cover.JPG (69622 bytes)الباب الأول البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية

 

الفصل الثاني
التشريع في البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية
وأحداث السنوات 1873 - 1897


مـقـدمــة

اعتلى الكرسي الأورشليمي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر خمسة بطاركة هم: بروكوبيوس الثاني وايروثيوس ونيقوذيموس وجراسيموس وذاميانوس(1)· وأهم أحداث هذه الحقبة التي صبغت نهاية القرن الماضي ومطلع القرن العشرين بطابع مميز خاص، صدور قانون البطريركية الأورشليمية سنة 1875، "وعُدّ دستوراً أساسياً لهذه الكنيسة حتى سنة 1958"(2)· وقع الخلاف بين العرب واليونان في تنفيذ القانون وتفسيره ومحاولات تعديله· وتشكّل مجمل إجراءات تنفيذ القانون وتفسيره ومحاولات تعديله الأحداث الرئيسة في تلك الحقبة·
لم يكن في البطريركية الأورشليمية قبل سنة 1875 قانون أو تشريع خاص، بل سارت البطريركية على مجمل القوانين الكنسية العامة الصادرة في المجامع الكنسية والعادات المرعية في البطريركيات الأرثوذكسية· وقانون 1875 ليس ثمرة تطور القوانين العامة المتّبعة في سائر البطريركيات، وإنْ استمدّ منها بعض بنوده، لكن فرضته الأحداث الكنسية - السياسية التي مر ذكرها في الفصل السابق،" توخياً للاستتباب في الحالة وسداً لسبيل التدخل الروسي وضعت أنظمة 1875 على عَجَل"(3)·

horizontal rule

1- البطريرك بروكوبيوس الثاني 1873-1875
انتُخِبَ بروكوبيوس بعد عزل كيرلّس بأيام قلائل، وثبّته العثمانيون في منصبه بمنحه براءة التعيين بعد شهر من تعيينه، وهذه الفترة وجيزة نسبياً، وذلك لقطع الطريق على التدخّل الروسي، ولكن لم يعترف به الروس والعرب بطريركاً شرعياً· ويصفه كتاب مطبوع في القسطنطينية سنة 1873، ويعبر عن وجهة النظر الروسية بأنه "جاهل وتافه ومتعصب وكافر نُصّب على عرش مار يعقوب بقوة السلاح، وفرضه العسكر على رعية لا تريده بطريركاً عليها، لأنها أمينة ومحبة لبطريركها الشرعي"(4)· وفي موضع آخر يقول فيه: "إن بروكوبيوس خليفة كيرلّس ما هو إلاّ صنيعة حفنة من الرهبان، حضّهم على الجور والتعسّف البطريرك المسكوني انثيموس· فبطريرك كنيسة القدس الشرعي كيرلّس وهو رمز استقلالها بينما بروكوبيوس رمز عبوديتها"(5)·
قاطع العرب البطريرك المنتخب "واستولوا في القدس على كثير من الأديرة حتى أنهم أبطلوا الصلاة في كنيسة مار يعقوب، لكي لا يكون لهم أقل مواصلة بالرهبان الموجودين في كنيسة القيامة وفي دير الروم"(6)· وبعث الوطنيون وفداً إلى الأستانة يضم كلاً من بنايوت الصوابيني وحنا زكريا وسمعان مشبك(7) للاحتجاج على عزل كيرلّس وتعيين بروكوبيوس، ولكن الوفد عاد بخفي حنين· وحسب هوبوود قاد الدكتور جورجي صروف الوفد الفلسطيني· وصروف ترجمان القنصلية الروسية في القدس، وعزله الروس فيما بعد من منصبه لإخفاقه في تعبئة الرأي العام لدعم البطريرك كيرلّس(8)·
وفي آذار 1873، وجّه السنودس الروسي كتاباً إلى انطونين في القدس للعمل على تطبيع العلائق مع البطريرك الجديد· فرأى اغناتيف بذلك خيانة لقضية كيرلّس وهزيمة للنفوذ الروسي، فكسر قرار السنودس وأمره بإلغاء توصياته لانطونين، "ومرة أخرى ظهر أن الدولة تحكم الكنيسة في روسيا بما يخص المسألة الفلسطينية، وتفادى انطونين والقنصل الروسي أي اتصال رسمي مع بروكوبيوس الذي لم تعترف روسيا بشرعيته طوال مدة حكمه"(9)·
توقع رهبان أخوية القبر المقدس ضرورة صدور قانون للبطريركية، فجهّز السنودس الأورشليمي المكون من رهبان الأخوية، مشروع قانون من أحد عشر بنداً في الفترة الإنتقالية بين كيرلّس وبروكوبيوس، وأقسم الأخير بالمصادقة عليه قبل انتخابه· ويجرد القانون البطريرك من معظم صلاحياته، فرفضه الروس والعرب، ولم تصادق عليه الأستانة، فأُجهِض مشروع القانون قبل أن يرى النور(10)·
وتابع العرب مقاطعتهم للبطريركية بدعم من القنصل الروسي، الذي نقله اغناتيف وقتياً وعيّن بدلاً منه يوسفوفيش (Yusefovich) القنصل الروسي في دمشق· فألحّ العرب على ضرورة تشكيل مجلس مختلط من الكهنة والعلمانيين له دور في انتخاب البطريرك والأساقفة ومراقبة مالية البطريركية، كما طالبوا بالسماح لهم بالانضمام إلى أخوية القبر المقدس، وصرف رواتب منتظمة للكهنة وفتح مدارس للطائفة· ونقل هذه المطالب وفد من الوطنيين إلى الأستانة· وكان اليونان في القدس على وشك الإفلاس لوضع الحكومة الروسية يدها على أوقاف البطريركية· وأصرّ الروس على شرطين: أولهما قبول كيرلّس في أخوية القبر المقدس وقد فُِصلَ من عضويتها، إذ إنه من الصعب عودته إلى منصبه البطريركي· والشرط الثاني إستقالة بروكوبيوس وإصدار قانون للبطريركية يضمن حقوق العرب، وأبدى اغناتيف استعداده للنظر في قضية أموال البطريركية المجمدة في المصارف الروسية حتى تلبية شروطه· واتفقت ضمناً الأطراف الأربعة: اليونان والروس، العرب والأتراك على ضرورة الخروج من الأزمة البطريركية· فصدر في 31 آذار 1875 قانون البطريركية الأساسي· واستقال بروكوبيوس فلزم قلايته إلى أن وافته المنية· وعُيّن أحد الأساقفة مدبراً للبطريركية إلى حين انتخاب البطريرك الجديد·

horizontal rule


2 - قـانـون الـبـطريـركـيـة الأسـاسـي لـعـام 1875(11):
يتكون قانون البطريركية من أربعة فصول ومن سبع عشرة مادة· الفصل الأول في واجبات المجمع البطريركي ويضم المواد من 1-3· والفصل الثاني في انتخاب البطاركة ويضم المواد من 4-11· والفصل الثالث في شروط المنْتَخَب للدرجة البطريركية ويضم المواد من 12-14· والفصل الرابع في الشروط الضرورية المطلوبة لترقية الأساقفة وفي كيفية انتخابهم ويضم المواد من 15-17· وعن مؤلف القانون، فقد قيل إن الأخوية وضعته ورفعته إلى الباب العالي، فنقّحه وجمعه في سبع عشرة مادة (12)· ويؤكد آخرون أن الباب العالي صاغه وفرضه(13)· أما تقرير برترام فلا ينسب نصّ القانون إلى جهة معنيه، "وُضِعَت أنظمة 1875 على عَجَل"(14)· والنص الأصلي للقانون باللغة التركية· وعُرف كذلك القانون بـ >نظامات<، وهي كلمة تركية تعني قانون· وبما أن قانون 1875 هو الوثيقة القانونية الأساسيّة لتنظيم البطريركية حتى سنة 1958، فقد دار جدل حول تفسير بعض عباراته وألفاظه، وعلى سبيل المثال: كلمة >روم< الواردة في النص التركي، يرى موشوبولوس (Moschopoulos) وهو كاتب يوناني، بأنها تعني >يوناني< (grec بالفرنسية)، وينتقد جورج يونغ (Young) لأنه أسقط كلمة >يوناني<(grec) في ترجمته الفرنسية للقانون· وكلمة يوناني بالنسبة للكاتب اليوناني تعني شعب اليونان أو الجنس اليوناني (15)· والترجمة العربية تستعمل كلمة >روم< بمعناها العام أي >الأرثوذكس< لا >اليونان<· وفيما يلي نص القانون كما جاء في كتاب قزاقيا مترجماً عن اليونانية(16):

"المادة الأولى" البطريرك الأورشليمي هو الرئيس المطلق والمراقب لكل المزارات الموجودة والمختصة بالكنيسة الأورشليمية التي هي تحت تصرف الروم المختصة منها بالروم أنفسهم والتي هي مشتركة بينهم وبين غيرهم من الطوائف المسيحية مع الأديرة والكنائس المختصة بهذه الملّة وهو المتسلط على المطارنة والأساقفة والرهبان والكهنة التابعين للكرسي البطريركي وهو المناظر على المدارس والمستشفيات المختصة بهذه الأديرة· ومن واجباته إجراء الاحتفالات الدينية كما تقتضيه التقاليد المعتبرة منذ القديم في أوقات معينة في كنيسة القيامة وفي بقية المزارات· وعليه أن يراقب حسن الادارة في مدارس أبرشيته وفي المستشفيات· وأن يعتني بفقراء ملته ويدبرهم بمقدار ما تسمح له واردات الكنائس والأديرة· وأن يسكن الزوار الذين يحضرون إلى أورشليم سنوياً بحسب الاقتضاء· وأن يبذل جهده في مساعدة الرهبان الخاضعين له ويهتم لأجل راحتهم·
"المادة الثانية" عند حدوث أي طلب من الشعب مختص بالأمور الدينية أو الواجبات الروحية نحو الرؤساء الروحيين· ينعقد تحت رئاسة البطريرك المجمع المار ذكره· وبعد التدقيق تفصل القضية الواقعة بالاتفاق أو بأكثرية الأصوات·
"المادة الثالثة" يتشكل المجمع من ستة أساقفة وتسعة ارشمندريتية وللبطريرك الصلاحية أن يزيد أو ينقص أو يستبدل من أعضائه حسب اللزوم· بشرط أن لا يرفض هيئة مجموع أعضائه كلها· وهذا المجمع يجتمع دائما تحت رئاسة البطريرك لأجل المذاكرة في إدارة الأمور الدينية· والنظر في أحوال المزارات والكنائس والأديرة· وفي واجبات الرهبان وقضاياهم الروحية مع خدمة الموجودين في الأديرة· وعلى ما هو معلوم أن المسائل المختصة بالأوقاف والمؤسسات الخيرية بما فيها الايجار والاستئجار والاحالة والانتقال مع البيع والشراء وما يتفرع من هذه من الأعمال· كل هذه جارية بمقتضى القوانين المعينة في الدوائر الشرعية والمحاكم المدنية صاحبة الصلاحية· لذلك فالمجمع المذكور يتذاكر أعضاؤه أيضاً بشأن الادارة الحسنة للواردات وبخصوص اعالة فقراء الملة والنظر في بقية المسائل الروحية· والقرارات تنفذ من قبل البطريرك· أما في حين حدوث عائق مشروع يقضي بتأخر البطريرك عن حضور الاجتماع كتغيب أو مرض أو غيره· فينوب منابه من يعينه هو بنفسه من المطارنة أو من الأساقفة أو الأرشمندريتية·
"المادة الرابعة" لدى فراغ كرسي البطريركية الأورشليمية ينعقد المجمع وينتخب قائم مقام للكرسي البطريركي من المطارنة أو الأساقفة الموجودين في أورشليم بشرط أن تكون متوفرة فيه شروط اللياقة المطلوبة· وتنظم لائحة مبينة المسئلة المتوقعة مع ذكر الشخص الذي سيعين قائم مقاماً للكرسي وتقدم هذه اللائحة إلى متصرف القدس وهذا حالاً يبلغها لمركز الصدارة العظمى أما تلغرافياً أو في البريد حسبما تقتضيه الظروف· ويجري المقتضى بموجب الأوامر المرسلة بخصوص اقامة قائم مقام البطريركية أو باجراء انتخاب البطريرك وفقاً للقانون·
"المادة الخامسة" بعد اجراء أحكام المادة السابقة ترسل تحارير من قائم مقام البطريركية إلى المطارنة والأساقفة التابعين لكرسي البطريركية يبلغهم بها أن ينوجدوا في أورشليم في مدة لا تزيد عن واحد وعشرين يوماً· ويبلغ الشعب أيضاً بطريقة خصوصية لكي يرسلوا إلى القدس عن كل ميتروبوليتية أو أسقفية كاهناً متزوجاً ليكون بالوكالة عن الشعب في اللجنة الانتخابية لانتخاب البطريرك·
"المادة السادسة" بعد انتهاء الأجل المضروب يجتمع المدعوون في دير الروم في أورشليم وينتظم المجلس الروحي مُشكلاً من جميع المطارنة والأساقفة ثم يسلم كل منهم إلى قائم مقام الكرسي رقعة ممضاة باسمه ومتضمنة اسم الشخص الذي ينتخبه ويرى فيه اللياقة والاستحقاق للبطريركية من المطارنة أو الأساقفة أو الارشمندريتية التابعين للكرسي الأورشليمي سواء أكان حاضرًا في أورشليم أو موجوداً في الخارج·
"المادة السابعة" هؤلاء الأشخاص المرشحون بقطع النظر عن كثرة الاصوات المنتخبة التي أحرزها الواحد منهم أو قلّتها جميعهم يعتبرون مرشحين متساوين وتقيد اسماؤهم في المجلس في دفتر يمضيه القائم مقام وأعضاء المجلس·
"المادة الثامنة" بما أن البطريرك الذي سيصير انتخابه يعتبر رئيساً دينياً فالدفتر المنظم وفقا لاحكام المادة السابقة والمحتوي على اسماء المرشحين للبطريركية يرسل إلى مركز المتصرفية· وهذه تبلغ الباب العالي في الحال ذاكرة اسماء الاشخاص المدونة في ذلك الدفتر تحريرياً أو تلغرافياً· والمتصرفية كذلك تبلغ القائم مقام والمجمع الأمر الذي سيردها جواباً من الباب العالي والمتضمن الموافقة والتصديق على انتخاب البطريرك من الأشخاص المعينين بعد أن تحذف من اللائحة اسماء الأشخاص التي ترى الدولة ضرورة اسقاطها·
"المادة التاسعة" بعد تبلغ أمر الباب العالي وفقاً للمادة السابقة تجتمع الهيئة الانتخابية المتشكلة من أعضاء المجمع ومن بقية الأرشمندريتية الموجودين في أديرة اورشليم ومعهم المتولي وظيفة البروتوسينكيلوس· ومن الكهنة الوطنيين الحاضرين من الخارج بالوكالة عن رعاياهم ويستدعى أيضاً كاهنان ينتخبان من القدس عن الأهالي· ثم تباشر هيئة الانتخاب العمل كما يلي: يصير انتخاب ثلاثة من الأشخاص المرشحين المتقدم ذكرهم بطريقة سرية تجري بين هيئة المنتخبين (بكسر الخاء) بأكثرية الأصوات· بعد هذا يأخذ أعضاء المجلس من الرهبان الورقة المحتوية على أسماء الثلاثة المنتخبين (بفتح الخاء) ويذهبون إلى كنيسة القيامة· ثم بحضور بقية أعضاء الهيئة يصير في الكنيسة انتخاب البطريرك من المرشحين الثلاثة وفقا للتقاليد الدينية المرعية الاجراء منذ القديم بعد اقامة الاحتفال الديني ويجري بالاقتراع السري فمن حاز أكثرية الأصوات يكون هو البطريرك للكرسي الأورشليمي· واذا تعادلت الأصوات في المنتخبين الثلاثة فصوت قائم مقام الكرسي يرجح احدهما فيتم الانتخاب·
"المادة العاشرة" الذين يدعون من المطارنة والأساقفة لتشكيل هيئة الانتخاب ولا يحضرون لا أصوات لهم ويجب أن يوافقوا على الانتخاب الواقع· وكل من حضر الانتخاب راهباً كان أو كاهناً يحق له أن يعطي صوتاً واحداً فقط·
"المادة الحادية عشرة" بعد اتمام أمر الانتخاب بالصورة المتقدم ذكرها ينظم استدعاء حسب العادة القديمة ويعرض للصدارة العظمى بواسطة المتصرفية· والمتصرفية عند وصول الفرمان من الباب العالي بتصديق الانتخاب وقبول البطريرك المنتخب تبلغ تعيين البطريرك رسمياً للجميع·
أما الأوصاف المطلوب توفرها في الشخص المنتخب بطريركاً فقد نصّت عليه المواد التالية وهي:
"المادة الثانية عشرة" الشخص المرشح للبطريركية يجب أن يكون سنه فوق الأربعين· وان يكون من الرهبان الحائزين على درجة الأسقفية أو ارشمندريتاً· ويكون قد أدار أسقفية مدة لا تقل عن عشر سنوات متوالية دون أن يحصل منه ما يوجب التعنيف أو التقبيح· وأن يكون هو ووالده من التبعة العثمانية·
"المادة الثالثة عشرة" المرشح للبطريركية يجب أن يكون باخلاق حسنة خالية من كل شبهة· وأن يكون ذا معرفة تامة بالعلوم اللاهوتية وبقوانين الكنيسة· مشهودًا له باحترام الطقوس والعقائد والمواد الدينية المتأكدة من تصرفاته السابقة· علاوة على ذلك بما أن المنتخب سيكون معيناً بطريركاً ورئيساً لادارة كنيسة أورشليم وتوابعها ومركزه يكون في نفس المدينة أورشليم لذلك يجب أن يكون ذا مقدرة تامة وحزم ليستطيع أن يحافظ في كل آن وزمان على حقوق طائفته وعلى سلامة المعتقد الأرثوذكسي الذي تتنازعه عوامل كثيرة· ويكون للجميع اباً شفوقاً وللكنائس والأديرة رئيساً مدبراً·
"المادة الرابعة عشرة" ان شخص البطريرك عدا عما يترتب عليه من الواجبات الروحية هو المفوض الأعلى لأجل تنفيذ نصوص الامتيازات الممنوحة للأرثوذكسيين في العهدة الصادرة من عمر الفاروق· وفي العُهد الممنوحة من محمد خان الفاتح والتي تأيدت من بقية السلاطين العظام· مع المواد المندرجة في فرمان عظمة السلطان الفائق القدرة المحتوي على جميع الامتيازات المصدقة· لذلك فالشخص المنتخب يجب أن يكون حائزاً على الصفات المدرجة في المادة السابقة· وفوق ذلك يقتضي أن يكون ذا أهلية ولياقة محرزًا الثقة والأمانة من الحكومة العالية التي توافق على انتخابه وتصدقه· وأن يكون مضطلعاً على قوانين الدولة ونظاماتها وحاصلاً على ثقة الملة واحترامها·
أما عن الأسقف وكيفية انتخابه وذكر ما يجب أن يكون متحلياً به من الصفات فقد جاء في نص المواد التالية:
"المادة الخامسة عشرة" المرشح للاسقفية يجب عليه (أ) أن يكون تبعه عثمانية اصلاً· وأن لا يكون قد تلوثت سمعته بأحكام مدنية أو طائفية· (ب) أن يكون ذا صفات لائقة وأخلاق رضية ويكون قد تربى في دار البطريركية أو في أحد الأديرة في أورشليم· وأن تكون له خدمات صادقة سابقة ولو لم يكن ارشمندريت أو برتبة بروتوسينكيلوس· (ج) أن يكون في السن المطلوب قانوناً تام الأعضاء البدنية واقفاً على المسائل الكنسية تمام الوقوف· مجرباً في الادارة الحسنة لرئاسة الأسقفية· (د) عداء عن اللغتين العربية واليونانية يجب عليه أن يكون مضطلعاً بقدر الامكان على اللغة التركية أيضاً·
"المادة السادسة عشرة" يصير انتخاب أسقف لأسقفية منحلة وتعيينه باقتراع وتنسيب من المجمع· وذلك بأن ينظم المجمع جدولاً بالأشخاص الذين يرى فيهم الأوصاف المطلوبة ويرشحهم للأسقفية وذلك برخصة من البطريرك· ثم من هؤلاء المرشحين يعين ثلاثة ممن يعرف عنهم الاقتدار وصدق الخدمة للكنيسة· ثم يذهب بهؤلاء الثلاثة إلى الكنيسة وبعد اقامة الطقوس المعينة والفروض المتبعة في مثل هذا الوقت يصير تعيين أحد هؤلاء المرشحين الثلاثة بواسطة الاقتراع للأسقفية المنحلّة واذا تساوت الأصوات فصوت البطريرك يرجح احدى الجهتين·
"المادة السابعة عشرة" عند وفاة أسقف ما يجري انتخاب خلفه بعد أن يرد اعراض من المدينة التي كانت مركزاً للأسقف المتوفى ويمضى من الرهبان أو الكهنة والأهالي المعتبرين في تلك المدينة·
وجد الوطنيون في القانون إجحافاً بحقوقهم: "ولا يخفى على كل ذي بصيرة ما في هذا القانون الرسمي من الإجحاف بحق المواطنين· (أولا) لأن أخوية القبر المقدس في انتخاب البطريرك قد حصرت الجلسة الترشيحية في المطارنة والأساقفة دون سواهم، فلم تُشرك الوطنيين بها، فيجلس هؤلاء فيها صماً بكماً لا صلاحية لهم أن ينبسوا ببنت شفة· (ثانيا) لأنها حصرت انتخاب أسقف الأبرشية المترملة في السينودس، فحرمت أبناء تلك الأبرشية من الاشتراك في انتخاب أسقفهم المزمع أن يكون راعياً لهم ويدير شؤونهم الروحية، فتكتفي من هؤلاء بتقديم مضبطة للبطريرك ومجمعه المقدس مصرحاً فيها بوفاة أسقفهم لا غير"(17)· بالرغم من تحفظات الوطنيين حول القانون فقد ظل في نظرهم، وبالنسبة لليونان وغيرهم من الأطراف المعنيه، وثيقة دستورية أساسية عاد إليها الفرقاء في خلافاتهم ·

horizontal rule


3 - الـبـطـريـرك ايـروثـيـوس 1875 - 1882:
انتُخب ايروثيوس بعد استقالة بروكوبيوس وصدور القانون، "وهو رئيس امطوش القبر المقدس في ازمير· وكان انتخابه قانونياً اشترك فيه الوطنيون حفاظاً على حقوقهم التي ضمنها لهم القانون، وخشية من انتقام الحكومة التي كانت تعتبر التمسك بقانونية البطريرك كيرلّس المتهم بميله لروسيا خيانة لها لا جدال فيها، ولا سيما مع تحفّز روسيا لمحاربة تركيا آنئذ لأجل استقلال امارات البلقان"(18)· وأعاد ايروثيوس تسجيل اسم البطريرك كيرلّس في الأخوية·
لم يقنع الشعب بالقانون الذي صدر، فهناك مطالب لم تُلَبّ:"ويظهر من وثيقة مستشهد بها فيما بعد أنه منذ ارتقائه إلى المنصب البطريركي، كان يراجعه ممثلو الشعب الوطني وكان لهم معه مباحث، ولم تنقطع الشكاوى إلى الباب العالي وإلى متصرفية القدس، ووضع الشعب الوطني كُرّاساً رفعه إلى الحكومة التركية ضمّنه ظلاماته· ولم نوفّق على الاطلاع على تلك الوثائق"(19)· وفي سبيل حل المشكلة وجّه البطريرك في 6/11/1875 إلى متصرف القدس كتاباً "لم يزل ينظر إليه النظر إلى الانعام بدستور ويسمونه في اليونانية >كتستاتيكون<(20)· وهذه الوثيقة عبارة عن تفسير للقانون ورد على مطالب الشعب، وهناك من يعدّها اضافة إلى المادة السادسة من قانون الانتخاب البطريركي(21)· وهذا نصها(22):
"لمقام متصرفية القدس الشريف العالي نمرو 107 حضرة سيدي صاحب العطوفة· صار الاطلاع على تحرير عطوفتكم المؤرخ في 12 رمضان سنة 1292 الموافق 28 أيلول سنة 1291 مالية المرقوم بنمرة 197 ومعه صورة الأوامر السامية للصدارة العظمى فتشرفنا بها وهي تتضمن الاستعلام عن سبب عدم ازالة الخلاف الواقع بيننا وبين الأهالي الروم الوطنيين الذين عرضوا شكواهم بهذا لمقام الصدارة العظمى ويتضمن كذلك الأوامر الكريمة من متصرفيتكم المؤرخة في 25 شعبان سنة 1292هـ أو 16 أيلول سنة 1291 مالية والمرقومة بنمرة 93 مع صورة المعروض المقدم لمقام متصرفيتكم سابقا من قبل الأهالي المذكورين بذلك الخصوص· فكما هو معلوم لدى مقامكم العالي أنه بعد ارتقاء الداعي لبطريركية الروم في القدس قُدّم لي من قبل وكلاء طائفة الروم الوطنيين بيان يحوي مطاليبهم وراجعوني بأمرها وتذاكرنا بها مراراً· فلكي نضع حداً لهذه الأمور المسببة التعب والتعجيزات للباب العالي ولمتصرفية القدس الشريف· ولأجل أن يحصل مسيحيونا على الراحة الدائمة قد قررنا حل هذه المشاكل مع الاحتفاظ بالامتيازات (أولا) الخصوصية الممنوحة لنا والمحسن بها للبطريركية على الصورة الآتية: بخصوص انتخاب البطريرك فقد وضعت مواد بهذا الخصوص مدرجة في النظامات التي وضعتها بطريركية القدس وصدقت بارادة عالية من حضرة صاحب التاج الملكي· أما بشأن جمعية الانتخابات وتفريق الأصوات فقد صار اضافة المادة السادسة في تلك النظامات المحسن بها بناء على الأمر التلغرافي السامي المنعم به من مقام الباب العالي المؤرخ في 30 نيسان سنة 1291 مالية (ثانيا) بخصوص انتخاب الأسقف أيضاً سيجري ذلك طبقا للأحكام التي وضعت في لائحة النظامات المذكورة وبموجب قوانين كنيستنا (ثالثا) أما بخصوص طلب الوطنيين أن يُسمح لمن أحب من أبنائهم الدخول في سلك الرهبنة ويحصل حسب أهليته على جميع الدرجات الكهنوتية ويصير له الحق بالدخول في عضوية السينودوس (المجمع المقدس) بموجب استحقاقه· فهذه كلها لم تمنع عن الوطنيين ولا في زمان قط ولن نمنعها عنهـم بشـرط أن يـحافظ الطالــب على الأنظـمـة والقـواعـد المرتبة في ديرنا (رابعا) سيصير تشكيل هيئة عمومية تحت رئاستي في القدس من الرهبان والكهنة والوطنيين ومن الأهالي الروم الوطنيين أنفسهم لتهتم وتعتني بادارة منظمة وترتيب حسن في مراقبة المصارفات· مع جميع ما يحتاج اليه من اللوازم للمدارس الموجودة في الابرشيات الروحانية للبطريركية في القدس ويستثنى من مراقبة واهتمام هذه الهيئة المدرسة اللاهوتية العليا الموجودة في دير المصلبة· وأيضا جميع المؤسسات الخيرية مع الأوقاف المختصة بها فتبقى كما كانت تحت ادارتي وسلطتي المطلقة· وكما هو معلوم أن المدرسة اللاهوتية المذكورة قد تأسست لتعليم وارشاد جميع أولاد ملة الروم بالأمور الروحانية· ومع ذلك سيصير قبول عدد كاف من الطلبة مع جميع أبناء طائفة الروم الموجودة في الأبرشيات التابعة لكرسي بطريركيتنا (خامسا) إن أساقفة الأبرشيات التابعة للبطريركية سوف لا تقطع زياراتها لأبرشياتها والاقامة في كل محل فيها في الأوقات التي يرونها مناسبة لكي يتفقدوا الأحوال وما تحتاجه الرعية من الأمور الدينية وغيرها· وسيصير انتخاب وكلاء من رجال الطائفة المعتبرين لأجل المخابرة والبحث مع الرئيس الروحي المحلي في شؤون الكنائس الموجودة ضمن الأبرشيات· ولكن يستثنى منها الكنائس المقدسة والمختصة بالزيارة (!!) أما الكنيسة الموجودة داخل دير يافا مع كنيسة اللد فلكونها لها عائدات تأتيها من الزوار (ومن أوقاف لها أيضاً) فيحق للوكلاء أن يأخذوا تحت ادارتهم واردات الكنيستين المذكورتين مستثنى منها الواردات والنذورات الآتية من الزوار· (!!!) وستشكل ادارات في كل المراكز الأولى من كل أبرشية بشرط أن تكون هذه تابعة للنظارة العمومية التي مركزها القدس لاجل مراقبة وادارة وحسن انتظام المدارس الموجودة في تلك الأبرشيات وجميع هذه الادارات يجب أن تكون تحت سلطة ونظارة الرئيس الروحي المحلي (سادساً) سيصير قبول جميع الزوار الذين يأتون من أطراف سوريا وفلسطين لزيارة الأماكن الشريفة في أورشليم· واضافتهم في الأديرة والمضافات المعينة كباقي الزوار· ويعتنى بهم تمام الاعتناء اذا هم جروا بموجب العوائد والترتيبات المتبعة عند ملة الروم·
إن هذه الترتيبات صار تفهيمها لوكلاء طائفة الروم في القدس· فان أظهر مسيحيونا الانقياد والطاعة اللازمة المطلوبة منهم نحو الهيئات الروحانية فأنا مستعد لمباشرة العمل على قدر الوسع والامكان واتمام ما مرّ ذكره بالطريقة المشروحة· فلكي يصدر أمركم ببيان هذه الأمور للوطنيين ولكي بعد أن يتفهموها بواسطة جنابكم الأفخم تعرضوها إلى المقام السامي في الباب العالي· تجاسرت بتقديم هذه العريضة· وبكل حال الأمر لمن له الأمر· في 15 رمضان سنة 1292هـ وفي 3 تشرين أول سنة 1291 مالية"·
الداعي مطابقا للاصل
ايروثيوس بطريق ملة الروم في القدس الشريف مجلس ادارة
وتوابعها القدس الشريف
موضع الختم

وعن كيفية صدور هذا المنشور هناك قصة طريفة يرويها قزاقيا! انتُخب فريقان من الرهبان والوطنيين، واجتمعا في لجنة توصلت إلى حلّ يرضي الطرفين، "وهذا الحل نُظم منشوراً موافقاً لمرغوب الوطنيين، وأُرسل به إلى جميع كنائس الكرسي الأورشليمي مطبوعاً"(23) · وهنا يدعي الوطنيون أن المنشور المتفق عليه غير الذي قُدّمَ إلى متصرف القدس· إذ إن المنشور بعد طبعه وتوزيعه، قام الرهبان بجمعه من جديد من ايدي المواطنين واتلفَت نسخه· وقدّم البطريرك نصاً محرفاً للحكومة في ست مواد، "وهي ما شاهدناها مدوّنة في بيانه الذي قدمه لمتصرفية القدس وقد أتينا على نصه· ومما يؤكد صحة نظرنا، هو أنه للآن موجود في أيدي بعض ذوات الطائفة نسخ من البيان المحرّف الذي نشره البطريرك ايروثيوس المار ذكره، وهي كما ذكرنا مأخوذة فوتوغرافيا عن صورتها التركية والجميع محتفظون بها· وأما صورة المنشور الأصلي الذي طبع وأمضي من الهيئتين اللتين تمثلان الرهبان والشعب فلا أثر لها·"(42)·
لا يذكر برترام قصة التحريف والتزوير هذه، بل يمتدح الأفكار التي طرحها منشور ايروثيوس، ولكنه بعد نصف قرن من هذه الأحداث (سنة 1925) يؤكد: "والمؤسف من أمر هذه التصريحات أنها لم يُعمَل بها في وجه قط"(25)·
وعلى كل حال فقد كان لصدور المنشور مفعول السحر، ويبدو أن السلام عاد يخيم على البطريركية الأورشليمية ، ففي 13/12/1875، أبلغ القنصل الروسي كوزيفنيكوف، الذي أعيد إلى القدس بعد نقله إلى دمشق مؤقتاً، بأن "الصلح تمّ أمس بين العرب والبطريرك بحضور المتصرف"(26)·
أدت الأزمة التي حلّت ببطريركية القدس إلى انقطاع المساعدات المالية الروسية، وجُمّدت واردات الأوقاف، فأغلقت المدارس ومعهد دير الصليب والمستشفى والمستوصف· وأعيد فتحها سنة 1876 بعد أن سمح القيصر بصرف ثلاثة أخماس الأموال المجمدة للبطريركية من واردات بصربيا، وفي سنة 1881 صُرفت بقية أموال أوقاف بصربيا وكامل واردات أموال القوقاز، وتدفقت الحسنات والوقفيات من جديد على الكرسي الأورشليمي، فعادت مدارسه ومؤسساته إلى سابق عهدها·
قوي نفوذ البطريرك في آخر فترة حكمه، وخشي الرهبان أن يكون مجمل القوانين والتطورات التي مر ذكرها ملزمة لهم ومضرة في مصالحهم، فنظموا مجموعة قوانين داخلية موازية لقانون البطريركية سنة 1882 مؤلفة من 175 مادة، "وصدقوها هم أنفسهم وأقسم كل منهم على تطبيقها والسير بموجبها"(27)· وفي السـنة عـينها في 11 حزيران كبا جواد البطريرك وهو في طريقه إلى دير الصليب، فسقط ولزم فراشه حتى قضى نحبه· أما قوانين الأخوية فظلت عقيمة دون فائدة تُذكر·

horizontal rule


4 - الـبـطريـرك نـيقـوذيمـوس 1882 - 1890:
انتُخب بعد وفاة ايروثيوس رئيس كتبة المجمع المقدس فوتيوس حسب أنظمة 1875· وكان عدواً لدوداً للروس، ولم يبلغ بعد السن القانوني أي أربعين عاماً ليتولى المنصب البطريركي· فلاقى انتخابه معارضة مزدوجة في فلسطين وخارجها: فاعترض على انتخابه مطران بيت لحم انثيموس، "لما كان بينه وبين فوتيوس من المنافسات والبغضاء، لأن فوتيوس كان في السابق قد سعى بانثيموس فنُفي إلى دير مار سابا، فاعترض على انتخابه لأنه لم يكن قد بلغ سن الأربعين، وهو السن الذي يجب أن يكون قد بلغه المنُتخب حسب القانون الذي ذكرناه، وأما فوتيوس فلم يكن قد تجاوز الثامنة والثلاثين من عمره ··· وعليه أمرت الحكومة بإعادة انتخابه"(28)· ففاز نيقوذيموس بالانتخاب، ونُصّب بطريركاً على القدس· ولكن ظل جراسيموس بطريرك أنطاكية وعضو الأخوية يأمل في أن يرتقي يوماً ما الكرسي الأورشليمي· ومن ناحية أخرى، أثقل نيقوذيموس ميزانية الأخوية بالديون، على الرغم من تلقيه مساعدات قيّمة من روسيا، لتوسعه في المشاريع العمرانية(29)· وفي هذا الجو المشحون بين الأخوية والبطريرك تعرّض الأخير لمحاولة اغتيال على يد أحد رهبانه· ففي نيسان 1888، أثناء تكريسه لكنيسة مار يوحنا في غور الأردن، "أطلق غلكيتون عليه عياراً نارياً أصاب مؤخر ذراعه فأسال دمه ولم يمسّه ضرر يُذْكَر· فحُكِمَ على الراهب المذكور بالسجن، وكان يلوم نفسه لأن سهمه طاش"(30)· وأقفلت الأخوية مدرسة دير الصليب، "بدعوى ضيق المالية نكاية بالبطريرك"(31)، وأدّى الحادث إلى تدهور صحته وحدة طباعه(32)·
فرض السنودس المقدس في آب 1890 على البطريرك تقديم استقالته، واتهمه بأنه مجرد أداة طيعة بيد الجمعية الإمبراطورية، ويعمل على دمار استقلال الكنيسة الرومية وتسليم الأماكن المقدسة تدريجاً للروس، ولكن الاستقالة لم تتم بالطرق المتعارف عليها، بل بطريقة غريبة حسب رواية قزاقيا: "ارسلوا اليه وفداً يمثل جميع هيئة الرهبنة، مؤلفاً من مطرانين وثلاثة ارشمندريتية، وأخذوا معه في الخصام عازمين أن يضطروه إلى تغيير خطته معهم، وقد أدّى روح الفساد الناطق بأفواههم إلى أن أجابوه بذلك الجواب الفظيع، إذ قالوا له إنك انت نظراً لأنك مريض لا يمكنك أن تخالط العالم· فلا يحق لك أن تمنعنا عن ذلك ··· فخرج البطريرك نيقوذيموس عن صوابه لدى سماعه تلك الفضائح، وقال لهم: إنكم إن لم تصلحوا سلوككم وجميع تصرفاتكم فإني مستقيل· وكان جوابه هذا لهم خطياً· فأخذ الرهبان المحترمون ذلك الجواب الخطي ذريعة لإسقاط البطريرك مدعين بأنه بذلك إنما قد قدم استقالته رسمياً، وبلغوه أنهم يحسبونه مستقيلاً رضي أم لم يرضَ، ولكن إذا هو استعمل اللين ورضي بالإستقالة فإنهم يتكفلون له بتقديم راتب سنوي قيمته سبعمائة ليرة افرنسية· فاضطر إلى الرضوخ لقوتهم الشريرة"(33)· وقضى البطريرك المستقيل بقية حياته في دير مار جرجس في جزيرة خالكي - جزيرة الأمراء - في إسطنبول، وتوفي في شباط 1910 عن عمر يناهز الثالثة والثمانين عاماً·

horizontal rule


5 - الـبـطريـرك جـراسـيـمـوس 1891 - 1897:
تلقى جراسيموس دراسته في مدرسة الـمُصلبة وجامعة اثينا، ثم علّم في مدرسة الـمُصلبة ست سنوات· ورفعه كيرلّس الثاني إلى درجة أرشمندريت ثم رئيس أساقفة فيلادلفيا· ورقاه ايروثيوس إلى منصب متروبوليت بيسان· ومثّل بطريركية القدس في إسطنبول، ثم بعثه نيقوذيموس سنة 1885 لمقاومة النشاط الكاثوليكي والبروتستنتي في شرق الأردن، ثم عُيّن بطريركاً على أنطاكيا، ومن هناك دعي لمنصب بطريرك القدس سنة 1891(34)، " بسعي أعوانه من أخوية القبر المقدس"(35)· وتمّ انتخابه حسب قانون 1875 بثلاث جلسات متوالية· وفي أثناء حكمه "لم يدع للوطنيين سبيلاً للنهوض والمطالبة بالحقوق، لأنه بدهائه تمكن ارضاء العموم من الشعب في شخص متنفذيهم والإكليروس"(36)· ولما طالبه الوطنيون بتنفيذ ما جاء في منشور البطريرك ايروثيوس "اجابهم ببرودة وقلة اكتراث: "إن منشور البطريرك ايروثيوس دُفن معه"(37)· وتوفي على أثر مرض عضال سنة 1897·
في عام 1893 صدر في بيروت في عهد نيقوذيموس كتاب >لمحة تاريخية في أخوية القبر المقدس اليونانية<، واسم الكاتب المستعار >عبد الأحد الشافي<، واسمه الحقيقي >سليم ميخائيل شحاده< (1848 - 1907)(38)· وكان معلماً ورئيس مدرسة بيروت الأرثوذكسية· وطُبع الكتاب مرة ثانية سنة 1908، بعد صدور الدستور العثماني، وأضاف اليه المؤلف تذييلاً، ذكر فيه أن اسمه >جرجس عبدالله العيسى<(39) (40)· ويُحْتَمل أن روسيا موّلت طباعته ونشره(41)· وقد منع البطاركة المؤمنين من تداول الكتاب وحُرّمت قراءته، مما زاد في انتشاره، وأعيدت طباعته عدة مرات· فالكتاب يقع في ستة أبواب، ويهاجم أخوية القبر المقدس واغتصابها الكرسي البطريركي الأورشليمي، ويؤكد عروبة البطريركية قبل القرن السادس عشر(42)· ويسلّط الكتاب الضوء على نقاط تُعد في غاية الأهمية في الشرق، فيطعن في اخلاق الرهبان ومواقفهم الأدبية (43)، وتعلق الرهبان بالمال(44)· وردّ الكُتّاب اليونان في مناسبات عديدة على التهم الموجهة إليهم(45)· ويؤكد بول ديبليسان (Paul Deplaissan) أن الدبلوماسية الروسية وراء كتاب اللمحة التاريخية، إذْ سعى الروس إلى تشويه صورة الإكليروس اليوناني في نظر العرب تمهيداًً لطردهم من البطريركية الأنطاكية(46)· فغدا وضع الإكليروس اليوناني في البطريركيتين السورية والفلسطينية متردياً وتحت رحمة الروس،"أخذت محبة الأماكن المقدسة تخبو في أفئدة الإكليروس اليوناني وقد قلّت مواردهم المالية وأضحوا غير مطمئنين إلى مستقبلهم، فلا يرون بعد البطريركيتين الفلسطينية والسورية أرضاً تدر لبناً وعسلاً، فقلّ عددهم بمرور الأيام ··· وشرعت روسيا تستبدلهم بأشخاص موالين لها من رجال الإكليروس - الموظفين الأوفياء للقيصر، وتدفع لهم رواتب مغرية"(47)· وانتصرت روسيا نصراً مبيناً في تعريب البطريركية الأنطاكية وتنصيب أول بطريرك عربي عليها·

horizontal rule


6 - تـعـريب الـبـطـريـركـيـة الأنـطاكــيـة:
غذّى الروس من خلال عملائهم وقناصلهم ومدارسهم الشعور القومي العربي، وغدا استقلال كنيستي بلاد اليونان والبلغار مثلاً يحتذى به في الكنائس الأرثوذكسية التي تخضع لحكم الإكليروس اليوناني الكنسي: فأخوية القبر المقدس تحكم البطريركيتين الأنطاكية والأورشليمية، ولكن في البطريركية الأورشليمية بات واضحاً لدى روسيا أن المساس بحقوق الإكليروس اليوناني ليس سهلاً، فالقدس معقل الأخوية المنيع، وقد لمس ذلك الروس في قضية عزل البطريرك كيرلّس وصدور قانون البطريركية سنة 1875· ولذا ركّز الروس جهودهم هذه المرة في سوريا· وكتاب >لمحة تاريخية< يؤكد نية روسيا الخفية في تصفية الوجود اليوناني في سوريا وتعريب البطريركية الأنطاكية·
وفي سنة 1885 استوى جراسيموس على العرش الأنطاكي وبقي حتى سنة 1891، ثم تنازل عنه ليعتلي العرش الأورشليمي، وانتُخب سبيريديون بطريركياً على الكرسي الأنطاكي، وهو يوناني وعضو في أخوية القبر المقدس· فقاومه العرب واتهموه بالتصرف بأموال البطريركية بطرق غير شرعية، ووصلت القطيعة إلى حد إقامة الصلوات خارج الكنائس في باحاتها، ودفن الموتى دون الصلاة على رفاتهم(48)· وقدم سبيريديون عدة تنازلات للعرب دونما نتيجة· وفي سنة 1893 نقل الروس بالييف (Balyaev) سكرتير القنصلية الروسية في القدس إلى دمشق، وهو خبير بالشؤون العربية الأرثوذكسية، وله اتصالات واسعة في الوسط العربي(49)· من جهة أخرى تبنّت الجميعة الإمبراطورية المدارس في البطريركية الأنطاكية سنة 1896، فصار الوضع بصفة عامة ليس لصالح الإكليروس اليوناني· أمّا القشة التي قصمت ظهر البعير في سوريا وكشفت النيات الحقيقية لأطراف الصراع واتُخذت حجة لعزل سبيريديون، فهي قضية طلاق بتّ فيها البطريرك باطلاً، فأعلن السنودس وغالبيته من العرب إقالة سبيريديون· وتفاقمت قضية الإقالة مدة سنتين، واشترك في حيثياتها من تعيينات وإقالات وتداخلات القنصل الروسي في دمشق والسفير الروسي في الأستانة والباب العالي وبطريركية القدس· وثبت العرب على اختيارهم على الرغم من الضغط الذي مارسته الأستانة والعناصر اليونانية، وتمّ انتخاب مليتيوس دمياني(50) أسقف اللاذقية بطريركاً للعرش الانطاكي، "نُصّبَ ميليتيوس بطريركاً في 13/11/1899 بحضور الأساقفة العرب والقنصل الروسي وطاقم القنصلية، وكان بالييف أول من تناول القربان من يد البطريرك في القداس، وفي المساء تناول بالييف العشاء برفقة البطريرك وأساقفته"(51)·
لم يعترف بطاركة الفنار والقدس والإسكندرية بالبطريرك العربي، ورفضوا مبادلته رسائل السلام التي بعثها لهم، بينما اعترفت به كنائس روسيا وصربيا ورومانيا· وكان على البطريرك الجديد الذي ثبّته العثمانيون في منصبه، أن يحصل على زيت التكريس الخاص لتتويج البطاركة سنة 1900 من موسكو(52)·

horizontal rule


خــاتــمــــــــة
يمّثل الربع الأخير من القرن التاسع عشر أول حلقات الصراع العربي - اليوناني في البطريركية الأورشليمية والأنطاكية· فبعد خلع كيرلّس تحرك الشعور القومي العربي الأرثوذكسي، وأخذ العرب يتطلعون إلى أخذ حقوقهم الكنسية التي فقدوها في القرون الماضية· وحصيلة خلع كيرلّس كان صدور القانون الأساسي للبطريركية الأورشليمية سنة 1875· والقانون سلاح بيد العرب واليونان· رفعه العرب بوجه اليونان لاسترجاع حقوقهم المهضومة، واستعان به اليونان لتثبيت امتيازاتهم وحقوقهم التي كرستها العصور الطويلة· فكان القانون موضع جدل بينهما، وخصوصاً في عصر البطريرك ذاميانوس، واستبدل الروس صيغة وجودهم ونفوذهم في الشرق: فاندثرت الوكالة الفلسطينية وتلاشت الإرسالية الكنسية الروسية أمام مؤسسة جبارة عظيمة الامكانات، هي الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الأرثوذكسية· وتمتعت الجمعية برعاية القياصرة الشخصية، فعملت بين الأرثوذكس السوريين والفلسطينيين دون التقيّد بالمحاذير التقليدية حول صلاحيات البطاركة المحلية، التي حاولت الإرساليات الروسية المتعاقبة الحفاظ عليها أو عدم مسّها مباشرة·

الفهرست

غلاف الكتاب