغ عدد مدارس الأسقفية في القدس عام 1860 سبع مدارس :
- المدرسة الراعوية الابتدائية - ذكور·
- المدرسة الراعوية الابتدائية - إناث·
- المدرسة الراعوية الإعدادية - ذكور·
- المدرسة الراعوية الإعدادية - إناث·
- مدرسة الشمّاسات الألمانيات - إناث·
- مدرسة جمعية لندن اليهودية - ذكور·
- مدرسة جمعية لندن اليهودية - إناث·
أمّا المدارس الأربع الأولى، فعبارة عن مدرسة واحدة وهي التي أُُسِّسَت عام 1847، ولكنها قُسّمت إلى أربعة فروع، والمدرستان الأخيرتان في الواقع هما مدرسة واحدة بفرعين· أمّا خارج القدس فمن الصعب حصر عدد المدارس لتعدد حالات إغلاقها وفتحها لعدم تمكن غوبات من تمويلها أو لمعارضة السلطات العثمانية على قيامها، وأهمّ المدارس التي استمرت في تأدية خدماتها هي مدارس: بيت لحم وبيت جالا واللد والرملة ويافا ونابلس ورفيديا والزبابدة وبرقين وشفا عمرو والسلط· وعدد طلاب هذه المدارس تراوح عادة بين 10 - 50 طالباً· وقام شخص واحد بدور المدير والمعلم، وهذه المدارس عادة للذكور وليست للإناث· وقد تحوّلت بعض مدارس غوبات ومدارس الجمعيات لفترة قصيرة إلى مياتم وملاجىء للأطفال اللبنانيين على أثر أحداث لبنان عام 1860·
وفي عام 1871، تنازل غوبات عن مدارسه للجمعيات البروتستنتية العاملة في الأسقفية، وذلك ليخفف العبء المالي الذي ترتب عليه: فتنازل عام 1871 عن مدرستي بيت لحـم وبيت جـالا لجمعية بـرلين الإرسـالية، وعـام 1873 عـن مدرسـتي شـفا عمرو والسلط لجمعية المرسـلين الكنسية، وفي عام 1876 تنازل عن بقية مدارسه لهذه الجمعية، ولكنه احتفظ بمدرسة القدس الراعوية بفروعها الأربعة، ثم تنازل أخيراً عن الإشراف عليها لجمعية المرسلين الكنسية عام 1877، وكانت أفضل مدارسه وأقربها إلى قلبه·
ب - الجمعيات الإرسالية :
إنّ أقدم الجمعيات الإرسالية في فلسطين هي جمعية لندن اليهودية، وفي عصر غوبات فقدت الجمعية دورها الأساسي في الأسقفية لميل غوبات إلى جمعية المرسلين الكنسية، التي اعطت الأولوية للعمل بين المسيحيين العرب على حساب اليهود· أمّا اليهود فما زالوا علـى مـواقـفـهم الـقـديمة المـعـاديـة للـجـمعـيات الإرسـالـيـة· ويـذكرجوزيف باركلي (Joseph Barclay) رئيس جمعية لندن اليهودية في فلسطين بعد وفاة نكلسون عام 1856، أنّ عدد المصلين اليهود في >كنيسة المسيح< عام 1865 بلغ 144 يهودياً(58)· ويعلل الكسندر ماك كول (Alexander MC Caul) إخفاق الجمعية في تبشير اليهود: بأن هدف الجمعية كما يظهر من ذلك من اسمها نشر المسيحية بين اليهود، وليس تنصير اليهود(London Society for Promoting Christianity amongst the Jews) (59). فغدا آنذاك مرسلو الجمعية أقل عدوانية وحماسة في تنصير اليهود الذين التجأ ربابنتهم إلى أساليب أكثر مرونة ودبلوماسية في مقاومة مرسلي الجمعية، كالاستنجاد بخط همايون والفرمانات العثمانية التي تضمن الحرية الدينية لسائر الملّل في السلطنة· وأهم الجمعيات الإرسالية العاملة في الأسقفية آنذاك ما يلي:
1) الجمعيات البريطانية :
أ) جمعية المرسلين الكنسية (CMS):
كان لجمعية المرسلين الكنسية ثلاثة أهداف مرحلية مترابطة: أولا: افتتاح المدارس، ويؤدي إلى الهدف الثاني وهو نشر الروح الإنجيلية في الكنيسة الأرثوذكسية لتقوم بدورها في تنويرالشرق وهذا الهدف الثالث· وقد نجحت الجمعية في تحقيق هدفها الأول نجاحاً جيداً، وفي الهدف الثاني نجـاحـاً متوسطاً، وفي الهدف الثالث أخفقت· وفي نهاية المطاف عمـلت الجمـعـية مـن خـلال مـدارسـها ومرسـليها بين المســيحيين· وجـمع طيباوى عدة إحصاءات حول المدارس البروتستنتية في فلسطين في عام 1886 - 1887، واختصرها في إحصائية واحدة: فبلغ حسب هذه الإحصائية عدد المدارس في منطقة القدس القنصلية 57 مدرسة، يدرس فيها 2232 طالباً ويعلّم فيها 96 معلماً، حصة جمعية المرسلين الكنسية من هذه الأرقام حصة الأسد: 45 مدرسة، 74 معلماً، 0176 طالباً(60)· والباقي تقاسمته الجمعيات البروتستنتية الأخرى· ومعظم طلاب الجمعية من المسيحيين العرب· وشملت مناهج مدارس الجمعية: الكتاب المقدس والتاريخ المقدس والتاريخ العام والجغرافيا والحساب والجبر والهندسة والفلسفة والمنطق واللغتين الإنجليزية والعربية·
ب - جمعية نهضة التربية النسائية في الشرق:
(Society for promoting Female Education in the East)
وللجمعية مدرسة كبيرة في الناصرة ومدارس صغيرة في القرى·
جـ - إرسالية طابيتا الاسكتلندية (Scottish Tabeetha Mission)
للإرسالية مدرسة في يافا عرفت بمدرسة أرنوط، نسبة لإحدى معلماتها والكر ارنوط (Walker Arnott)·
2)الجمعيــات الألمانيــة :
أ - إخوة كريشونا ودار الأيتام السورية·
جاء اثنان من إخوة كريشونا إلى القدس عام 1846 للعمل في الوسط العربي، ولحق بهما اثنان آخران عام 1848· وفتح الإخوة مدرسة مهنية صغيرة، إذ إنهم من أصحاب المهن ويعيشون من عمل أيديهم· أخفق الإخوة في مساعيهم فعاد بعضهم إلى بلاده، وانضمّ آخرون إلى غوبات أو لجمعيات أخرى في فلسطين· وأخفق مشروع ثانٍ لفتح مدرسة في القدس عام 1854، إذ أرسل شبتلرمؤسس الإخوة المعلم يوهان لودفيغ شنلّر (John Ludwig Schineller) إلى القدس تصحبه زوجه وستة إخوة· وشنلّر لم يستسلم للإخفاق والهزيمة، فاشترى أرضاً خارج القدس افتتح فيها مدرسة بإشرافه· وازدهرت مدرسته بعد أحداث لبنان عام 1860، إذ استقبل في مدرسته الأيتام اللبنانين والسوريين، وعرفت المدرسة آنذاك بدار الأيتام أو مدرسة شنلّر: " كان هؤلاء الأطفال ينامون على مساند من القش يتسع كل منها لأربعة أطفال· ويتولى شنلّر نفسه تعليمهم القراءة والكتابة باللغتين العربية والألمانية· كما يقوم رهبان (إخوة) آخرون بتدريبهم على بعض الحرف اليدوية· وأخذ عدد الأطفال يزداد مع السنين حتى بلغ 60 طفلاً عام 1870 ، 126 طفلاً عام 1880· وألّف شنلّر هيئة استشارية لتقديم المشورة والنصح من أجل تطوير دار الأيتام، أما العبء الأكبر فقد وقع على شنلّر نفسه"(61)· تطورت المدرسة وفتحت فروعاً لتعليم المهن كالنجارة والحدادة وصناعة الأحذية· وساهمت الدار في تخفيف حدة الكوارث والحروب التي المت بالشرق، "فتحت أبوابها للأرمن أيضاً وكان ذلك على أثر المذبحة التي قامت في أرمينيا حوالي عام 1894· وفي سنة 1903 أضيف إليها فرع لإيواء المكفوفين والمكفوفات· وفي سنة 1906 أضيف إليها فرع زراعي في بئر سالم وآخر في المخيمة، وفي سنة 1910 ضُمّ إليها قسم ثانوي وآخر لتدريب المعلمين"(62)·
توفي شنلّر المؤسّس عام 1896، وخلفه ابنه ثيودور شنلّر (Theodor Schneller) وكان يعمل مع أبيه منذ عام 1855· وتولّت الرابطة الإنجيلية دار الأيتام السورية، وقد أنشأها شنلّر المؤسّس عام 1889 في كولون بألمانيا· وقامت الرابطة بتمويل المدرسة والإشراف على تطويرها، فغدت المدرسة في نهاية القرن التاسع عشر أكبر مؤسسة تعليمية إنجيلية في فلسطين(63).
ب - جمعية الشمّاسات في كيزفيرت على الراين (الشمّاسات الألمانيات)
جاءت الشماسات الألمانيات إلى القدس عام 1851، ولهن مدرسة طاليتا قومي ومدرسة شارلوطة ومستشفى بثمانية أسرة داخل القدس· وفي عام 1856 اشترت الشمّاسات بمساعدة اليزابيث ملكة بروسيا أرضاً خارج القدس وبدأ بناء مستشفى عليها سنة 1859، فاتضح أن مساحة الأرض غير كافية، فوضع حجر الأساس في الأرض عينها لمدرسة طاليتا قومي الجديدة عام 1866، وتمّ البناء عام 1886، وبلغ عدد تلميذاتها 89 طالبة· أما المستشفى فقد استمرّ في تقديم خدماته داخل المدينة إلى أن تمّ شراء أرض خارج البلدة بقرب مدرسة طاليتا قومي عام 1890، وبُني عام 1894، "وكان المقدسيّون يسمّونه يومئذٍ مستشفى المجيدي لأنهم (أي الألمان) كانوا يطلبون من كل مريض يدخله ريالاً مجيدياً عثمانياً مهما طالت إقامته فيه"(64)·
جـ - جمعية بيت المقدس
تهدف جمعية بيت المقدس إلى دعم المؤسّسات البروتستنتية والجماعات الألمانية في الشرق· وأنشأ هذه الجمعية عام 1852 الدكتور شتراوس (F. A. Strauss)، وهو واعظ ورحّالة زار فلسطين عام 1845· وانضمّ إلى عضوية الجمعية شخصيات سياسية ودينية ألمانية· وافتتحت الجمعية فروعاً لها في مختلف المدن، وتبنت عدة مشاريع ومؤسّسات في فلسطين، وأصدرت مجلة حول نشاط الكنيسة الإنجيلية الألمانية في فلسطين· وأنشأت الجمعية مركزاً إرسالياً في بيت لحم عام 1860، وأوفدت الأخ مللر (Muller) من إخوة كريشونا إلى بيت لحم فأنشأ المدرسة بالتعاون مع غوبات· واشترى مللر أرضاً خارج البلدة، بنى عليها مدرسة ومنزلاً وقاعة للصلاة· وأولت السيدة مللر اهتمامها بالقطاع النسائي في البلدة بتعليم الخياطة والتطريز واعتنت بعشرين يتيماً· وبلغ عدد الأسر المنتمية إلى الطائفة البروتستنتية في بيت لحم أربعين أسرة· كما أنشأ مللر مركزاً مماثلاً في بيت جالا عام 1865· وخلف مللر في بيت لحم عام 1884 يوهان لودفيغ شنّلر، وشرع في بناء كنيسة الميلاد عام 1887 ودُشّنت الكنيسة عام 1893·
أنشأت جمعية بيت المقدس داراً للأيتام في بيت لحم عام 1896 لإيواء أطفال الأرمن· أما في بيت جالا فقد تعرّض النشاط البروتستنتي الذي رعته جمعية بيت المقدس لهزّة عنيفة على أثر مقتل فتاة أرثوذكسية في شجار بين الأرثوذكس والبروتستنت، أدّى إلى جلاء البروتستنت عام 1885 إلى الكرك لمدة ستة أشهر، عادوا بعدها إلى منازلهم بعد أن دفعوا دية القتيلة(65)
وأخفقت محاولتان برعاية جمعية بيت المقدس للاستقرار في الخليل وبيت ساحور· ومجمل عدد المنتفعين من خدمات جمعية بيت المقدس من العرب البروتستنت ظل محصوراً وبلغ 340 فرداً عام 1910(66)·
د - مـأوى المجذومين
أقيم مأوى للمجذومين على أرض خارج القدس عام 1867، بتعاون عدة جمعيات خيرية ومحسنين في ألمانيا بالتنسيق مع غوبات· وتوسع مأوى المجذومين، فنُقِل عام 1887 إلى مبنى آخر يتسع لستين مريضاً·
هـ - مستشفى الأطفـــال :
تبرعت شخصية ألمانية تدعى ميكلنبورغ شفيرين (Der Grossherrzog Von (Meeklenburg-Schwerin بإنشاء مستشفى للأطفال في القدس على أثر الزيارة التي قام بها إلى القدس هو وزوجه عام 1872· وافتتح المستشفى عام 1875، وعرف أيضاً بمؤسسة ماريا الخيرية نسبة إلى زوجه· ومع نهاية العام، بلغ عدد الأطفال الذين عولجوا في المستشفى اثنين وسبعين طفلاً(67)·
وهناك جمعيات ألمانية أخرى عملت في فلسطين في عصر غوبات أهمها: جمعية المرسلين المورافيين، وأشرفت الجمعية على مستشفى البرص في القدس· وساهمت جمعية مرسلي برلين بالعمل في المراكز الإرسالية في بيت لحم وبيت جالا· وساهمت جمعيتان أمريكيتان في مشاريع غوبات: إرسالية الكنيسة الأسقفية في أمريكا الشمالية وفتحت مدرسة في يافا، وجمعية الفرندز (Friends) الأمريكية التي فتحت مدرسة للبنات ثم للأولاد في رام الله· ومن بين سائر هذه الجمعيات البريطانية والألمانية والأمريكية كانت جمعية المرسلين الكنسية البريطانية هي الرائدة والأوفر إمكانات ورجالاً· ونشأ حول هذه الجمعيات بدرجات متفاوتة وحول المرسلين البريطانيين والألمان، جماعات بروتستنتية موالية لغوبات أصبحت فيما بعد نواة الطوائف البروتستنتية العربية الأنكليكانية والإنجيلية اللوثرية·
جـ - الرعايــا العربيـــة
سارت الحياة الراعوية في الكنيسة الأنكليكانية جنباً إلى جنب مع المدارس التي أسّسها غوبات وتبنتها جمعية المرسلين الكنسية· وساهم هؤلاء المرسلون في إنشاء الرعايا من أتباع الكنائس القديمة في فلسطين، وكانت المدارس مقدمة العمل الراعوي· وغدت الرعايا العربية واقعاً ملموساً اعترف به غوبات في رسالته الراعوية الأخيرة عام 1877: "تنقسم طائفتنا إلى ثلاثة أقسام لاختلاف اللغات الناطقة بها: ففي القدس يرأس الطائفة الألمانية الدكتور رانيكه (Reinicke) من برلين، وتتكون الطائفة الإنكليزية من اليهود المتنصرين وهم برعاية جمعية لندن اليهودية، والطائفة العربية فبرعاية جمعية المرسلين الكنسية"(68)· واقترح جيمس فين القنصل البريطاني في القدس بناء كنيسة خاصة للطائفة العربية، وتمّ بناء هذه الكنيسة عام 1874، وعُرفت بكنيسة مار بولس(69)
ويؤكد غوبات أنّ التعامل مع طائفة القدس العربية ليس بالأمر السهل على القسس· أمّا المركز الثاني أهمية ففي الناصرة، وتبع لها خمسة مراكز: يافا الناصرة وكفركنّا ومجيدل وشفا عمرو والرينه، وبلغ عدد البروتستنت في الناصرة ألف نسمة عام 1871، وبدأ العمل في بناء كنيسة الناصرة عام 1862، ودشّنها غوبات في 1 تشرين الأول 1871· وفي عام 1882 بُنيت كنيسة نابلس، وهي أقل أهمية من الناصرة والقدس· وكانت السلط هي المركز الرئيس في شرق الأردن، وعهد غوبات بطائفة السلط لجمعية المرسلين الكنسية، (رسالة راعوية 13 تشرين 2 1876): "تنازلت منذ ثلاث سنوات عن السلط لجمعية المرسلين الكنسية، ولديهم هناك مدرسة وطائفة برعاية كاهن أرثوذكسي اهتدى إلى الأنكليكانية"(70)·
من بين أبناء هذه الرعايا العربية الصغيرة، ظهر بمرور الزمن أشخاص تقدموا لقبول الرسامات وصاروا بدورهم رعاة لهذه الطوائف، فأثناء الزيارة الراعوية التي دشّن فيها غوبات كنيسة الناصرة عام 1871 منح الرسامات لثلاثة قسس، اثنان منهم عربيان(71)· وعلى الرغم من عناية غوبات الخاصة بالطائفة العربية ظلّت هذه الطائفة تعاني نقاط ضعف عديدة: كاللامبالاة وعداء الكنائس الشرقية وقلّة عدد المرسلين ومعلمي التعليم المسيحي· وعالجت جمعية المرسلين الكنسية هذه المشكلة بافتتاح دورات تدريبية للمعلمين عام 1871 في القدس(72)· ولعل الجدول التالي يظهر مدى نمو الطائفة العربية وغيرها من الطوائف وتطور الخدمات المقدمة في أبرشية القدس(73)·

horizontal rule


خـاتـمـة

في غضون ثلث قرن (1846 - 1879)، صاغ الأسقف غوبات بهمة ونشاط بُنية الكنيسة الأنكليكانية في فلسطين، وأرسى قواعد العمل الراعوي من خلال الطوائف والمدارس في الوسط المسيحي العربي، بعد أن اقتصر عمل الأسقفية على الوسط اليهودي، وفتح أبواب أبرشيته للجمعيات الإرسالية الإنكليزية والألمانية· فهو أشبه بالبطريرك اللاتيني فاليركا الذي يُعَدّ المحُيي الحقيقي للوجود الكاثوليكي في فلسطين·
في 03 كانون الأول 1874 احتفلت الطائفة الأنكليكانية المتعددة الجنسيات بالذكرى الخامسة والعشرين لتسلم غوبات مهامه الأسقفية في القدس· وشاركت الطائفة الإنكليزية والألمانية واليهودية والعربية في الاحتفال، وبلغ الأسقف آنذاك الثانية والسبعين من عمره، وبقي على رأس عمله حتى عام 1879· في أيار 1878 أصيب بجلطة دماغية في سويسرا وكان في زيارة لأبنائه وأحفاده وأصدقائه، فعاد إلى القدس في 10 كانون الأول 1878، وهو يعاني آثار الجلطة وتوفي في 11 أيار 1879 عن عمر يناهز الثمانين عاماً، قضى منها ثلاثاً وثلاثين سنة في فلسطين· وفي لحظات نزاعه الأخيرة قال له ابنه: <إنّك ابن الرب فلا تخف من الشرير في وادي الظلمات حيث ظلال الموت> فهمس الأسقف مبتسماً، <إنه ليس مظلماً> (74)· وكانت هذه كلماته الأخيرة، ودُفن في حرم <كنيسة المسيح> بالقدس·
لقد جمع الأسقف غوبات حول شخصيته القوية عناصر الوجود الأنكليكانية في فلسطين المكون من الطوائف الإنكليزية والألمانية والعربية واليهودية، ونسّق بين الجمعيات الإرسالية المختلفة، فصهر كل هذه العناصر والأعراق في بوتقة واحدة، إلى حد أن الألمان اتهموه بأنه يميل للإنكليز، واتهمه الإنكليز بأنه يميل للألمان· فحقق بذلك الوحدة الكنسية الألمانية الإنكليزية التي تمناها ملك بروسيا، ولكن إلى حين، فما هي إلا بضع سنوات حتى أخذت ألمانيا تتذمر من وضعها المتدني في الاتفاق، وتفجّرت الوحدة التي رسم خطوطها بنزون وهولي رئيس أساقفة كنتربري في لندن، وانشقت الكنيسة الواحدة إلى كنيستين إنكليزية وألمانية، والإنكليزية على المذهب الأنكليكاني، والألمانية على المذهب اللوثري·

 

الفهرست

غلاف الكتاب