"يوم للســلام والصــلاة"

 من نافذةٍ تطلُّ على ميدانِ القديسِ بطرس، و في نهارٍ باردٍ صادفَ الرابعَ والعشرينَ من شهرِ شــباطَ، أطل شيخٌ جليلٌ تجاوز الثانيةَ والثـمانينَ عاماً من عمرهِ هو قداسةُ البابا يوحنا بولس الثاني على الجماهيرِ الغفيرةِ وخاطبهم متألماً، ومختصراً لوضع العالم الراهن بقوله :

"اشعرُ بالقلقِ من سقوطِ العالِم رهينةً لمنطقِ الحربِ، كذلك فان شنَّ حربٍ على العراق يشكلُ جريمةً بحق الإنسانية بأجمعها" ومعلناً قداستهُ للعالم اجمع اعتبارَ الخامسَ من آذار يوماً للسلام والصلاة.

إنها صرخةٌ تؤججُ ضمائرَ قوى الخيِر للتحركِ بسرعةٍ لوقفِ الأهوالِ والبلايا والأوجاع المتوقعة وهي نداء لكي ينتصر الخير على الشر و يسود العدل.

لقد رأى قداسته الشر ضارباً اطنابه في سائر أنحاء العالم، ورأى اضطرابات إنسان اليوم وحيرته وتشاؤمه وذعره... الذي يقوده إلى اليأس في خضم الأعاصيرِ التي تعصف به فنظر إليه نظرةً واقعية تنم عن عقل كبيرٍ وذكاءٍ حادٍ لا نظرةَ خيالٍ وعاطفة. وقدَّرَ أن انتصارَ الخيِر على الشرِ ممكن بالمحبة التي تستر جميع الذنوب، فالبغضاءُ تثير الخصومات ومن يجازي خيراً بشرٍ  لن يبرح الشر من بيته كما يقول "داود".

ومن هنا وعلى قاعدةِ ان أية فضيلة لا يكون لها معنى إن لم تحملَ طابعَ المحبةِ والتسامحِ، كانت  أسفار وأقوال وأعمال الحبر الأعظم. فمحبة الإنسان لأخيه الإنسانِ دونِ الالتفات إلى دينه وعقيدته ولونه تفتح مملكة القلوب لإذاعةِ الحق والعدل.

يقول الكاتب الفرنسي مكسانس : "المحبةُ الحقيقيةُ أن لا نتوقف عند عيوب الآخر ونواقصهِوخشونةِ طبعهِ بل نتخطاها وننظر فيه أخاً، وهذا لا يتأتـّى إلا إذا انحدرنا من كبريائنا وأنانيتنا وتغيير ذواتنا قلباً و قالباً.

وهذا ما نرجوه، انها قفزة من الظاهر إلى الجوهرِ فالمحبةُ لا تفرحُ بالظلمِ بل تفرحُ بالحقِالمحبةُ تتأنى وترفقوالمحبةُ لا تأتى قباحة ولا تظن السوء كما يقول بولس الرسول.

وتأتى دعوةُ قداستهِ للصلاةِ من اجلِ السلامِ في الخامسِ من آذارَ ٢٠٠٣ لترفع النفوس إلى الله القدير، الابتهالات وهو ارتفاع عن العالم وأجوائه وأفكاره وهو مثول أمام العلي طلباً لانواره لينشرها على العالم ذلك أن اللجوء إلى الله خير من الاعتماد على البشر، ولا  توجد دمعة يعسر على الصلاة تجفيفها أو مسحها.

يَقولُ قداسَتهُ في أحدِ مؤلفاتهِ :

" إنني على إعجابٍ و تقديرٍ لأمانةِ المسلمِ على الصلاةِ يجثو على ركبتيه غير آبهٍ بالزمانِ أو بالمكانِ مستغرقاً في الصلاةِ مراتٍ عديدةٍ في النهارِ إنها صورةٌ تبقى أنموذجاً لمن يعترفونَ باللهِ الحق. "

إن أنبل غاياتِ القوة تحرير الإنسان من الخوف و تحقيق حريته وعدالته وكرامته ورفع الظلم عنه فهل هذا متحقق في عالمنا ؟ يُحَذرُنا المعري :

 

لا شيءَ في الجوِ وآفاقِهِ          أصعد من دعوةِ مظلومِ

 

لقد طال شوق الشعوبِ على مدى الأزمنة ان تتحققَ نبوءةُ أشعياء بان يحل السلامُ، يومَ "يطبعون سيوفهم سِككاً ورماحهم مناجل فلا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فيما بعد."

 

horizontal rule

 

" مرثاة راشـيـل ... "

 تركت راشيلُ مدينة أولمبيا حيثُ الأهلُ والأصدقاءُ، وهجرت جمالَ الحياةَ وراحتها، وأسباب التنعم فيها وقررت أن تتجردَ من حبِّ الذَّات، بعد أن تأملت وتبحَّرَت في أحداثٍ جسامٍ تجري لأطفالٍ ونساءٍ وآباءٍ في مكان بعيدٍ جداً عن مدينتها، لكنه قريب من وجدانها فكانت وجهتها مدينة " رفح " حيثُ سقطَ الحق وارتدَّ الإنصافُ ووقف العدل لم تحمل حجراً أو خنجراً أو آلةَ حربٍ فهي أولاً وأخيراً " ناشطةَ سلامٍ " بل حملت توقاً باطنياً لفعلِ الخيرِ، وقلباً ينبض بالمحبة، ولساناً يقول للأبرياء : لستم وحدكم نحن معكم!

جاءت لتنظر البؤس، ولتمسح دموع الحزانـى، وتمحو الضرر ما استطاعت الى ذلك سبيلا بصحبة رفاق من حركة التضامن العالمية من أجل السلام.

ولقد كان المسرح مٌعّداً لراشيل الطالبة الجامعية الأمريكية يوم ١٧/٣/٢٠٠٣ ولكن على عكس ما توقعت... فإبليس هو بطل الحلبة، والمعركة قائمة لا محالةَ، لا هوادة فيها ولا شفقة فالحق ضائع والشر يحرك الأحداث أما جو المأساة فهو صراع بين الظلمة والنور. وبكل جرأة وشجاعة وبذل ذات وبشاشة وجه، تحركت بجسدها لتصد جرافة عسكرية إسرائيلية عن هدم بيت للسكن، أمام دموع تترقرق من عيون أصحابه من جانب، ومن جانب آخر أمام إنسانية شبه عمياء إذ ساد الظلم وولّى السلام وحلَّ البلبال محل النظام، وأمام عنف يقابله لا عنف تسقط راشيل ناشطة السلام بين الركام... لتصعد أنفاسها شاكيةً جورَ الزمان وأهل الزمان ويستصرخ دمها النبيل العالم للنهوض من الكبوة والسبات والظلمة، للانتصار للمبادئ الإنسانية قبل أن تبتلعهم قوى الدمار والشر، وأمام هذا المشهد المؤلم تصبح الحضارة العالمية الأخلاقية في خطر

إن من يتأمل فاجعة راشيل يكتشف في أعماقها رسالة هامة، وهي أن جدار العداوات القائم بين بعض الدول لأسباب أو دون أسباب... لا يمثل حقيقة ما يختلج في قلوب الشعوب المؤمنة بالعدل والحق والتسامح!

يقول أحد المفكرين:" السر في الحياة أن يجد المرء الحقيقة اعظم من ذاته وان يكرس ذاته لخدمتها فالكيان هو الحياة والحياة هي المحبة."

راشيل أي قدر اخترته وأية ميتة شئت أن تكون من نصيبك لقد اقتلعتك عاصفة من شر يا من هجرت من أجل فعل الخير وليس القول فقط، اهلك وكتبك وصباك والأهواء راشيل أنت كالخميرة الصغيرةوالخميرة الصغيرة تفعل فعلها فتخمر العجين كله.

قبل هذه التضحية لم نكن نعرف راشيل... والآن أصبحنا والعالم نعرفها...

وأرجو العفو إن رددت مع الشاعر:

أرحت بالك من دنيا بلا خلق          أليس؟ والموت أقصى راحة البال
 

horizontal rule

 

" الصمت زين والسكوت سلامة... "

يقول الأنبا أرسانيوس:

"كثيراً ما تكلمت وندمت، وأما عن السكوت فما ندمت قط."

حسن للإنسان أن ينقي النفس بالصمت، وأن لا ينفق أوقاته في الأحاديث الفارغة الباطلة، التي تزرع في النفس والمجتمع اليأس والقنوط. ذلك أن الذين يقومون بهذه الأمور هم جماعة مغلوبون على أمرهم، يعبثون بالاستقامة والصدق، من خلال ما تصدره ألسنتهم الجارحة من أقاويل نمامة!

بلى فمن الناس من هم مشغوفون بحب القال والقيل، والأحاديث الباطلة ساعون نحو الشهرة والأمجاد، بلسان متملق متزلف، ثم ماذا يجني المرء من التحدث مع هؤلاء الأنفار ليجهد أفكاره بمناقشات ليست ذات معنى... ويشغل قلبه بأمور لا تعنيه، فينساق إلى محبي التعيـيـر والمماحكة، بدلاً من أن يصرف وقته في كسب أوده اليومي بعرق جبينه...

فإذا كانت كثرة الكلام بسبب أو دون سبب أمراً مؤلماً، فإن الصمت هو فضيلة، إذ أنه يرفع الإنسان من الأعماق إلى الأعالي، معلماً صاحبه التأمل من خلال الصمت. والسكوت بمعرفة يهذب العقل، من حيث أنه يعلـّم الإنسان أن يفكر في أي أمر قبل أن يقدم عليه، فضبط الأفكار، وإتقان السكوت يحفظان الذات من الضلال...

إن الصمت والتواضع متلازمان، فلنحرص على الصمت بفرح عالمين أن وراء الصمت بركة وخيراً. كما أن الصمت يكشف بواطن الأمور، وبتغلب الإنسان على لسانه يتطهر العقل، ويتعالى عن الرياء والكذب، وعن النفاق الوجيز الأمد، القصير الأجل. وعليه فإن شئت أن تجد راحة وسعادة في هذه الدنيا، فاهرب من كثرة الكلام الباطل، واجتنب الثرثرة والشتم والتفاخر، فلا ينطلق لسانك بالانتقادات والشتائم. ولقد قيل "من يريد أن يضبط لسانه فليسد أذنيه لئلا يسمع كثيراً..." وصدق الشاعر القائل :

 

الصمت زين والسكوت سلامة             فإذا نطقت فـلا تـكـن مـكـثـارا

ما ان ندمت على سكوتي مرة              ولكم ندمت على الكلام مرارا

 

**********

 

جاء في الأمثال :  "الأفـواه الـمـقـفـلـة لا يـدخـلـهـا الـتـراب..."
 

horizontal rule

 

" الــعــالم مــحــبــة "

لم تعرف الشعوب على مدى التاريخ تضامناً أو تآلفاً شكـّلا حواراً عفوياً أو استفتاءً ولمختلف الشرائح الاجتماعية لرفض الظلم والإجحاف ولفتح باب التعقل والحوار والتفاهم لحل الأزمات كالذي يجري الآن...

لقد برهنت هذه الشعوب ومن خلفها قادة حكماء عن مقدرتها على التوصل إلى الأعماق الروحية لكل فرد متعطش إلى الحرية، ظامئ إلى الكرامة ومخاطبة الإنسان كإنسان... حيث سيسجل التاريخ أن قوى الشر وأخصام السلام ومن يحاول تهديم إنجازات هذا العالم قد خابت مساعيهم وأحبطت آمالهم.

لقد انفتح القلب والعقل فكان طوفان الجماهير بتجاذب وانسجام وتناسق في كافة أصقاع العالم، تجمعهم عدالة الروح وأماني الأمان والسلام لأبنائهم. حيث هوت نظريات التفريق والفرقة وهواة صب الزيت على النار فتآلفت القلوب يداً بيد وكتفاً بكتف إذ تعاضد المسلم والمسيحي ومن حولهم  أتباع التعاليم البوذية والهندوسية والكنفوشية والزرادشتية وغيرها لما فيها جميعاً من نبل وتسام رائع من أجل منع وقوع الحرب على العراق...

إنها الإنسانية متحدة تنبذ الشر والعنصريات المدمرة، فقد تساوى الكل تجمعهم المحبة التي تساوي الإنسان بالإنسان تحت مظلة رؤيا الكل في هذا الإنسان... فأبطلت مشاعرهم الصادقة الحكم الذي كان يطلقه البعض على البعض... إذا سقطت الفواصل أمام الخطر المحدق بالمبادئ الإنسانية السامية فكان المطلب: أن لا غلبة للقوة على الحق. وأن هناك دائماً ومضات خير حتى عند أسوأ الأشرار كما يقول الفيلسوف برتراند راسل "إن الطيبين يتصرفون دائماً بوحي دوافعهم الخيرة أما الأشرار حتى أسوأهم لا يخلون من ومضات الخير."

إن صراع المصالح في عالم اليوم يجب ألا يكون على أساس الشقاء والتدمير والمتاجرة بأعصاب وأرزاق البشر من أجل خيرات زمنية!

فأفراح ومسرات هذا العالم هي أضغاث أحلام فلا الشهرة ولا الثروات المجموعة تساوي شيئاً أمام فرح وبسمة طفل وأمان مستقبله وأهله.

horizontal rule


                       "لم تجد الحمامة مستقراً  لرِجـْلـِها..فعادت إلى الفـُلـك..."

 من الجليِّ والواضحِ، أن الوضعَ العالمي يبدو وكأنه ينساقُ بسرعة إلى صراعٍ واسع النطاق، بعد أن فرضت عنوة الحرب ( الملحمة) والتي لا تزال دائرة الرّحى وبكل مظاهرها الرهيبة على العراق الأبي. حيث يشعر الكلُّ بالغيظ والحنقِ والألمِ لهذه الهجمةِ الشرسة، والتي تشنّها قواتُ التحالفِ والتي اعتبرت نفسها " السلطةَ المطلقةَ غير المحدودة على وجه الكرةِ الأرضيةِ " بدليلِ الخروجِ عن القانونِ الدوليِّ وميثاقِ الأممِ المتحدة وإدارة الظهر لكافة المعاهدات الدولية وإغلاق قنوات الحوار والتفاهم

إن دعاة ما يسمى بالنظامِ العالميِّ الجديدِ وإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط، بما يخدم أجنداتهم  ومصالحهم ومخططاتهم لن ينعموا بنحو حتمي بنفوذ كبير وراحة بال فالعقلية العربية والتي صارت مشبّعة من كلمات:حربدم اعتداء... مستعدة ذهنياً وعقلياً حتى لأسوأ الاحتمالات لأيمانها المطلق أن أي صراعٍ بين القوى الوطنية وبين أي قوى غازية، لا بد للقوى الوطنية فيه أن تكون المنتصرة. ذلك أن الاعتبارات الوطنية هي فوق كل اعتبارٍ، ومن هنا فان أي احتلالٍ أو اعتداءٍ وان طال الوقت مقضي عليه بالزوال لا محالة!

لقد فتحَ العراقيون ديارهم للعالم أجمع، ولفرق وخبراء التفتيش الدوليين بشكل خاص... وكان في ميسورهم التنقل والتدقيق والتمحيص بحرية كاملة وحيث رغبوا، للكشف عن أي أسلحة كيماوية، أو أسلحة دمار شامل وعلى عكس من خطط لهم وضغط عليهمما شاءوا أن يخسروا ضمائرهم وحريتهم بالمساعدة في استبعاد الآخرين! ولأيمانهم أن التعدي ليس افضل من العدالة، كانت تقاريرهم بمجملها مطابقة لواقع الحال بعدم توفر هذه الأسلحة فتم سحبهم بأقصى سرعة ممكنة... وإخراس نداءات التعقل والتروي والحكمة، وإيقاف أية فرصة ليصل غصن الزيتون حاملا بشرى الخير مع الوسطاء أصحاب النوايا الحسنة والعقول الراجحة.

عندما أطلق نوح الحمامة من الفلك يوم الطوفان العظيم عادت إذ لم تجد موطنا أو مستقرا لرجلها فالطوفان لم ينحسر لا بل كان على اشدهفأطلقها مجددا فعادت إليه الحمامة وقت المساء وفي فمها ورقة زيتون خضراء!!

وفي خضم هذا الطوفان الدموي، والذي يخجل التاريخ من تدوين أسبابه وحوادثه وحكاياته المظلمة نقول أن الحزن الذي اقتحم قلوبنا لكارثة ١١/ سبتمبر وما كان بالمستطاع فعل شئ آنذاك لوقف ذلك المشهد المروع، واعتبرناه وصمة في جبين الأخلاق فإننا نستصرخ بأمل وإيمان الضمير العالمي بوقف شلال الدم وتضميد الجراح على الفور في العراق الشقيق. إن تصرفاً كهذا هو قمة الشجاعة والحكمة والنبل، وهو ليس عيباً أو عاراً ولا تراجعاً، ولا هو بالضعف أو الهزيمة، بل هو راحة للضمير الذي لا يرتاح لآلام الآخرين... وهو سكينة للنفس، واستجابة للدماء الصارخة طالبة عدالة السماء، فلقد ارتوت الأرض دماءً وأشبع الفضاء ناراً وكبريتاً. ويجيء هذا النداء لأننا تعلمنا في أردننا الحبيب وتحت راية الهاشميين الشرفاء أن الغلبة دائما للرحمة لا للقسوة وللمغفرة لا للتشفي وللوداعة لا للغطرسة

وجدير بنا وعيوننا تنظر هذه الكارثة الدموية على ارض العراق الشقيق، أن لا ننسى الزفرات والأنات التي تتعالى ليل نهار من المتألمين والمعذبين والبائسين على الأرض الفلسطينية لتعود لهم طمأنينتهم وعدالتهم.

ونستذكر أخيراً مقولة غاندي "الإنسان  الهادئ الذي هزم الجبابرة بحكمته" عشية الحرب ٨/٩/١٩٤٢ "يجب علينا أن ننظر إلى العالم بعينين هادئتين صافيتين حتى ولو كانت عينا العالم محتقنتين اليوم بالدم..."

 

horizontal rule

 

" فلقد أرقت اليوم من جفني دماً "

"رثائية طارق أيوب"

كيف نشأت هذه الزهرة، وعلى أي درب خيرٍ نبتت، وبماء أية سحابة سقيت، فأينعت، ففاضت، بهذا الأريج العطر بهذه الشهادة والتضحية.

لم يكن الموت يوماً من الأيام إلا انتقالاً من مكان إلى مكان، ومن وطن إلى وطن، ومن مقام دنيوي إلى عالم أرحب لا ظلم فيه ولا بؤس ولا شقاء

وإذا كانت المحبة لا تَعظـُم إلا إذا بنيت على أساس من البذل والعطاء والتضحية، يتوجه طارق أيوب إلى ساحة المعركة على أرض العراق الأبي بشجاعةٍ وجرأةٍ، ليكون صوتاً ومنبراً للحق وشاهداً وموثقاً لما يجري من أحداث ولساناً لإذاعة الوقائع بأمانة وصحفياً لم يحترف الصحافة كمورد رزق فحسب بل كانت في نظره نافذةً يتطلع من خلالها كل ساعٍ للحقيقة والنور.

لم تكن الحرب في يوم من الأيام علاجاً لأي نزاعٍ أو خلاف ولا مجال لحسابات الربح والخسارة فيها أصلاً، كما أن رصيد الربح والخسارة لا يكون إلا بما تتوق إليه النفس من عمق أعماقها سلاماً وبركة وفعل خير للإنسان!

يقول شاعر إسباني: " أولئك الذين ربحوا كل شيء وخسروا كل شيء معاً. "

وإذ كانت ساحة المعركة ركاماً ودماء وسماؤها ناراً وكبريتاً والمشاهد تستبكي العيون وتذيب الأكباد وأمام الملايين من المشاهدين المنذهلين عبر أجهزة التلفاز في العالم بأسره يقف طارق أيوب والإيمان يعمر قلبه وبصحبته رفاق أعزاء أمناء، أمام منبر وأي منبر سلاحهم الوحيد خوذة على الرأس علّها تمنع عنهم شيئاً من شظايا أدوات القتل والتدمير ممن تجندوا لهذه المعركة على عجل... في وقت كانت قنوات التفاهم والحوار قائمة ومشجعة.

لكن، ثمة من قدّر لحساباته ضرورة إسكات ألسنة الحق والمعلومة الصادقة، واهماً أن يغلق العيون كي لا تبصر والآذان كي لا تسمع فحرّك آلة قتلٍ، فيلبي طارق النداء شهيداً لرسالة الإعلام المقدسة، ليكون أول شهيد أردنـي في هذا الميدان يعمل على أرض عربية، مراسلاً أميناً على شرف مهنته لجريدة الرأي والجوردن تايمز العزيزتين ولصالح قناة الجزيرة الفضائية أيضاً.

لقد لبيت النداء يا طارق فقد اختارك الله لتتحرر وتنعتق من زيف وشر هذا العالم حيث ستعـز وتسعد روحك هناك بفرحه وطمأنينته .

المشكلة يا طارق أن الكثيرين في عالمنا هذا يتكلمون وينظرون ويتلهون بالأحداث جلوساً، أو وقوفاً، أو ماشين بينما أنت ومن يعملون بشرف في حقل الصحافة والإعلام في أوقات عصيبة كهذه تقربون أجسادكم محرقات حيّة على مذبح الحق والوفاء والإخلاص.

طارق لقد جـمُد عقلنا لتبدل الأحداث بعد استشهادك بيوم واحد وأصابنا الدوار والإعياء والهذيان وعندما صحونا من غفلتنا سألنا لماذا كان ما كان؟ ولماذا تم حصاد الأبرياء؟ ولماذا كل هذا الدمار أصلاً؟ ولماذا تم حرق أعصاب البشر على مدى شهور وشهور؟ ولماذا ولمصلحة من تسيب الأمور سلباً ونهباً وحرقاً؟ ثمة ألف سؤال وسؤال

طارقسلام على روحك الطاهرة وعلى روح كل شهيد ألف سلام لقد تقبل الله تضحياتكم ووعدكم بالجزاء العظيم في دار نعمته وجزائه.

ولأهلك وأصحابك ورفاق دربك نقول : أن المسؤوليات جسام فاستجمعوا أنفسكم وتماسكوا ولتبقَ جباهكم وكما نعهدها عالية واعملوا بما يمليه عليكم شرف مهنتكم ونقاء ضميركم فالدرب لم يزل طويلا  حتى يفيض الخير في الأرض ويحل السلام في النفوس.  ولشهيدنا نردد مع الشاعر:

إذا كنت لم ترق الدماء زهادة       فلقد أرقت اليوم من جفني دماً

horizontal rule

 

" تجلى مولد الهادي..."

   بكل إجلال نحتفل معاً وبشكل خاص في هذا الشرق العظيم موطن الوحي ومهبط الروح بذكرى المولد النبوي الشريف.

ومع تنادي مآذن بيوت الله عند السحر هاتفة "الله أكبر..." والناس وقد شملتهم السكينة يصيخون السمع فتهتز قلوبهم لأصداء الروح... يقتحم الدعاء ضمائرهم قبل أن تشرق شمس نهارهم، للنهوض والصلاة للواحد الأحد الرحمن الرحيم، ولفعل الخير والفلاح وتفجير ينابيع العطاء والتعاون على البر والتقوى وتمتين الأخوة.

لقد دعا الرسول العربي الأمين إلى سيادة العقل، وإلى النظر في الحياة البشرية نظرة واقعية، وفهم حقيقة الإنسان على أساس المحبة لهذا الإنسان... التي تعني القفز من المحدود إلى اللامتناهي. آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ومحارباً محبة الذات التي تولد جميع الآلام، ومقدساً الجهاد الأكبر، ومحرراً المرأة من ذل الجاهلية، ونصيراً لليتامى والمستضعفين.

ولكم تحمل عليه الصلاة والسلام وفاءً لشرف الرسالة ووفاءً للعهد والوعد، أحقاد من حاولوا سالكين كل الطرق ليثنوه عن التبليغ فما فعل... سواء عن طريق الضغط العائلي، أو ملاحقته باتهامات وافتراءات واضطهادات لإنهاء الدعوة لكنه استمر على الرغم من ذلك كله نحو الهدف الأسمى مخلصاً لرسالته العظيمة كل إخلاص.

ولقد صغرت الدنيا لديه بكل ما فيها وهانت المادة عنده لإيمانه ومعرفته أن الله أعظم من كل شيء ويهون في سبيله كل شيء متحملاً قساوة الحياة وخشونتها للهدف الأسمى مكلفاً أصحابه وأتباعه أن يتعلموا ذلك... ويعلموه بالحكمة والرحمة والتواضع والحلم والصبر.

يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم لاتحاد الدليل والمدلول عليه".

هذا القران الشريف الذي يهدي إلى التي هي أقوم، كتاب المسلمين المنتشرين في كل صقع من أصقاع الأرض والذين تتمثـل فيهم شتى أممها، ففيه أصول دينهم وشرائع حياتهم في مختلف جوانبها الروحية والاجتماعية والإنسانية.

وإذا كانت (الألفاظ أجساد والمعاني أرواح) كما يقول العتـابي، فان التعاليم السامية قد جاءت  في قمة وعظمة البيان وبلاغة التعبير وفصاحة الألفاظ وسموها فكان القرآن الكريم ولم يزل وسيبقى آيةً للإسلام والضاد في كل زمان ومكان.

وجدير بنا في هذا الزمن العصيب ونحن نعيش معاً على هذه الرقعة من الأرض المحظوظة بالإشراق ونور النبوة أن نعمل معاً من أجل تراثنا الروحي وقيمنا والذهاب قدماً في مراقي الخير المطرد على كل صعيد وفي كل مجال...

ولنردد مع أمير الشعراء شوقي:

 

ولد الهدى فالكائنات ضياءُ      وفم الزمان تبسمٌ وثناءُ

 

horizontal rule

 

"في يوم الطـفـل العـربـي  من يحدب على الطفولة؟ "

 يعيش الطفل العربي اليوم في حالة خوف وقلق، أليس العالم من حوله يئن تائهاً مضرجاً بالدماء فتراه يمشي مشية الذاهل الحائر وكأن الهموم والأحزان قد ركبت على رأسه... يتطلع حواليه بعينين طاهرتين في حالة اضطراب وهلع وقد انطفأت تلك الابتسامات العذبة  من محياه البريء، يتساءل في أعماقه ألف سؤال وتحترق الأجوبة داخل شرايينه.. ولا من أحد يطفئ نيرانها.

لقد صار الطفل العربي قلقاً متوتراً سريع الانفعال، ومن هنا فان الواجب يقتضي ضرورة البحث الجاد والسريع في تأثير وانعكاسات الأحداث ومشاهد القتل والدمار والدماء والتي يصفها أحد الأطفال لأقرانه أنها  تكاد تتطاير من شاشة التلفاز لتلتصق به... ولقد تحدث أناس من هنا وهناك عن ظاهرة استيقاظ أبنائهم مذعورين من النوم وهربهم إلى حضن والديهم أو هلوسات يطلقونها أثناء نومهم أو نرفزه وتوتر عصبي خلال نهارهم مع الخوف من الخروج من بيوتهم  في حالات أخرى ... إنها إفرازات للصور المخيفة التي شاهدوها والتي علقت  بمخيلتهم، وهي لا محالة ستفضي إلى مشاكل عقيمة لهم ولمجتمعنا العربي ككل عندما يكبرون، وخصوصا الذين يعيشون في موقع أتون هذه الأحداث ولهيبها. ومن هنا فان هذه المسألة الخطيرة ً نتركها  لعناية المختصيـن وأساتذة الطب النفسي للإسهاب في شرحها وما تحمل من مضاعفات على جيل المستقبل.

وإذا كان الطفل شديد التأثر بما يحيط به ويسمعه ويراه، فان المسؤولية تقع على الأهل بان يكونوا حقيقة المثل الأعلى لأولادهم. فالجو المشحون والمتأزم داخل المنزل وما يتخلل ذلك من مصادمات ومشادات مع تهديدات الافتراق أو الانفصال وما يتبعها من أسئلة تدمي الفؤاد تخيرهم بين البقاء مع أبيهم أو مع أمهم ..  لتجعل الطفل في حالة ضياع وخوف ورهبة فيحتضن ما تيسر له من دمىً وألعاب، وينزوي القرفصاء في زاوية والدموع تنهمر من عينيه يبثها أوجاعه وآلامه علها تصغي له وتمنحه شيئاً من العطف والدفء وأخالها تفعل  !

ان تجاوز المشاكل العائلية على أشكالها وأحجامها وألوانها، والتخلي عن العناد والأنانية والتهديد وركوب الرأس، لأمر يعظم حب الطفل لوالديه فهما مصدر أمانه وطمأنينته. كما أن التأنيب والردع المستمر من قبل الأهل يؤدي إلى إحباط الطفل واضطرابه وهدم شخصيته فلا يتمكن من مواجهة ما قد يعترضه من مسؤوليات في مستقبله... أن وعي الأهل الكامل  وحرصهم على خلق مناخ مشبع بالراحة النفسية في البيت وذلك بإشاعة التفاؤل مع ما يلزم من الحب والعطف. يعيد السكينة ويقتل  فرص الكآبة أو التعاسة من الولوج إلى داخل هذا البيت الأبوي الدافئ ويجعل منه فردوساً صغيراً تتهلل فيه السعادة. إن منح الطفل ولو بعض الوقت والاستماع له باهتمام وارشاده والارتقاء به هو جوهر المسألة فلا أحد يريد أن يبقى ابنه طفلاً....

إن الجهود التي تبذل على أصعدة مختلفة في أردننا الزاهر، ومن خلال مجموعات المراكز والدور الثقافية الرسمية أو الخاصة لتنمية مواهب الأطفال واكتشاف مقدراتهم بالرسم أو الموسيقى أو المطالعة أو من خلال الألعاب الهادفة لتدعو للفخر... على أننا نأمل أن تعمم هذه الجهود لتشمل كل أطفالنا سواء في المدن أو القرى أو الأرياف. كما أن الضرورة تقتضي الاهتمام بالروايات والقصص الشعبية والتراثية لاذكاء خيال الأطفال بأسلوب سهل ليستمتع بها الأطفال وينمي فيهم حب الوطن...

مع مناشدتنا في هذه المناسبة صياغة أدب و خطاب خاص موجه لهم على أساس احترام اللغة والتفاعل معها... أن توجهات كهذه ستعيد  شيئاً من الهدوء الذي سلب منهم وتحميهم من غوائل المستقبل وشروره.

 

وبعد فإن ما نريده، أن يتحرر الطفل العربي من مخاوفه وقد أظلم  الفضاء بوجهه وبات القلق يتآكله  ولقد آن الأوان أن يتصالح إنسان هذا العصر مع نفسه ومع العالم وقد وصل انسانه القمر والمريخ و لكنه يكاد يقف عاجزاً عن محو الشر من العالم وجلب بسمة لطفل برئ  ليعيش أحلامه .... مع ثقتنا بان المحبة باقية في نفوس الخيرين ولم  تتبخر بعد من هذا العالم .

horizontal rule

 

"في وداع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني "

    هوذا انطلق "من كان مثل طيف أبيض" كما وصفه الملايين من البشر، البابا البولوني الأصل واسمه قبل الحبرية "كارول فوجتيلا" إلى مكان لم تره عين ولا سمعت به إذن ولا خطر على بال أحد...

عندما تسلم قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الميراث الروماني كخليفة لبطرس، في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول سنة ١٩٧٨ أطلق صرخته المدوية "لا تخافوا" تشجيعاً للناس في العالم كله ليتغلبوا على الخوف الذي توحيه حالة العالم المعاصر من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه "لا تخافوا مما خلقتموه بأنفسكم لا تخافوا من كل ما يمكن أن يرتد خطراً على الإنسان وقد سببه لنفسه..." وبكلمه واحدة: "لا تخافوا من أنفسكم، فالمحبة تصنع الإنسان والمحبة تحرر الإنسان من الخوف" وأضاف قداسته "أعلم جيداً أياً كنت أنك محبوب، واعلم أن كل حياة حتى التي تبدو لك تافهة... لها قيمة خالدة" ومن هنا فإن هذه الكلمات تعطي كل فرد على هذه المسكونة المضطربة بلسم تعزية وأملاً بأن وجوده كائناً من كان له قيمة وليس عبثاً، وثمة من يحبه... وموصياً قداسته "أن يحمل الإنسان في نفسه مخافة الله فمنها بداية الحكمة، فلا العرق ولا الأصل ولا الجنس ولا الثقافة ولا الدين فالكل أخوة".

إن الاحترام البالغ الذي يتمتع به الكرسي البابوي على المسرح العالمي لأبلغ من الوصف والتعبير، فما من شعب نال حريته أو استقلاله إلا وقرر إرسال ممثل عنه إلى الفاتيكان وهذا الأمر قبل أي اعتبار سياسي يلبي الحاجة إلى "شرعية روحية وضرورة أخلاقية..."

ولقد كان للأردن مكان خاص في قلب قداسته، كيف لا وقد توج محبته لأردننا بسيامته لأول بطريرك عربي للبلاد في الأزمنة الحاضرة هو كاهن اختاره من كنيسة عريقة كائنة في "أول طلوع المصدار" في وسط عمان، إنه غبطة البطريرك ميشيل صباح. وتأتي شهادة قداسته الخالدة عن أردننا في كلمته لحظة وصوله إلى مطار الملكة علياء بمناسبة رحلة الحج المشهورة في شهر آذار عام ٢٠٠٠ وساماً يرصع صدر كل أردني "ها أنا في الأردن والأردن بلد أعرفه من خلال الكتاب المقدس... أنه بلد مقدس..." وكان جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله قد رحب به قائلاً: "نرحب بكم وانتم تذكروننا بأن قوة المحبة أكثر متانة وصلابة من قوة الصراع والكراهية، نرحب بكم أخاً مؤمناً بالرحمن الرحيم".

وكان كلما وصل بلداً في رحلاته العديدة إلى أصقاع المعمورة وقد تجاوزت المائة والعشرين زيارة أطرق تواضعاً كالسنبلة تنحني وهي تحمل الحب تواضعاً، وخرّ على ركبتيه شاكراً مقبلاً الثرى... ذاك الذي جبل منه وجميعنا من آدم الأول... يدنو منه وكأنه مرتفع...

ولا يغيب عن البال لقاءه المشهور مع الإمام الأكبر د.محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر الموقر. ويوم دخل المسجد الأموي في دمشق وانحنى يخلع حذاءه مثل أي مؤمن آخر محترماً طقوس ومشاعر اخوته المسلمين وإيمانهم، ولقد كرس حياته لدعم  الحوار وتمتينه بين أصحاب الديانات السمحة داعياً في كل لقاء إلى التآخي والتعايش والمحبة بين بني البشر، لمواجهة قوى الظلام والشر التي تعصف بالعالم.

ويحضرني الآن تصريح قداسته إلى الأساقفة الفرنسيين في ٢٧/٢/٢٠٠٤ بعد أن تبنى النواب الفرنسيون في الشهر نفسه مشروع قانون يحظر ارتداء الحجاب والرموز الدينية الأخرى في المدارس الحكومية إذ قال: "إن محو الرموز الدينية التي تدل على العقائد الدينية للأشخاص سيكون مخالفاً لحرية تكون في محلها، وإن محاولة محو هذا البعد المهم في حياة الأفراد والشعوب، والعلامات التي تدل عليه، ستكون منافية للحرية بمفهومها الحقيقي".  

ولما كان الشباب في العالم كله طاقات هائلة من الخير والإبداع حسب تعريفه، فلا عجب كلما التقاهم أن يبتدئ حواره معهم بقوله "ليس ما سأقوله لكم هو المهم... إنما الأهم ما تقولونه لي" ويضيف "بقدر ما أتقدم بالسن، بقدر ما يحثني الشباب على أن أبقى شاباً، فلا يسمحون لي أن أنسى ما علمتنيه الحياة ألا وهو اكتشاف الشبيبة وأهميتها الحاسمة في كل وجود إنساني".

ولقد وقف قداسته أثناء حبريته إلى جانب المرأة وكرامتها بكل قوة، بصفتها إنساناً كامل المسؤولية وأن كونها امرأة لا يحد من أهليتها بتاتاً. وعلى قاعدة ليس كل شيء مسموحاً وليس كل شيء مباحاً، دافع عن حق الحياة... واحترام حق الجنين قبل أن يولد. ومحذراً من انتهاك وصية المشرع الأعظم التي أعلنها جهراً من على جبل سيناء "لا تقتل" أي الإجهاض، ويعلن طيب الأثر بكل شجاعة إن الطفل الذي حبل به في أحشاء أمه بريء طاهر وما هو بالمعتدي أو الظالم إنما كائن لا حماية له ينتظر الترحيب والحماية... "والرجل الذي كان السبب وأسهم في الحمل يلقى مسؤولية ذلك على عاتق المرأة كما لو أنها هي وحدها المذنبة بعد أن استغل عواطفها أو ضعفها غير أنه أي الرجل المذنب يرفض كل حس بالمسؤولية عن الفعل الذي أثمه".

إنه البابا المفكر الملهم والشاعر المتصوف، وهاهي "الثلاثية الرومانية" ديوان شعره يترجم للغات عديدة وقد تجاوزت النسخ المطبوعة من دار النشر التابعة للفاتيكان المليون نسخة. إنه رجل التسامح الحق والإخاء والمحبة إذ كيف للبشرية أن تنسى زيارة قداسته للشاب القاتل المحترف في سجنه وهو الذي أطلق النار عليه سنة ١٩٨١ في ساحة القديس بطرس وأمام عيون العالم الذين شاهدوا الحدث والرصاصات تخترق يده ومعدته... حيث قبله وغفر له في سجنه مجسداً وصية معلمه "أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم واغفروا يغفر لكم."

ولعمري كم هـدّ الألم والإعياء صحته، يعرك الألم والألم يعركه، مشاطراً المتألمين في العالم أوجاعهم لتمتزج بأوجاعه  فصحّ فيه ما جاء في سفر الحكمة المقدس "محصهم الله كالذهب في البوتقة، وقبلهم كذبيحة محرقة" ولكم رأيناه وقد أسلم رأسه إلى كفيه وذهب مع أفكاره وتأملاته إلى حيث شاء الله أن تذهب متأملاً ومتفحصا آلام العالم وكأني به يتساءل في أعماقه لمَ الدماء والفوضى والهلع في العالم؟ وحتى متى صراخ الجرحى ولهاث الضحايا في فلسطين والعراق؟ وحالما يسري دفق من حرارة عَلَوية لطالما غمرت قلبه يعلي رأسه هاتفاً لا للقنوط ولا لليأس.

أيها البار القديس بفكرك وقولك وعملك... "ها أنت تغمض عينين منطفئتين عن دنيا البشر، لتفتحهما على لقاء مع السماء..." وهاهي ذي شمعة حياتك وبعد أن وزعت النور حولها قد انطفأت... ليفك أسرك، وتطير روحك، منطلقة إلى من كنت أسيره على الأرض السيد المسيح له المجد، لتنال أسخى أجر وأكرم ثواب بعد أن أبدعت قيادة سفينة بطرس في بحر العالم المتلاطم الأمواج، وليدم ذكرك مؤبداً.

horizontal rule

 

" صـانـع الـهـوادج * "

كانت الهوادج تخرج من بين يديه متقنة، وكان البدو يتقاطرون عليه باستمرار... ذلك أن هودجاً متيناً لا يمكن أن يكون إلا من يد صاحب العينين الخضراوين والشعر المائل إلى الأحمر الفاتح...وكان يُكبر فيهم عميق تقواهم، وصفاء سريرتهم، ودماثة خلقهم. وكثيراً ما كانت تجري على أسلة لسانه مقولة رينهارت دوزي في كتابه تاريخ مسلمي إسبانيا  " أن البدوي أكثر الناس تحرراً "، وكانوا يرون فيه رجلاً أبياً وعقلاً ذكياً حاضر البديهة، يفكهونه بالمُلـَحِ المستعذبة والنوادر الحكمية المستغربة حتى إذا أنجز عمله خاطبوه: عافاك، ولا فـُضَّ فوك... ولطالما ترددت في حناياً منجرته أثناء شده لهوادجهم أغان ذات إيقاعات عذبة:

 

شـــدوا لــي الـهـــدوج يـالـلـه

مـــشـتـاق لـحـبــيــبــي والـلـه

                                         

***

تـحــت هودجـهـا يـامـا تـعـالـقـنـا

صار سحب سيوف يا ويل حالي!

 

كانت هذه الأغاني وحكايات المتحلقين حوله تطرب نفسه، وتخفف عنه عناء صقله الخشب الذي يصيب منه رزقه لتحقيق الأحلام العذاب...فتجعل من ثقل شاكوشه الذي يهوي به على المسامير ليثبت أجزاء ما أراد إنجازه، حملاً خفيفاً هيناً...أما منشاره اليدوي آنئذٍ والذي كان ينشر الخشب به فهو بالنسبة له كالقوس يمرره على "كمانه"، لتنطلق الحان تطفئ شيئاً من حرقة الغربة وفراق الأخوة وذوي القربى.

ومع انهمار حبات العرق من جبهته العريضة على نشارة الخشب الظامئة لتبللها، يتسامى أريج في الآفاق يبعث النشوة في النفس... وكان يحمل بركة تعبه وعمله إلى بيته، حتى إذا وصله كحل عينيه بمرأى زوجته وأبنائه وريحانتيه اللتين أسماهما السعادة والبسمة، جاعلاً من قلبه قيثارة لهم، يلقنهم صفاء السريرة وسلامة الوجدان.

حتى إذا شبت أطوار الحياة بأبناءه كانوا له العون والسند يؤازرونه في عمله متهللين... فتتحول الألواح الخشبية الصامته بين أيديهم إلى أشياء كثيرة رائعة ونافعة تنبض بالحياة... فارتفعت آماله وأمانيه إلى الذروة لتقديسهم العمل إلى جانب العلم!

وكان أطيب الأوقات لديه، ساعة يجلس على أريكة يخلو بنفسه مع الكتاب فهو زاده وزوّاده، يحتضنه بين يديه حتى يغالبه النعاس فيغط نائماً من التعب ...ولعل عشقه للكتاب كان السبب في لقائه بمجموعة ممن يرون في الكتاب خير جليس.

وكان يحث الجميع بشدة على قراءة كتب الأولين لأثرها في صقل النفس ولما فيها من نفائس، فكانوا يحذون حذوه. على أن صوته كان يهدر قائلاً: أين كتابك؟ إذا ما رأى أحدهم محملقاً في السقف أو في شجرة التوت المنتصبة في فناء بيتهم في غير أوان نضجها! وكانوا يتهامسون عن عدد المرات التي لحق بكل منهم تأنيب جرّاء شرود ذهنه!

أما حياته فكانت نشيداً في تعريف الناس بفضيلة التواضع، صبوراً على ما كتبت له الحياة في سفرها، لا يفتأ يردد مقولة السيد المسيح عليه السلام :" من سخّرك ميلاً فامش معه ميلين". أما سلوكه في الحياة فكان يتفق وروحه... ولكم هب وهو صاحب المشية السريعة كما عرف عنه، كالسهم الهّمام لرأب الصدع وإزالة القطيعة بين متخاصمين.

ولقد تعجله الموت، تاركاً في قلوب أسرته وذويه ومعارفه حسرة كاوية، بعد سنين صعبة ساورتها هوج الرياح من كل جانب. إلا أن الوديعة كانت في أمان أليس منّ الله عليه بأبناء نجباء أذكى فيهم شعلة الروح والاستقامة، وعزّ بهم خاطراً. فصاروا يعملون بوحي نصحه وارشاده كل يقتدي بمحاسن الآخر ويتكامل من كماله...ويحوطون أمهم أكثر وأكثر بما يجب لها من محبة واكرام ومن عناية مكنتها من قضاء شيخوخة مكرمة، وقد أرادوا بذلك أن يردوا إليها بعض مما لها عليهم من فضائل...

أما أمهم فما انفكت تسرد عليهم حكاية ما زالت مطبوعة على صفحة ذكرياتها! يوم لامست أنامل ذلك الصبي حبات عنب من واحد من قطوف كثيرة تدلت على السور المحيط بفناء بيتهم...وما أن أحسّ صاحب الدار بتموج خيال بين العناقيد من أحد الفروع، حتى قدّر أن ثمة شيئاً ما غير طبيعي يجري، كيف لا وأصل الدالية نبت من تراب داره! فهرع بـغـمبازه المعهود المخطط طولياً بسواد يغشى بياضه، وقد أحاط كرشه بزنار عريض من قماش يطلق عليه شـِمـْـلـَهْ، يضرب أخماسه بأسداسه موجهاً الشتائم واللعنات على هذا الانتهاك السافـر غير المبرر لحرمة داليته، معتبراً الحبات التي لامسها الصبي ملامسة لا غير... حبات من قلبه! أما أبوه فقد رفع طـَرفـَهُ نحو السماء في مناجاة تمتم خلالها كلاماً غير مفهوم... وما أن أنزل بصره، حتى أحس بإشراقة انبثقت من منزل فسيح مطل، غير بعيد عن مسكنه، ثم حول نظره صوب من تحلق حوله من أفراد أسرته وقد كانت الدموع رطبت وجناتهم مردداً مع الشاعر:

لا شيء في الجو وآفاقه         أصعد من دعوة مظلوم

 

وما هي إلا فترة وجيزة حتى ابتاعه وحديقته الزاهرة بالرمان والتوت. ولسان حاله مع القائل: "الله موجود وهو مع الضعيف حتى يعتبر القوي فاتكلوا عليه! "

وتدور الأيام دورتها، فتورق وتزهر وتثمر تلك البذور... بعد أن سكبت تلك الأم حبها في قلوب من كانوا يـتـيـمنـّون ببركات أنفاسها وهي ترفع الدعوات...وقبل أن تطبق أجفانها كحلت عيونها بنور عيونهم على رجاء القيامة... 

 

" فيا ركب المنون أما رسول     يبلغ روحها أرَجَ السلام "

 

**********

 

 * هودج : جمعها هوادج، مركب "محـمل" له قبة تجلس فيه كرام النساء عند الزفاف أو الرحيل أو السفر، وسمي كذلك لأنه يضطرب على ظهر البعير.

 

**********

 

     يقول أحد المفكرين: " أن رجلا كهيجو، لا ينبت من الأرض ولا يهبط من السماء، بل هو ينشئ نفسه بالصبر والعمل والسهر!" 

horizontal rule

 

" في عـيـد مــيلاد حـادي الـركـب "

 في هذا اليوم الأغر المشرق وفي جو عابق بشذا الأزاهير والرياحين المنعشة، يتعانق الأردنيون والفرح يملأ أفئدتهم أسرة واحدة يطلقون أناشيد الوفاء والولاء بمناسبة عيد ميلاد قائدهم ورائدهم جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين أعزه الله وأدام ملكه.

وبقدرة لا تحد ومحبة لا تقاس لشعبه الوفي، يسير جلالته على النهج الحكيم الذي اختطه جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه حفيد الشريف الحسين بن علي وأنجاله الميامين، لخدمة الحق والحقيقة فكراً و قولاً وعملاً انتصاراً للنور على الظلمة  في شخصية الفرد وفي شخصية الأمة.

لقد شهد الأردن باديته وريفه وحاضرته نماءً وازدهاراً وحقق نجاحات باهرة بفضل حكمة وحنكة جلالته  ووعي انسانه ، وغدت بلادنا واحة أمن على الرغم مما مر من ظروف قاسية عظم خطبها وجل أمرها فما زادته تلك الحوادث إلا قوة، وتحطمت على صخوره المنيعة نوايا العابثين ومطامع الحاقدين الذين شبكت حولهم الأوهام والظنون شباكها.. فحق لنا أن نفاخر العالم بجيشنا العربي وأجهزتنا الأمنية وبشعار الإباء والشمم الذي يحملون على رؤوسهم وهاماتهم جنداً للحق وحماة الوطن.

وإذا كانت إنسانية المرء وحدة كاملة لا تقبل التقسيم، فان جلالته يدافع وباستمرار عن حقوق الإنسان الأردني دون الالتفات إلى منابته وأصوله وعقيدته، لأيمانه أن حقوقه لا تقبل التجزئة أو المساومة.. ومن هنا عظم شأن الأردن بفضل هذه القيادة الفذة وأصبح في مشارق الأرض ومغاربها مضرباً للمثل في الوعي والتماسك بين جميع أبنائه الذين يخفق قلب العروبة كبرياءً في أعماقهم  .

إن نقل الصورة الواقعية عن مشاكل المواطن والتعريف بها كما هي دون عملية تزيين أو ترقيع أمر يلاقي اهتماماً كبيراً من جلالته، لأنه لا يحب إخفاء الحقائق فمـصلحة الوطن وابنائه وأجياله هي همه الأول ومن هنا فان أي مسؤول ومن حسه الوطني عليه أن يكون صادقاً وشجاعاً في طرح قضاياه  وأن يسعى بكل طاقاته لحلها .. وأن لا يتمترس وراء أخطاء معينة ويدافع عنها أو يحاول التعمية عليها إكراما لأحد .

ومن هنا جاءت زيارات جلالته المفاجئة للعديد من الدوائر والمؤسسات، ليتحسس متخفياً هموم المواطنين وليعرف بنفسه حفظه الله شؤونهم شخصياً والعراقيل التي يواجهون أثناء معاملاتهم. فكان إجراء جلالته درساً وحافزاً لكل إداري مسؤول، أن يترك كرسيه وينزل إلى الميدان يعيش احتياجات المواطن ويسهل عليه أموره.

ولا يغيب عن بال أحد أمر جلالته السامي فور تسلمه السلطات الدستورية للحكومة، بأن يقدم كل وزير المشاكل التي تواجه وزارته وبكل صراحة ووضوح وبفترة زمنية محدده.. ليصار إلى إيجاد حلول جذرية ومناسبة لها ، ذلك أنه حفظه الله من القادة الذين يرفضون الحلول المؤقتة للقضايا والمشكلات المطروحة.. لأنها في نظره الثاقب تشكل تسكيناً مؤقتاً يحمل في مضمونه تأجيلاً وليس علاجاً لها ! ومن هنا يأتي إصرار جلالته على أن التخطيط المبني على أسس وقواعد مدروسة وسليمة يجنب ظهور المشاكل ومضاعفاتها ألمْ يعان ِ المجتمع العربي من مشاكل اقتصادية واجتماعية وتعليمية وبيئية وغيرها بسبب القفز غير المدروس؟ ولو كان خُطط لها بحكمة وروية وبُعد نظر لتجـنـبت الأمة خسائر باهظة وجهوداً ذهبت سدى.

لقد وقف جلالته أمام المحافل والمنابر الدولية مخاطباً العالم ليس بشعور فرد وتفكير فرد بل بشعور أمة وتفكير أمة..وبكلمات تنبعث من عصارة القلب والوجدان، ومن مخزون ثقافي عملي عميق، مفاخراً الدنيا في عروبة كل عربي وبأننا أصحاب رسالات سماوية سمحة واشعاع حضاري أسهم في تشكيل وبناء التاريخ.. وبأننا طلاب عدل وحق .. وأن الحوار البناء هو السبيل الوحيد لحل أي خلافات على أية ساحة في هذا العالم.

ولطالما شدد جلالته على أننا لن نخلع عنا مقومات شخصيتنا وعقيدتنا وهويتنا أمام تحديات العصر، بل نقف مع العالم في سعيه نحو السلام والعدالة ومستقبل الشعوب من أجل غد مشرق .

وقبل وبعد... لـيـتـنا نبقي هذه الحقيقة في قلوبنا .. إن هذه هي صفحات التاريخ ماضيه وحاضره ما زالت مفتوحة لكل ذي بصر تجـيب . فهنيئاً لحادي الركب، شبل الهدى جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المفدى عيد ميلاده الميمون، وعاش الأردن مزدهراً منيعاً على طريق العزة والكرامة.


Back