الفصل الأول


سليمان المشيني شاعراً

توطئة:

حبُّ الوطن وتقديسه عاطفة فطرية، وغريزة طبيعية عند كل إنسان. والحنين إلى الوطن ومرابع الصبا، ومدارج الطفولة، والتغني بمظاهر الجمال فيه من شيم العقلاء والشرفاء والمنتمين، ويتخذ الانتماء إلى الأوطان طابع الانتماء اللفظي أو العملي الذي يصل إلى حد الاستشهاد، والوطن مصدر الشعر إذ يتضمن بعض سماته، وملامحه وبيئته وبصماته. فالشعر مرجع يصور البيئة الأردنية، إذ يتألق فيه التراب والنبات وأسماء المدن والقرى والحيوان، وخصائص الطبيعة، وروح الشعب، وسماته الخاصة من إقليمية وقومية. والمجتمع الأردني بدوي رعوي في جذوره القريبة، ويتحول إلى مجتمع المدينة بقوة. ولم يخلد الوطن إلا بتخليد شعرائه، وقد استلهم شاعرنا شعره من مجموعة التقاليد والعادات اليومية، والقيم السائدة، واللغة الدارجة، ووظفها في تصدّيه لمعالجة القضايا المتوترة([1]).

واختلفت رؤية الشعراء الأردنيين إلى الطبيعة الأردنية، فمنهم من وصف سمات الأردن الخارجية بألفاظ وتشابيه واستعارات تقوم مقام الألوان للرسام، والنغم عند الموسيقى، وبعضهم بحث في الطبيعة الصامتة، والسمات الخاصة من أشجار التين والزيتون والسنديان إلى حياة القرية والريف، والتعلق بالوطن، ووصف الربيع والصيف، إلى التغني بالمكان والحي والمدن الأردنية، والوديان والغور، وتحاول الدراسة أن تشير إلى عبقرية المكان، ومدى حمل الشعر في الأردن للسمات المحلية، وهوية الشعب والمكان فيه([2]).

لقد استشهد الشاعر سليمان المشيني بمقولة بيركليس: لا تمجّد الأفعال إلا بالأفعال، وذلك في مقدمة ديوانه العاشر صبا من الأردن، الإخوانيات([3])، وما هذه الدراسة عن شاعرية أستاذنا إلا مساهمة متواضعة في تمجيد الأفعال بالأفعال، بل وفي تقدير هذا العلم المبرز والأديب الفذ الذي لم يقدّر حق تقديره، وكأني أردد المقولة المتداولة في تراثنا العربي «لا كرامة لنبي في وطنه»!

* * *

أطلق غير باحث على الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار) لقب (شاعر الأردن)، وقد جعلت هذه الإشارة في مقدمة دراستي «صحيفة الجزيرة الأردنية: ودورها في الحركة الأدبية»([4]).

 

موطني الأردن لكني به

 

كلما داويت جرحاً سال جرح

 

وقبل زهاء ربع قرن أطلق الأديب الناقد الدكتور عيسى الناعوري على سليمان المشيني لقب (عاشق الأردن)، وشاعرنا المشيني يستحق مثل هذا اللقب، وقد وقف عدداً كبيراً من قصائده ودواوينه على هوى الأردن وعشقه وهيامه بهذا الوطن الممتد في جسده سلالم، وللأسف لم يُقدَّر هذا الشاعر حق قدره، ولم يكرّم التكريم الذي يليق به وبمكانته الشعرية، في حين يقدّر غيره من حمَلَة المباخر وقرّاع الطبول، ولعل هذا البحث يساهم في وضع شاعرنا في موقعه المناسب على خارطة الوطن. ولعلّ سلسلة دواوينه التي سماها (صبا من الأردن) هي خير شاهد على هذا الذي طرح، ليعكس بالضرورة انتماء هذا الشاعر وصدق ولائه لهذا الوطن وقيادته الهاشمية.

(صبا من الأردن) - ديوان الشاعر سليمان المشيني، صدر منه عشرة أجزاء، لم يحاول الشاعر سليمان أن يدعو كل جزء منه ديواناً، وأن يختار لكل ديوان اسماً شاعرياً، يلفلفه بالخيال، وبالألفاظ الصبابية، بل شاء أن يجعله أجزاء يلفها جميعاً عنوان واحد بسيط هو: (صبا من الأردن)، والصبا هي الريح الخفيفة الناعمة التي تهب من الشرق، ولم يكن اختيار العنوان إلا بعض ما في قلب الشاعر من عشق للأردن، ولكل ما في الأردن؛ فسليمان المشيني عاشق لهذا البلد، وعليه وقف شاعريته وحياته، وكل جزء من ديوانه هذا يزخر بالقصائد التي تتغنى بالأردن، وبمليك الأردن، وجيشه، وأرض الأردن وسمائه، فلهذا الحب الراسخ رسوخ الإيمان يعيش سليمان ومن أجله يعمل، ويكتب الشعر، ومن أجله نظم الأغاني الكثيرة التي يصدح بها المذياع، وتنطلق بها حناجر المطربين والمطربات في التلفاز!

أنا الأردن

منذ فجر الكون ساح للنضال

أيّ عزْمٍ عزمُ شعبي يتحدى كل صعب

دربه أشرف درب

أبداً يرنو لتحقيق الكمال

أنا الأردن

ومن عشقه للأردن كان عشقه لجيش الأردن، فلكل سلاح من أسلحة هذا الجيش نشيد، وللفرق أناشيدها كذلك، وهكذا قل في مختلف الألوية، فنشيد للجيش، ونشيد لسلاح الهندسة، وآخر لسلاح اللاسلكي، ونشيد للفرقة الخامسة المدرعة، وللفرقة الثانية، وللواء الإمام علي وتحية لسلاح الجو، وللواء الأميرة عالية، ونشيد لسلاح الجو أيضاً، وآخر للواء الحسين بن علي، وتعددت القصائد التي تمجد الجيش الأردني وتنوعت، وتناثرت نجوماً متلألئة على صفحات الديوان الجديد، بعضها من الشعر الفصيح، وأقلّها من الزجل والأناشيد المغناة، والأهازيج يغنيها المغنون، ويبثها التلفاز والإذاعة.

والأردن كذلك تعددت فيه القصائد وتنوعت، تتغزل بربوعه وآثاره،
وماضيه وحاضره. ويرثي الشاعر شهداء الأردن وأبطاله، من أمثال «فراس العجلوني»، وعاطف المجالي، وكمال المدني، وطلال الخطيب.

يقول في عاطف المجالي:

 

من قال مات الفارس المغوار

 

من قال غاب الكوكب السيار؟

 

ما مات عاطف، إنه حي له

 

في كل قلب خافق تذكار

 

صفحاته بيض كإشراق الندى

 

وفعاله في الخافقين فخار

 

ويقول في فراس العجلوني:

فراس يا أسطورة البطولة

فراس يا ملحمة الرجولةْ

ضربْتَ باستشهادك الأمثولةْ

لتبتني كرامة أصيلةْ

هذه القصائد، وأمثالها كثير، في عشق الأردن، وجيش الأردن، وأبطال الأردن، وشهدائه، تملأ النظر منذ أن يقوم القارئ بأول قراءة للديوان. ولكنها ليست كل ما فيه، وإن تكن من أبرز ما فيه، فهناك موضوعات أخرى لها صدى، طرقها الشاعر، ومنها مثلاً، إلى الراعي في بلدي، ويقول:

حَمَلَتْ أزكى تحيّهْ

نفحةُ الفجر النّديّهْ

لك في المرعى على تلك السفوح العسجديهْ

وبأفياء الحقول المخمليات الشذيهْ

يا سمير الأيك، يا ألف الأزاهير النديهْ

كلها تبسم لما تتلقّاك حَيِيّهْ

أيها العازف من وحي الهنيهات الطليهْ

إذ ترى القطعان جذلى تأكل العشب هنيهْ

والمروج الخضر نشوى والرياض السندسيهْ

ويوحي إليه الثلج قصيدة جميلة يقول فيها:

 

كوجه بلادي البهي الجميل

 

رؤى الثلج في السفح والروضة

 

مساكب شمس تشع السناء

 

تدفق بالحسن والفتنة

 

تدثر أرضي دنيا الرواء

 

ببيض البرود وبالروعة

 

وينسحب عشق الأردن عشقاً للضفتين، ولوحدة الشعبين الأبدية، فيقول تحت عنوان: (من وحي وحدة الضفتين الرائدة):

لا لن تتصدع وحدتنا

لا لن تتزعزع همتنا

لن تخبو نار محبتنا

فلأنت أخي:

جرحي جرحك، فرحي فرحك

شرفي شرفك

قدماً أمضي ويدي بيدك

وأريق دمي لغدي وغدك

 

وقصيدة أخرى بعنوان (رسالة إلى الضفة الغربية العزيزة):

على جناح الأحرف الصغيرهْ

المشرقات أنجماً منيرهْ

أبثها أشواقي الكبيرهْ

إليك يا حبيبي الأسير

رقراقة كبسمة الغدير

فواحة بالعطر والعبير

من زهرة من بلدي نديهْ

بيضاء كالفراشة البريهْ

تبحر من قلبي إلى عينيك

تلقي عصا الترحال في يديك

تعانق الضِّيا بمقلتيك

* * *

لقد أكثرت من ضرب الأمثلة والنماذج من ديوان (صبا من الأردن) وكلها - مهما يكن نوعها - قصائد عشق رحيب عميق، من عاشق الأردن الشاعر سليمان المشيني، للأردن بضفتيه. وحسبي ما قدمت، ولأترك القارئ وحده يَسْرَحُ مع الديوان - كما يقول المرحوم عيسى الناعوري - يستدفئ بحرارة العاطفة، وصدق الهوى في صفحاته الرحاب.

* * *

لقد نبّه بعض النقاد إلى المعاني الدقيقة في الشعر؛ لأنه الدر الخالص، وإليه يقاس، وبه يشبه، فهو وقف على المعاني الشريفة، ومكارم الأخلاق، وحمل رسالة الإنسان الرفيعة من الغائب إلى الشاهد، حتى يرى آثار الماضين مخلدة في الباقين، ويتعظ بتجاربهم، وثمار عقولهم، فالشعر ينبّه إلى روح الشر، مُحذّراً منها، ويحمل سمات الحكمة وخلاصة المعرفة وهو في نظرهم أعلى مراتب الأدب، ويُعنى بمشكلات الإنسان عموماً([5]).

للشعر لغة خاصة، تنمّ عن خبرة وفن متقدم في استخدام الكلمات والتراكيب مع تكثيف الانفعالات الكامنة والتكوين الروحي للإنسان، والشعراء الكبار يتخلصون من الرومانسية المترهلة، والخطابية الزائفة المسيطرة على معظم شعر الإمارة؛ لأنهما لا تقولان شيئاً ذا بال. والشعر الحقيقي يطوّع اللغة لمفاهيم جديدة بمصطلحات تأخذ طريقها إلى الاستقرار، وهو لغة جديدة لعالم آتٍ، ومجتمع جديد، ومن عيوب الشعر الأردني التطريب الزائد، والتنغيمية التي تشيعها التقريرية والكلام النثري الموزون لفظاً، إذ يلهي المتلقي عن وحدة الموقف.  والشعر الحقيقي مرتبط بقضايا الإنسان وقدرته على محاورة النفس بمعيار فني، وليس نقلاً حرفياً للحدث، لأن الإبداع له طقوس، وطريقة أداء، ولم يعد الإبداع نثر كلمات شعرية على ورقة، والنوم ملء الجفون على فراش وثير، والادعاء بأنّ النظم جاء وفق الخاطر والأنظمة الأدبية.

والشعر ليس (قطيع ماشية يرعى ويرجع بضوابط)، فهو نمو حياة كاملة كالعلم لا يعطيك بعضه إن لم تعطه كلك، وهذا شأن أي أمر إذا طلب المرء السيادة فيه.

وبعض شعراء الإمارة لا ينصرفون للشعر أو يتفرغون له. وإنّما هي محاولات تعبيرية عن شعور خاص، أو قضاء واجب اجتماعي أو وفاء لمودات وصداقات أو تسجيل لأحداث يومية ([6]).

وهذا الناقد يوسف حمدان يشير إلى أشجان وأحزان شاعرنا وذلك في قراءة لديوان (صبا من الأردن)،... يقول:

 

من قال غادرت الحمى

 

أتغيب عنّا شمسنا؟!

 

بهذا البيت المغموس بدم القلب الموجوع أدخُلُ إلى ساحة أحزان سليمان المشيني الغارقة بدموعه الثاكلة ووجعه الأبدي على فقدانه سوسنة روحه ابنته (دينا) الصيدلانية الصبية التي غدرت بها يد طائشة لا تعرف الرحمة ولا تؤمن بنواميس الحياة، بينما كانت تؤدي واجبها المهني تجاه أبناء الوطن المحتاجين إلى الدواء.

ووالدها الشاعر في الجزء الرابع من ديوانه الشهير «صبا من الأردن» خصّص لابنته الشهيدة (دينا) بعض الصفحات الممزوجة بالشجن والذائبة في الحنين ووجع الفراق.. وبدا لي وأنا أطالعها شبيه الخنساء في رثائها لأخيها صخر، فالأكباد البشرية تتألم وتلتاع وتتشابه في التعبير عن أوجاعها ولوعتها وآلامها.

على الغلاف رأيت صورة السوسنة الشهيدة تفيض ملامحها البريئة من ملامح والدها صاحب الديوان ونظراته الشاردة إلى الأفق هناك حيث ترقد، يلاحقها بأحاسيس الألم والفجيعة.. مخاطباً الموت الذي انتزعها من بين أحبتها فجأة:

يا موت قاسٍ أنت لا تختار إلاّ الأحسنا!!!

قد غلت بابنتنا المميزة، الأماني والمنى!!

إحساس بالفجيعة يصعب وصفه والتعبير عنه إلا بكلمات الشاعر نفسه، وهو يدعونا بإلحاح لنعايشه ظروف اغتيال زهرته وسوسنته البريئة قارئاً فينا مشاركتنا له المشاعر الوجيعة، والأسف البالغ لما تتعرض له أزهار الوطن وفلذات الكبود من غدر خسيس وجبان:

شُلَّت يد الجاني فقد أبكى المصاب، الأردنا!

أجل!.. باغتيال ابنة الشاعر أصيب الوطن في ضميره ووجدانه ومشاعره النبيلة والعظيمة، فالشهيدة كانت تمثّل قيمةً لشباب الأردن، قيمةً رفيعةً فاعلةً وناشطةً على عتبات المستقبل الواعد..

 

من يصرع الورد الشّذيْ كان الأخس الأجبنا
 

 



 

يا موطني هذي فتاتك قطعةٌ من نفسنا

 



 

فاجعل جفونك للحبيبة والبريئة مدفنا

 

وليشد طيرك في الربى لحن الوداع مُؤبِّنا

 

دينا الفريدة والعزيزة والأثيرة عندنا

 

دينا فديتك لم أكن أدري المصير المحزنا

 

يا زهرة الزّهرات قد أدمى اغتيالك أعْيُنا

 

سيظلُّ ذِكْرُكِ خالداً أَرِجَاً بِآياتِ الثَّنَا

 

نصغي لصوتِكِ كلّما غنّى الهزَارُ بِرَوْضِنَا

 

ما كان من قبلُ الشَّذَى دَمُهُ يُراقُ بِحَوْضِنَا

 

لقد تأثر الشعر العمودي بحركة تنويع القافية والجمع بين البيت ومجزوء البيت في القصيدة الواحدة، فقد جنح الاتجاه التقليدي إلى سهولة الأوزان، وبساطة التعبير، والجرأة على توليد أشكال تعبيرية في الشعر العمودي، يقول سليمان المشيني من قصيدة مغناة:

 

 

موطني أرضُ الرجالِ 

 

موطني مهدُ النضالِ


 

يهزمُ الصّعبَ ويمضي

 

قدما نحو المعالي

 

يبتني المجدَ بمَهْرٍ من دمِ

 

رابط الجأشِ عظيمَ الهِمَمِ

 

موطني مهدُ الإباءِ

 

أفتديه بدماءِ

 

فليعشْ حراً عزيزاً

 

موئلاً للبُسلاءِ([7])

 

إنَّ الشاعر الحقيقي لا يسعى إلى الألقاب الفخمة الفضفاضة والغرور الأدبي، فالنقاد والدارسون قد يخلعون عليه نعتاً أو لقباً يلاقي هوى وقبولاً ولكن عدداً من الشعراء في الأردن يتحلون بألقابهم وكأنها ملابس نسجتها أيديهم، فالأفغاني يلقب نفسه بـ (شاعر شباب فلسطين)، ومحمود فريحات يسبل على نفسه لقب شاعر البيت الهاشمي، وعرار (مصطفى وهبي التل) يلقب نفسه ثانية بشاعر الأردن دون منازع، وعبد اللطيف عقل يمنح نفسه (شاعر السقيفة)، ويحيى هواش يختبئ وراء (شاعر الكوخ) ونضيف إلى هؤلاء الشعراء شاعرنا المتميز سليمان المشيني عاشق الأردن،... يقول عبد المنعم الرفاعي عن الأفغاني مثلاً إنه كان حريصاً على اللقب حتى رقد معه في قبره، وكان يتباهى بما ينظم، كثير الشتم لمن يحاول نقده نقداً موضوعياً، ويتعصب لرأيه ويرى نفسه فوق الشعراء!!

إنَّ الكلمة الشعرية الجريئة النزيهة مرتبطة بحياة الإنسان الدائب وراء المعرفة، بحثاً عن الأفضل، لقد جعلها بعضهم مصدر الارتزاق، و (مطية دجل وتهريج) ودعوة إلى قيم مكررة في ألفاظ وتراكيب صارمة وخطابية مجلجلة مصوغة بأسلوب الأوامر والوعظ والانفعال، والشتائم المستوحاة من المبارزة والمساجلة الآنية. ويتم ذلك تحت مظلة الكلام الموزون المكنى، وأسلوب هذا الشعر تقريري يعتمد على العظات، وخنق الحياة النامية في القصيدة. فالصورة مهزوزة ومألوفة حتى الملل، والخيال فقير، والقافية رنانة طاغية، وقد يتخلل الشعر حكمة رومانسية هادئة، وفخر انفعالي وتراكيب جاهزة تضيع فيها التجربة الشعرية.

والشعر الحقيقي سجل آخر مرادف للتاريخ في جوانبه الوجدانية، ويردد الأصداء الشعورية العميقة، ويحمل ثوب العصر وجوهره، ويكشف سوءات الحاضر في لملمة لمع متناثرة من المواقف بمهارة فائقة. فالشاعر الحقيقي قائد عربة الخلود في عالم الزبد والهدير، إنه مالك الموهبة والثقافة والجدة في الصياغة المتميزة، وقصيدته حصيلة صراع الإنسان مع نفسه والعالم.

وصفوة القول: إِنَّ عيب الشعر العمودي البدائي سقوطه في المصطلحات والتحديات النثرية والنظم، وعدم قدرته على إخراج الكلمات من معناها المعجمي إلى دلالة جديدة قريبة من المعنى الأصيل بطريقة قول شعري جديد.

ويعاني الشعراء الاتباعيون البدائيون من التهافت على قول الشعر لدرجة إسفاف الكثيرين في صياغته. وشعرهم يلهث وراء الأحداث الساخنة ولا يصنعها، وتدور أفكاره وصوره حول الأشواق المنتحرة، والبكاء على الأبواب المغلقة، واحتراف الحزن والتعلق بالبطولات الفردية الخارقة، والجري وراء المعارك من دون الاصطلاء بنارها. وتأرجح مضمون هذا الشعر في دائرة الغضب والتذمر والرفض العام. وتتحدث تجارب الناشئين من الشعراء عن مجدٍ فات أو نصرٍ آت. ويحار الدارس في فهم الشعر، أهو شعر جيل مهزوم أم هازم، أو شعر تحرير قادم؟ ويحرك الشعراء حسن النية من دون أن يكون لهم دور في إنقاذ الوطن. وأغلب الشعراء لا ينظمون شعرهم من موقع محدد يستندون إليه، فما أسرع ما يصيبهم (الهلع) عندما يمسُّ الوطن سوء أو يصيبهم الفرح والزهو عندما يكون في الأفق بوادر نصر، إنهم لا يؤثّرون في الأحداث، ولا يوجهونها، ويعود هذا إلى (ضمور الفكر)، وضعف بنية الثقافة الوطنية، وفقر الوعي الأدبي وقلة اطلاع شعرائنا على تراثهم اللغوي القديم. فهم لا يطيلون التدقيق والتحديق في مشكلات الوطن: «فالأشعار الغزيرة لشعرائنا تحتاج لمحاورة فنية نقدية، وتحديد القيمة الجمالية والمضمونية لنصوصها، إذ تطفح صفحات الصحف والمجلات ودواوين هذه المرحلة بشعر البراءة والسذاجة وعدم الثبات وضياع الموقف»([8]).

إنَّ عشرات الدواوين الشعرية، وآلاف القصائد التقليدية المنشورة (تشكل ركاماً من الشعر الرديء)، وأشباه الرديء الذي يعالج الفكر الوطني والمناسبات بأسلوب (سطحي ساذج ومفتعل). وإنَّ القصائد الطويلة المحشوة بالألفاظ والتراكيب الجاهزة خالية أو شبه خالية من روح الإبداع والصور الشعرية الجديدة المثيرة، فهي جمل (نثرية منتظمة موزونة أحياناً) وخالية من الوزن أحياناً أخرى. وقد يكتبها مسؤولون ومثقفون وأنصاف مثقفين، لا يمتون للشعر بصلة وتتكرر لديهم تعابير وشعارات وهتافات شعرية: «عن القدس وأمة العرب»، وكل زعيم أو وزير أو ضابط أو مسؤول أو مختار عشيرة هو عندهم صانع التاريخ وقائد ملحمة الأمجاد، ومن الرجال الصيد الأشاوس. فشعرهم امتداد لشعر الضعف، ينظمونه من دون معاناة أو إدراك لطبيعة العصر وتغيراته، وأوازن الفن الشعري ومتطلباته.

نجح عدد من الشعراء الأردنيين في كتابة شعر عمودي أرقى من الشعر التقليدي البدائي، وامتاز بشعر واقعي فني متقدم، متميز، مشوب بمسحة خفيفة من الرومانسية، ويتمثل بعناصر إبداع في الصورة، وجدة في الفكرة، وقدرة على إثارة السامع، ولفت انتباهه لطريقة التعبير الشعري. وامتاز بعضهم بحسٍّ وطني رفيع، واقتراب من وجدان الشعب، وظهر ذلك في أشعار لخليل زقطان، ورجا سمرين، وأمين شنار، ويوسف العَظم، ويوسف الخطيب، وكمال ناصر، وسليمان المشيني، وفدوى طوقان. وتأثر بعضهم بالتيارات الأدبية الجديدة، والأفكار العقائدية اليسارية والقومية والإسلامية وبدأ شعرهم بصيغة فنية جديدة، إذ أعطوا ثروة شعرية ضخمة متجاوبين مع الجماهير لعزفهم على المشاعر والجرح الفلسطيني، ومناوأة الصهيونية والاستعمار، وهي شعارات تبنتها الأحزاب والانقلابات العسكرية([9]).

يقول الناقد يوسف حمدان: «لفت انتباهي في ديوان (صبا من الأردن) رسوماته بالأبيض والأسود المعبرة عن مضامين بعض قصائده، بتوقيع الشهيدة «دينا» فالمرحومة كانت في حياتها تتلاصق بأبيها الشاعر من خلال فنّه الشعري وهوايتها للرسم.. ويبدو لي ذلك عادياً فعائلة المشيني تكاد تكون كلّها مسكونة بالفنون على اختلاف أنواعها، فهناك الممثل والشاعر والرسام والكاتب.. وهي عائلة فيها من النجوم ما نعرف وكلّهم أصحاب مكانة عزيزة في قلوب الناس، بما يمثلونه من قيم عظيمة للوطن..

لقد وقفت عند «درّة» الديوان احتراماً لأستاذية شاعرنا الكبير، ومشاركةً منِّي له بمشاعر الحزن على ابنته المحبوبة (دينا) التي أهداها هذه «الدرّة» كفاتحةٍ لديوانه (صبا من الأردن) في جزئه الرابع.. وكأنه أراد أن يقول لها: ها هو يا دينا قد صدر فانظري إلى نفسِكِ فيه.. وإلى رسوماتكِ الجميلة.. إنَّ رسوماتك جمّلته بعبق ذكراكِ الحبيبة.. نسختك محفوظة، عليها إهداء قلبي، وقلوبنا جميعاً.. أهل بيتكِ وبني وطنك الأردنيين النشامى.

أما مضامين الديوان الأخرى فقد توزعت بين البلدانيات التي يهتم بها الشاعر كثيراً، وبين الوطنيات والأشعار القومية والهموم العامة المشتركة للإنسان العربي والإنسان القريب من خصوصية الشاعر كما في (تحايا إجلال) وتحيته الخاصة للباحث والأديب الأردني الكبير روكس بن زائد العزيزي: روكس العزيزي به تزهو القوافي كما تزهو العرائس في أبرادها القُشُب روكس العزيري المربي المثالي الكبير له في قلب كلّ وفيّ أرفع الرُّتَب، وتحيته للشاعر البحراني علي عبد الله خليفة، أو تحيته لاتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين..

ومثل كلّ الشّعراء نبض قلب سليمان المشيني بمشاعر الإعجاب والحب، فكتب (غزلياته) التي تصدّرتها صورة فتاة ساهمة بعينين سوداوين واسعتين بريشة غاليته (دينا).. وقصيدة بعنوان (عتاب) تعود بنا إلى أيام الصّبا والشباب.

لحظة أن كان للنفس هوى وللقلب عنفوان..

 

لعينيك كلّ حدائي الفريد

 

وكل صلاتي يا قبلتي

 

 

كما يعثر المتذوق لشعر المشيني بعدها على قصائد مثل (خطى الحبيب)
و(أحبُّ مها):

 

أحبُّ مها ولا تدري

 

وأعبدُ حسنها عمري

 

وألمحُ في محيّاها

 



 

رواءً فاتنَ السِّحر

 

وأبصرُ حلو طلعتها

 

فأشهدُ روعة البدرِ

 

وتتوالى قصائد الحنين والغزل الأخرى ذائبة الكلمات في بوح القلب وحنين العشق كما في قصيدة (ظبي من بلدي) و (عبث يا أسمر) و (دمية حسناء).

وعلّ قصائد الغزل والشقاوة هذه تجد في نفس قارئها هوى واستلطافاً بها لما تعبّر عنه من خلجات النفس الإنسانية:

 

يدعونا الحبُّ لجنّتِهِ

 

بلسانٍ بالفتنة يقطرْ

 

فتعال نُلبِّي دعوتهُ

 

ونطوفُ بعالِمِه الأخضر

 

حبُّ الوطن عند ثلاثة شعراء (مقاربة):

تَعَلُّق الشعراء بالوطن ظاهرة وجدانية تصل إلى حدِّ العشق، فصورة الوطن كبيرة ووردية، ومرتبطة بعشرات الخيوط الجاذبة، وقد أشاد بعض الشعراء بالوطن بعموميات من دون تركيز على خصوصية له، فحسني فريز يتوزع حبه على الوطن العربي، ولكنه فتح عينيه على الوطن الصغير، الأردن، يقول:

 

سماءُ الأردنِ المحبوبِ

 

مثلُ سماءِ لبنانِ

 

نظير الشام في الحُسنِ

 

عديلُ سماءِ تطوانِ

 

فلا عجبٌ إذا أحببتُ

 

كلَّ الحبِّ أوطاني

 

ولكنْ فتّحت عيني

 

على أردني الحاني([10])

 

ومن قصيدة (شمس الأصيل) لحمزة العربي، وسماها الأمير عبد الله بـ(العسجدية الحمزية) في وصف الوطن في الحجاز، وتذكّره بوهاد الأردن التي تشبه الذهب المذاب أو برادة الفضة، يقول:

 

شمسُ الأصيلِ على الوهادِ كأنها

 

تِبرٌ مذابٌ أو برادةُ عَسْجَدِ

 

تبدو أشعتُها إذا انعكستْ على

 

شُمِّ الجبالِ الخُضر هضبَ زبرجدِ

 

ولقد رأيت شبيهها زمناً مضى

 

بالبيد أقطع فدفدا في فدفد

 

ولَتِلْكمُو، أحلى وأقربُ عند منْ

 



 

أنِسَ الفلاةَ وعاشَ غير منكدِ ([11])

 

ويحنُّ سليمان المشيني إلى بلده، ومياه أنهارها، وطيورها، مؤكداً أنَّ بلاده أغلى من كبده يقول:

 

أُلقي عصا الترحالِ في بلدي

 

بلدي أعز علي من كبدي

 

فالأردنُ المحبوبُ في نظري

 

بالسحرِ يُشْبُه جنةَ الخُلدِ

 

ومياهُ أنهره وروعتُها

 

أشهى على كبدي من الشهدِ

 

 والأردن بلد زراعي، يعتمد على الري، واستنبات القوت، ولذلك بنيت السدود لجمع المياه، وسقاية المزروعات على الجداول التي تغذي نهر الأردن، ومنها سد خالد بن الوليد على نهر اليرموك، قال سليمان المشيني:

 

بنيناهُ سدًّا منّيِعا

 

أقمنا سِياجاً عليه الضُلوعا

 

سقينا ثراهُ الشذيّ نجيعا

 

رفعناهُ صرحَ بناءٍ مهيبْ

 

يُحيل قِفارَ حِمانا ربيعا

 

بنيناهُ كي يتحدى الرياحا

 

ليسلمَ، يخلدَ دنيا عَطاءٍ

 

وفيضاً من الخير يأسو الجراحا

 

سيبقى لأردنّنا سدُ خالد

 

 

سيحميه بالروح شعبٌ مجاهدْ

 

إزاءَ الأعاصيرِ كالطّودِ صامدْ
ورمز غدٍ رائع الفجر خالد

سيبقى لنا السّد كنزاً عظيما([12])

 

لقد أحبَّ الشعراء الأردنيون وطنهم وتعلّقوا به، على الرغم من المعاناة التي يعانونها من خلال مواقعهم، وتعلق بعضهم بتراب ونبات بلاده وطيورها، وبقريته ومدينته. وتناولوها تناول العاشق المتيم، ورسموا خارطة لمعالم الأردن من دون تعارض لنظراتهم العربية، ومواقفهم القومية، ونشأت قصائد محملة برائحة التراب الأردني، ونباتاته البرية، وهمومه وذكرياته. وقلة من الشعراء الأردنيين الذين أجادوا وأبدعوا، بينما أعداد غفيرة (تهذي بكلام غث)، لا صلة له بالفن ويعتقدون أنَّ كلَّ كلام موزون، أو نصف موزون هو عين الشعر، وذروة الإبداع. والحاجة ماسة لفرز الشعراء المبدعين من الأدعياء والمتطفلين على الساحة. وليس الشعر حركة جمع الألفاظ، وإنما هو موهبة متقنة تنضج على نار هادئة، تستمد أدواتها من البيئة المحلية، وليس الشعر (زوابع محملة بالغبار)، تثور بعنف، وتختفي فجأة، وقد ألف الشعر الأردني شعراء انفصاليين عن عصرهم، انشغلوا بمعارضة شعراء العصر العباسي والأموي واهتمامهم بالفكرة العمومية، أكثر من اهتمامهم بالفكرة المحلية، فهم لم يتخلصوا من شبكات التنظير، ولم يقفزوا إلى ذواتهم، أو إلى السمات المحلية.

وليس في شعرهم لون للبيئة، وتكريس الهوية المحلية، وروح الشعب وتحولات المجتمع المعاصرة، وقلة من الشعراء الأردنيين الذين مالوا إلى هذا اللون([13]).

إنَّ طابع البساطة غلب على حياة الأردنيين، وارتباطهم بالأرض من إنتاج زراعي، وحرف صغيرة، فالتأخر والبؤس، وفقر البلاد مرده إلى مجتمع زراعي رعوي، يشغل الفلاح فيه العنصر المنتج، ويعاني العشائرية البدوية، وقد بارك حسني زيد العاملين في خدمة الأرض الذين يجهدون أجسامهم بعملهم ليلا ونهارا، وينتجون الغذاء إلى الناس، وهم مهضومو الحقوق.

ونحن أمام شعراء فقدوا صلتهم بالواقع، وشعراء لديهم مهارة فنية وممارسة تقاليد وطقوس ألفاظ، وأشكال تعبيرية تحتذي أساليب شعر الماضين، وشعراء عاشوا واقعهم السياسي وواقعهم المعاش وأبرزهم عرار، ولشعرهم خصوصية محلية يتعذر فهمها على غير الأردنيين، شعرهم يعجُّ بالتراث الشعبي واللغة الدارجة والأغاني الشعبية، وأسماء الأماكن والارتباط الوجداني بالأرض. بينما تمتلئ شوارع مدن الأردن بمجاميع من (دواوين شعرية تافهة)، وأحرف هذه الدواوين، لا تنبضُ بسمات ولا بملامح البيئة الأردنية، وقصائدهم (عقيمة) ينقصها الوضوح، ففي شعر عرار ونايف أبو عبيد وحسني زيد بساطة حنون كتراب بلادي، لأنها ندية كزهور الحقول، وساطعة كشمس الأغوار، عفوية، وصادقة كابتسامات فلاحي بلادنا، وفيها محبة لكل العاشقين والمحبين، وحداء المسافرين، وسحجة الأعراس، وحكايات الجدات، وهي أحلى من ألف ديوان شعر لا يرتبط بقضيتي وبلادي([14]).

وقد حاول البحث الكشف عن مدى خصوصية البيئة، وتأثيرها في الشعر ومدى ارتباط الشعراء بأسماء الأماكن والقرى والمدن، ومكوناتها المادية الشاخصة في الطبيعة الشعبية، وأبعادها وعاداتها وتقاليدها ورموزها وإلى أي مدى حمل الشعر خصائص الناس والبيئة في صورها المختلفة([15]).

ومن الإنصاف أن أشير إلى أشعار سليمان المشّيني الغزلية بأنها أشعار مسؤولة، بعيدة عن الابتذال والشقاوة غير البريئة.

 

فتنتْ روحي جَمْلهْ

 

بفَمٍ عذْبٍ ومقلَهْ

 

وجبينٍ مرمريٍّ

 

فَاضَ نورًا كالأهلّهْ

 

وقوام غصنِ بانٍ

 

ماسَ في أبدعِ حلّهْ

 

في الشطرة السابقة (وقوام غصن بانٍ) وقع الشاعر في الخلل الموسيقي وأقترح عليه إن جاز لي جعله هكذا:

 

يَالَهُ من غصنٍ بانٍ

 

ماس في أبدع حلّةْ

 

وللشاعر كما نعرف باع في مجال أدب الأطفال والفتيان الشّعري.. عرفنا ذلك من مساهماته المتعددة في أشعار مجلة (وسام) والمجلات والصحف الأخرى ذات الإهتمام بجيل الغد.. وهو هنا في الجزء الرابع من (صبا من الأردن) قد ضمّنه مجموعة جيدة من الأناشيد الوطنية الموجهة للأطفال والفتيان.. وجيل الشباب مثل قصيدة «رسالة من سمير إلى أصدقائه الأطفال والفتيان» و «بطاقة حب إلى كلّ طفل يحتفل بعيد ميلاده».. و «حداء راعي» و «نشيد الرياضة» و «أمنية طفل» و «إشارة المرور».

وقصائد (تأملات) خاتمة المطاف مع الديوان ذات مسحة فلسفية في فكرها وهدفها.. وهي الرسالة الشعرية الأعمق التي ختم بها الشاعر مجموعته فالتأملّ من نواميس الحكماء.. والشعراء من آباء الحكمة الشرعيّين.. وسليمان المشيني الشاعر والحكيم يخبرنا بأن «الموت يبعث الحياة..».. باعتبار «أن النوّر يأتي من كوى الظلام».

وبهذا المعنى السّامي لوجود الموت والحياة وانفلاق النور من العتمة يكون مسك اللقاء بالشاعر سليمان المشيني وبديوانه الجديد (صبا من الأردن) - الجزء الرابع.. لقد كانت المتعة كبيرة.. داعبتنا معها نسماتُ البوح.. وطهّرتْنا بها أحزانه وأحزاننا.. واحترمنا بإجلال هذه الشاعرية الفذّة كما يقول الأستاذ يوسف حمدان([16]).

خصوصية الشعراء المحليين:

اختلفت رؤية الشعراء الأردنيين إلى الطبيعة، فمنهم من وصف العالم الخارجي أو الداخلي للأردن، بألفاظ وتشابيه، واستعارات تقوم مقام الألوان للرسام، أو النغم عند الموسيقى، واستعمل عرار ألفاظاً عامية في قوالب فصيحة جزلة، وهي نزعة وسمة أسلوبية لديه، واستجابة للحاجة العامة، وكانت ثورة على المألوف والموروث الفصيح، وتعبيراً عن حياة مضطربة بشعر متنوع الموضوعات يجمع السخرية اللاذعة بالألفاظ الشعبية الدارجة على ألسنة الشعب، مثل أسماء الوديان والقرى، فورد ذكر (راحوب)، و(الزعتري)، و(جلعاد)، و(شيحان)، و(عجلون)، و(الفحيص)، و(ماحص)، و(وادي الشتا)، و(الحصن) ([17]).

ويشير ذلك إلى تقديس البلاد والشعب تقديساً عظيماً، وحبه لبسطاء الناس وفقرائهم، يصدر ذلك عن ثقافة عربية وطنية أصيلة يستعملها بقناعة واقتدار وإصرار، فالعكوب والخبّيزة والدحنون كلمات شعبية، تعبر عن وجدان الجماعة، بينما يتلاعب غيره بالكلمات الفصيحة، بافتعال ظاهر، وقد اختار الأمثال ذات الطابع المحلي والروح الخفيفة، الموشحة بغلالة من الفكاهة، والنقد اللاذع، ونظمها شعراً كضرورة من ضرورات نزول الشعر إلى ميدان الحياة، بما فيها من أغان وألفاظ تسمع في الحي والبيت، وما تحمل من عمق ودلالة، بعيداً عن الزخرفة والكلفة، وهذه سمة الشعراء الكبار.

وقد بثَّ حسني زيد النشاط والحياة في الطبيعة الصامتة، فالثنائية بين الطبيعة والإنسان تظهر في قصيدته (الزيتونة الخضراء)، وحفظها الكثيرون عن ظهر قلب لالتصاقها بالأرض، وانتمائها للوطن، فالشجرة باقية، والسنوات تمر، وهي تعاصر الأنبياء، وتسقط أشعة الشمس على أوراقها، فتبدو كالذهب الصافي، وأوراقها تشبه النساء الحسناوات اللواتي تشابكت أيديهن لأداء إحدى الرقصات، وهي مثال الجلال والعظمة، والكبرياء، يقول:

 

في حِضنها وُلِدَ الجلالُ وإنّني

 

لأظنُّه من قبلِها لم يُولَدِ

 

 

([18])

 

إنَّ الانبهار بسمات الأردن، والانتماء إليه جذوة اشتعلت عند حسني فريز ونايف أبو عبيد، ولا تكاد تخلو قصيدة للعزازي من ذكر عمّان، بالرغم من الغربة التي طوحت به بعيداً عن مسقط رأسه، وظلت روحه تنتقل في جبال الأردن، وآثار جرش والبتراء، ومع أصوات الرعاة، ويعيش على عزف الشبابة، وثغاء الماشية، وعرق الفلاحين. ولم تتمكن الحضارة الأوروبية من جذبه إليها، أو تنسيه أصالته، أو تخفت تيار الحنين الجارف، والجذوة المتقدة بحب الوطن الذي أصبح هاجساً كبيراً في التكوين النفسي والعاطفي والإنساني لشعرائنا.

وقد عشق شاعرنا سليمان ابراهيم المشيني عمان، ومَلَكَتْ عليه زمام نفسه، وخلته في بعض قصائده أقرب إلى التصوف والعشق المطلق ووحدانية المحبوب... إنه يكتب الشعر لأجل الشعر، ويتماهى في سرحاته الرومانسية المحلِّقة في عوالم الوطن ليصبح في اندغام تامٍ بين الوطن المحبوب والمحبوبة الوطن، بين العاشق والمعشوق، بين (دمية) المرأة المحبوبة المعشوقة -نعم الزوجة-، وبين (دينا) الفتاة المتميزة شهيدة الوطن الإنسانة -نعم الابنة-،... «إنها تيارات من الحنين  والوله الجارف والجذوة المتقدة بحب الوطن» كما يذهب الصديق الدكتور محمد عطيات([19])..

فلسطين في الشعر الأردني:

لقد جسّد سليمان المشيني في أشعاره البعد القومي بالمستوى نفسه الذي جسّد فيه البعد الوطني، إذ لا فرق عنده بين الوطن العربي الكبير بدوائره المختلفة، والوطن الأصغر الأصغر. كشف فيها عن آفاق التلاحم بين الأردن وفلسطين، وجاءت تعبيراً أصيلاً عما في قرارة الروح الأردنية من الوفاء العظيم لفلسطين، والمشيني يدرك ببصيرته تلك الجذور التاريخية التي تجمع بين هذين الشعبين، فانبعثت في هذه القصائد جملة من الألفاظ الدينية والتراثية التي تبعث العزيمة في النفوس، وتجاوبت معها تلك الموسيقى الداخلية العذبة التي تلفُّ شعره.

وعبّر المشيني عن محورية القضية الفلسطينية وصداها في النفس الأردنية تعبيراً صادقاً عن موقع فلسطين في نفس الشاعر وأبناء الأردن، لذلك نجد تداخلاً واضحاً بين نظرته الوطنية والقومية، حيث يرتبط ارتباطاً قوياً مع أمته، ويلتفت الشاعر إلى فلسطين وقضيتها المصيرية تلك التي عكست مستوى التلاحم بين الشعبين الشقيقين، فأصبحا توأمين واحداً ينظر إليهما من خلال الشعر القومي([20]).

فهو يتحدث عن القدس، وفلسطين أرض الإسراء والمعراج، وعيد المولد النبوي والمناسبات الوطنية والقومية من خلال منظار الأمة والحضارة والوطن ووحدة المصير... فالقدس -مثلاً- تحتل مكانة كبيرة عند شاعرنا ووجدانه، وكلما ذكر القدس فاض شعراً صادقاً معبّراً يحاكي ذكر عمان وعشق عمان!

ويشيد المشيني في غير موقع بتلك الوقفة البطولية المشرفة والصمود المتميز لأبناء فلسطين الذين يبذلون الغالي والنفيس في سبيل الوطن والمقدسات.

* * *

لقد ارتبط الأردن مع بريطانيا بمعاهدات، واتفاقات راعت المصالح البريطانية، وفرضت عليه قيوداً ثقيلة، وأدى ذلك إلى حركة معارضة للمخططات البريطانية، وظهر ذلك في الصحف والمجلات والشعر والمظاهرات. وحاول الأمير عبدالله بحكمته، أن يحافظ على التوازن بين التيارات المتعددة في المجتمع الأردني. ورفض الأردن مشروع التقسيم وإنشاء وطن قومي لليهود. وقررت الجامعة العربية أنَّ التقسيم باطل، ومدت المتطوعين بالأسلحة والأموال لإحباط المشروع. وكان الأردن أكثر استجابة وتنفيذاً لمدِِّ المتطوعين بالعون، وحدثت الحرب، فخسر العرب المعركة، واندمجت الضفتان في دولة واحدة، وظل الإسرائيليون، يدخلون القرى الحدودية العربية فيقتلون، ويحرقون وينسفون([21]).

واستجاب شعر أردنيّي الضفة الشرقية للحدث، وتفاعل مع وجدان الناس، ويقوم تصميم محور هذا البحث على تحديد موقف كل شاعر أردني الأصل تجاه النكبة، وأفردت له عنواناً صغيراً، لتبيان مدى التزام الأردنيين بالقضية الفلسطينية، وفي عهد الإمارة ظهر شعر فؤاد الخطيب ونديم الملاح وعرار، وبعد النكبة ظهر شعر لعيسى الناعوري وعبد المنعم الرفاعي وحسني فريز، وحسني زيد وسليمان المشيني، ومحمود الروسان الذي اشترك في معارك فلسطين. ففي عام 1917م صدر وعد بلفور، وتفاقمت الأوضاع بعد الحرب العالمية الأولى، وظلت حتى قيام دولة إسرائيل عام 1948م. وعالج الشعر تضحيات الشعب الفلسطيني وحسن بلائه في الدفاع عن الوطن، وانسحاب الجيوش العربية، والغربة والتشريد، والمآسي والذل، والوعي الوطني والأمل النامي والتحدي([22]).

وتفاعل الشعراء مع القضية، ونشأت مفردات مثل: لاجئ ونازح، ونكبة ونكسة، والشخصية الفلسطينية في المنفى، وعرب الأرض المحتلة، ونقلها الشعر إلى قلوب الناس وعقولهم. وأشار الشاعر إلى تفاصيل العذاب الفلسطيني، وقدَّم سرداً ملحمياً له، وفي إشارة رمزية ذكية حيناً، وكلام تقليدي يعج بالخطابة، واللغة التحريضية التي فقدت تأثيرها لاعتمادها على العواطف، واستثارة روح الكفاح حيناً آخر.

ويحافظ المثقفون الأصليون على لغة واحدة، يتحدثون بها عن وحدة المسيرة والمصير للشعب الأردني الفلسطيني المركَّب، وينظرون ببصيرة مدهشة للوقائع والأحداث والتطورات والمتغيرات، ويضعون أصابعهم على المفتاح للدخول إلى هوية واحدة، لأنَّ كل من هو على أرض الضفتين، يحق له أن يحمل جواز سفر أردني، ويقطع الطريق على التنبؤات الإقليمية. فالأردن أرض الأنصار لكل العرب من مهاجرين، اقتلعتهم الصهيونية، أو ثوار طاردتهم قوى البغي، والاستعمار، منذ بواكير هذا القرن. فالوحدة الوطنية هي الدرع الوحيد الواقي من الانهيار، أمام الزحف الاستيطاني، وقدرُنا المحتوم. وبديلها السقوط أو الدمار. وأثبت شعراءُ أردنيّي الضفة الشرقية تساميهم على الإقليمية التي تحفر في أساسات حياة المنطقة، فقد سبق للأردنيين أن شنوا هجمات على المستعمرات الإسرائيلية عام 1920، وخلّد الشعر الأردني ثورات الإنسان الفلسطيني، وبطولاته، وانتفاضاته، ومجّد الفداء، والتضحية وبشر باستمرارها من دون تردد، ورسمت ملامحه إرادة المجاهدين، ونضالهم.

فلسطين وسليمان المشيني

فلسطين مقدسة عند الأردنيين من مسلمين ومسيحيين، فهي مسرى النبي، وموئل قيامة المسيح، ومنزل الرسل الكرام الطاهرين ورحاب المؤمنين، ومقام الشهداء، وقبلة أنظار العالم، عمّرها العرب الأوائل من كنعان ويبوس قبل آلاف السنين، وفي فلسطين تتعانق مآذن المسجد الأقصى وقبة الصخرة مع محراب كنيسة القيامة، ويلتقي صوت المؤذن في مسجد عمر بن الخطاب مع نواقيس كنائس القدس وبيت لحم، يقول سليمان المشيني:

 

يا قدسُ يا مرابعَ الخُلودِ

 

يا قدسُ يا ريحانةَ الوُجودِ

 

يا ذروةَ الكفاحِ والصّمودِ

 

سلمتِ يا مغاني الجَلالِ

 

يا قدسُ يا ريانةَ السفوحِ

 

يا موطنَ الآذانِ والتسبيحِ

 

يا صيحةَ الحقّ على المظالمِ

 

وغرّةَ زانتْ جبينَ العالمِ([23])

 

ويتغنى المشيني بجبل الزيتون في القدس، ويذكر فضائل شجرة الزيتون، يقول:

 

في جبل الزّيتون الأخضر

 

أورثني جدّي زيتونةْ

 

باسقة رائعة المنظرْ

 

روحي بهواها مفتونةْ

 

تبدو متألّقةً بالنَورْ

 

ويهيمُ بقمّتها شحرورْ

 

رويّتُ ثراها بالعرقِ

 

بدماءِ في لَونِ الشّفقِ

 

ورعيتُ، رعيتُ طفولَتها

 

كالأم، تصونُ وحيدَتَها

 

حتى اشتدّتْ وقسى العُودُ

 

واخضرَّ وطالَ الأُملودُ

 

أحببتُ الزيتونةَ كلّ الحبّ

 

حبّاً عذريّاً ملكَ القلبْ

 

ومسحتُ به جنباً مطعونْ

 

وأضأتُ به قنديلَ صلاةْ

 

يهدي للدّربِ شقيّاً تاهْ

 

ضفّرت به إكليلَ الغارْ

 

أتذكّر أنّي ذات مساءْ

 

ألقيتُ بنفسي في إعياء

 

في حُضنِ الأغصانِ الخضراءْ([24])

* * *

وهذه مختارات من قصائد وطنية لشاعرنا الكبير سليمان المشيني، وتلتقي هذه المختارات مع عنوان مطارحتنا في هذا الفصل «فلسطين في شعر سليمان المشيني» وقد قاربنا بينه وبين أكثر من شاعر من أبناء جيله.


 

سلاماً خالداً..... يا فلسطين

يا فلسطين.... سلاماً خالداً

قبلة الأنظار... يا بيت القصيدِ

يا ربوع المهد والأقصى ويا

مشعل النور وجنات الورود

كيف حال الأهل في قدس الفدى

وبقلقيلية و«السبع» الشديد

و«خليل» البأس والصبر وفي

غزة الشَماْ ونابلس الأسود

وبرام الله الميامين وفي

بيت لحم الطود في وجه اللدود

وجنين النار والعزم وفي

طولكرم الذود عنوان الصمود

بارك الله بنيك الصيد من

يفتدون الأرض في حبل الوريد

حبّهم عنا رجالا ًصمدوا

صخرة صماء في وجه اليهودِ

أخفضوا الهام لهم إِنَّهُمْ

صاغة المستقبل الحر المجيدِ

بذلوا الأرواح ذوداً عن حمى

قدسي.. ضم جثمان الشهيد

نحن لا عشنا إذا لم نتحد

كلنا نمضي ونهزا باللحود

يطرب الأسماع منا مدفع

وصواريخ تُدوّي كالرعود

وجموع الشهداء في موكب

أقبلت تسعى من الأفق البعيد

ركّزت مؤمنة خاشعة

راية الله عَلتْ فوق الحشود

فتعالت صيحة الأبطال في

ساحة القدس فضجت بالنشيد

فامضوا للجُّلى وسيروا قدماً

كي يعود الحق خفاق البنود


 

رسالة من جبل النار
في ذكرى صدور الوعد الجائر

طلقة واحدة تعدل خمسين قصيدةْ

مفعمات.. بالتفاعيل الفريده

مثقلات بالمعاني

حافلات بالبيان

مشرقات بضياء الكلمهْ

رافلات بشجي النغمهْ

طلقة واحدة يطلقها ساعد باسلْ

رابض في خندق المجد يقاتل

تتحدى الخطباء المصقعين

تتسامى فوق هام البارعين

الكسالى عن ميادين الشهامةْ

السكارى إن دعا داعي الكرامةْ

طلقة من مدفع في كف جندي

تتعالى فوق صيحات التحدي

إنها أوقع من ألف نداء

وهتافات تدوي في الفضاء

والشعارات الغريبهْ

والتعابير الرتيبهْ

كم كتبنا.... كم نظمنا.. كم هتفنا

أم بلفور كثيراً ما شتمنا

نصف قرن مضى والليل مطبقْ

وقيوم الظلم بالأمة تحدق

لم يحقق ما كتبنا من سطورْ

مطلباً.. كنا كحراث البحور

يا شباب الأمة اليوم أقولْ

ترجموا القول فعالا.. فدجانا لن يطولْ

منطق العصر.. سلاح وصفاح

ونضال وجهاد وكفاح

لغة القوة.. أجْدى لغة

لهجة الرشاش أسمى لهجة

فليكن بلفور معنا في العطاء

وليهب ما شاء أرضاً وسماء

وليوقع لأعادينا الوثائق

وليهب حاتم أرضاً وحدائق

وليعد بلفور آلاف الوعود

سوف نمحوها بنار وحديدْ

ولنؤجج في الحمى نار المصانعْ

ولتكن أشعارنا قصف المدافع

ولتكن صرختنا صوت القنابلْ

ولنسرْ للساح جندي وعامل

لم يعد للقول معنى.. لم يعدْ

فلنودعه وداعاً للأبدْ.

* * *


 

مرابع الخلود

يا قدس يا مرابع الخلودِ

يا قدس يا ريحانة الوجود

تحية يا معقل الأسود

* * *

قلوبنا إليك في ارتحال

شفاهنا ترنيمة ابتهال

سلمت يا مغاني الجلال

* * *

ورعى الباري حياض الحرمِ

وحمى ساح المكان الأعظم

موئل الإسراء يُفدى بِالدَّمِ

يا قدسنا أبراجك السطورُ

فيها سنا أمجادنا يمور

فتسطع القرون والعصور

ويعبق النسرين والبخور

فهذه يبوس من كنعانِ

تعلي بناء القدس جلّ الباني

فتصدع التاريخ بالبرهان

وابن مروان يشيد الحرما

يحفظ العهد ويرعى الذمما

يغرس الفجر يشق الظلما

* * *

يا قدس يا ريحانة السفوحِ

يا موطن الآذان والتسبيح

بالروح نحمي اقدس الصروح

مسرى النبيْ.. قيامة المَسِيح

* * *

أرض الهدى والخير والمكارمِ

يا صيحة الحق على المَظَالِم

يا غرة زانت جبين العالم

منزل الرسل الكرام الطاهرينْ

ومقام الشهداء الصابرين

ورحاب المؤمنين الصالحين

* * *

تحدثي يا قدس عن ماضينا

تحدثي ما زلت تذكرينا

فاروقنا يقود مؤمنينا

يرسي انتصاراً خالداً مبينا

* * *

يرسي بنود الحق والسلامِ

والعدل والقانون والنظام

مستلهماً شريعة الإسلام

* * *

وصلاح الدين في حطين سارْ

يصرع المحتل في سيف ونار

ويفك القدس من قيد الإسار

* * *

يا قدس يا فردوسنا المفدى

إنّا قطعنا للدهور عهداً

أن نستطيب الموت أن نردا

كرامة مهدورة ومجداً

يا قبلة الأنظار والخيالِ

يا دوحة قدسية الظلال

يا ملتقى الأحلام والآمال

* * *

شيد العرب حماك الغاليةْ

قبل آلاف السنين الماضيةْ

وافتدوك بالدماء القانية

* * *

يا قدس صبراً لن يطول الأسرُ

لن يهنأ الأعداء لن يسروا

يا قدس في حماك لن يقروا

ويعتلي أفق الظلام فجر

* * *

فتصدح المآذن الحزينهْ

وتقرع الأجراس في المَدِينَهْ

ويطلع السلام والسكينهْ


 

غزة الشهداء

 

إخلع نعليكْ

 

 

فرمال الأرض مقدسهُ

 

 

بسناء الخلد مطّهرةُ

 

 

بدم الأبطال معطَرةُ

 

* * *

وشهيد متشح بالنور

 

مقيم عند البوابة

 

يحرسها في يمناه السيف

 

 

فيبث بقلب الظلم الخوف

 

 

وصفوف الشهداء تتوالى

 

ورواء الجنة يتلالا

 

من خير جباه ما ذلت

 

هزئت بالموت وما وّلتْ

 

* * *

 

إخلع نعليكْ([25])

 

 

فالأرض رياض من أزهارْ

 

 

نبتت ونمت بدم فوارْ

 

 

كالنهر.. تدفق من أحرارْ

 

 

* * *

 

ونساء وشيوخ وصغارْ

 

سخروا بسياط الهمجيةْ

 

ضحوا ليشيدوا الحريهْ

 

 

* * *

 

يا هتاف الأبطال.. عند المشانق

قصيدة «الوحدة العربية» التي فازت بالجائزة الأولى نظمتها ثم ألقيتها في سوق عكاظ الذي أقيم في المستنبت بالجبيهة عام ألف وتسعمائة وستين وقد أصبح فيما بعد موقع الجامعة الأردنية الزهراء.

وكانت إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية قد أقامت ذلك المهرجان «وبالوحدة العربية نكون وبدونها - لا قدر الله - لا نكون ومما يدعو للأسى أنَّ الحديث عن الوحدة، وهي عتادنا الوحيد لمواجهة ما يراد بهذه الأمة من شر وهي خير أمة أخرجت للناس - يكاد يصبح نسياً منسياً([26])!

 

وحدة العرب.. يا حداء الأماني

وهتاف الأبطال عند المشانقْ

يا نشيد الخلود عذباً شجياً

بالمروءات.. بالمآثر ناطقْ

أنت أمنية الرجال تليداً

وطريفاً ذكراك ملء الخوافقْ

 

أنت حلم الأباة قبلة جيل

عربي لشامخ المجد تانقْ

في حماك الحياة فجر بهي

وبك العز شاهق الصرح سامقْ

وحدة العرب إننا بالضحايا

سوف نمحو ما أوجدوا فوارق

فلنا همة تهز الرواسي

ومضاء يدمّر الخصم ساحقْ

تخذ الخلد في ذرانا مقبلا

فأبى أن يريم أو أن يفارق

وحدة العرب سوف تبقى شعاراً

سرمديا والكل بالنصر واثق

إننا إخوة فلن نتوانى

عن لقاء يذل صعب العوائقْ

فاشهدي يا عصور مولد عهد

بشذا المجد والسيادة عابقْ

بوركت أمتي تحطم قيداً

 

تغرس الفجر ثامر الفرع وارقْ

تسحق الصعب والردى تتحدى

للعلى تفرش الجسوم نمارقْ

أمتي أمة الخلود أنارت

عالماً كان بالجهالة غارق

حملت مشعل الحضارة سارت

لكريم الحياة تهدي الخلائقْ

تنصر الحق والفضيلة تبنيْ

صرح علم وحكمة وحقائق

أمتي أمة المروءة والخلق

تصون العهود ترعى المواثقْ

أمتي أمة الأشاوس دانت

لهم الأرض غربها والمشارقْ

مذ تنادوا إلى الجهاد سراعا

واعتلوا للعلى ظهور السوابق

قسماً لن نكون أحفاد عَمْرو

والمُثنّى وابن الوليد وطارقْ

 

إنْ توانى عن الجهاد أبي

أو تخّلى عن الشهادة وامق

فإلى ساحة الفداء هلمّوا

وإلى النّصر زمجري يا فيالقْ

ولتجلجل الله أكبر رعداً

في ظلال القنا وخفق البيارقْ

* * *

سترحل أيها المحتل

مناسبة القصيدة: عندما قامت سلطات الاحتلال بهدم سبعين بيتاً في حلحول، قال سليمان المشيني:

 

دمّر يا مستعمر دمّر

 

وافعل ما شئت

 

سأظل بارضي ملتصقاً

 

وسترحل أنت

 

مهما دمرت فلن يتزعزع مني العزم
وسأسقي أربع آبائي أنهار الدم
ويكون صمودي جباراً يتحدى الخصم
انني بعريني ملتصق كالطفل بأمِ
وسأمكث في أرض بلادي ويزول الظلم

 

ارفع سيف الارهاب ارفع

 

واسجن ما شئت
ف

فسأبقى في وطني الغالي

 

وستخرج أنت

 

سيف الارهاب غدا يرتد إلى نحرك
وستحفر يا مغرور به مثوى قبرك
فتفنن يا محتل تفنن في غدرك
فالشعب يُصوّب نار الثار إلى صدرك
عزم الابطال غدا سيعجل في قهرك

 

ارهب يا مستعمر ارهب

 

واصنع ما شئت

 

ايماني بحقي لن يخبو

 

وستسحق أنت

 

اسجن آلاف الاحرار اعدو الحق
واحصد آلاف الأبرار واقتل واحرق
لا تحفظ حرمة انسان وانهب واسرق
ازهق ارواح الاطفال لا، لا تشفق
سيضاعف ظلمك من بأسي لافك الطوق

 

هدّم يا متطفل هدّم

 

واقتل ما شئت

 

مهما هدمت فلن امضي

 

وستمضي أنت

 

دمر حلحول ولا تترك فيها حجراً
لا تبق على شيء واقطع حتى الشجرا
وانشر راي التخريب ولا تترك فيها أثراً
مهما هدمت فلن تبلغ منها وطراً
حلحول ستبقى خالدة وغداً سترى

 

* * *


 

الشهيد

 

أغمض الأجفان والساعد لم يلق السلاح

 

فارس من موطني الأردن أغناه كفاحا

 

كان يأسو للحمى في حلكة الخطب الجراحا

 

ويضحي بالدم القاني اذا ما الحقّ صاحا

 

دعوة المجد يلبي فهو عنها ما أشاحا

 

ساخراً بالمستحيلات صعاباً ورياحا

 

لم يكن يعرف في وثبته إلا النجاحا

 

لم يغب والله منْ ألبسه الخلد وشاحا

 

حوضنا الصامد هذا يا أخي لن يستباحا

 

وبه من يفتدي بالمهجة الحق الصراحا

 

قرْ عينا يا شهيداً ذكره كالمسْك فاحا

 

وانظر الأبطال من رهطك في الساح رماحا

 

يملأون السهل والأنجاد حشداً وصفاحا

 

ويصيغون بمهر الدم والروح صباحا

 

قر عينا ذكرك المفعم نبلا وصلاحا

 

سوف يبقى في ضمير الشعب ما الإشراق لاحا

 

ويوّجه شاعرنا نظره صوب العراق وينشد، ثم يوجه نظره صوب لبنان وينشد، كما يتوجه إلى افريقيا والثورة الجزائرية إذ يرى سليمان المشيني أن الثورة الجزائرية مهدت لثورات إفريقية مقتدية بشعب عربي، قدّم مليون شهيد، وتدفق دمه الزكي كسيل فوّار قبل أن ينال استقلاله، يقول:

 

إلى الذينَ بالدّماءِ ضمّخُوا

 

أرضّ الفِدا والعزمِ والحميهْ

 

صاغُوا لها فجراً مُنيراً ساطِعا

 

شادُوا صروحَ العزة القوميّهْ

 

مضاؤهُمْ أقوى من البُركانِ من

 

قنابلِ المُستعمرِ الذريّهْ

 

قد أقسمُوا أن يستعيدوا حقَّهم

 

ويسحقُوا إفكاً وبربريّهْ

 

فإنْ قضى منهمُ شهيدُ حقِ

 

قضى سعيداً نفسُه رضيّهْ

 

قدّمتِ للعلياءِ خيرَ مهرٍ

 

مليونَ حُرٍّ قد قَضَوْا ضحيّهْ

 

رفعت رأسَ العُربِ في جهادٍ

 

نلتِ به حقوقَك الشرعيّهْ

 

نضالُك العظيمُ سوف يبقى

 

على الشّفاهِ في الدّنى أغنيهْ

 

ما قد دفعتِ من دمٍ غزيرٍ

 

نالت به إفريقيةُ الحريّهْ

 

أمستْ بطولاتُ تسامَوْا فيها

 

أمستْ بعُرفِ الكون أسطوريةْ([27])

 

التشبيب بمفاتن المرأة:

تناول الشعر الغزلي مفاتن المرأة وصوّر جمالها الأنثوي، وربما يمزج الشاعر الغزل الصريح بالحس الوجداني، وقضايا الوطن، فقد تحدث سليمان المشيني عن فاتنته ذات العيون الخُضر بقوله:

 

ساءلتني غادةٌ فاتِنةٌ

 

ذاتُ حُسنٍ مستّبدٍ صُنْو بدرِ

 

مُقلَتاها غابتانِ اغتَنتا

 

بكنوِز فذّةِ الإلهامِ خضرِ

 

لمن النّرجسُ والفلُ لِمنْ

 

هذه النفحةُ من طيبٍ ونشرِ

 

وينهي حواره معها بقوله:

حفظَ اللهُ بِلادي ورعَى

 

موطني مِنبرَ إشعاعٍ وفِكْرِ([28])

 

* * *


([1]) محمد علي الصويركي: الأردن في أشعار العرب : 105، يوسف غوانمة، التاريخ السياسي لشرق الأردن : 37، و د . محمد عطيات، الحركة الشعرية في الأردن، تطورها ومضامينها، منشورات لجنة تاريخ الأردن، عمان، 1999، ص 115.

([2]) محمد عطيات : مرجع سابق، ص 116. .

([3]) سليمان المشيني، صبا من الأردن، ج 1، ص 5 .

([4]) منشورات وزارة الثقافة، عمان، 1987.

([5]) أحمد بدوي، أسس النقد الأدبي، دار نهضة مصر، 24، 1979 م .

([6]) عبد الرحمن ياغي، أبعاد العملية الأدبية : 40، ومحمد عطيات، مرجع سابق،
ص 76-77 .

([7])  سليمان المشيني، صبا من الأردن : 63

([8])  عبد الرحمن باغي، قصيدة المواجهة في الأردن : 240.

([9])  محمد عطيات، مرجع سابق، ص 101،  102

([10])  حسني فريز، بلادي : 128، تاريخ القصيدة 25/5/1939م.

([11])  جريدة الجزيرة، عدد ( 933)، تاريخ 11/12/1939م.

([12])  سليمان المشيني، صبا من الأردن :56. وانظر محمد عطيات، مرجع سابق، ص160، 161

(1) إبراهيم العجلوني وزياد الزعبي في جريدة الرأي، 31/1/1990م.

([14]) د.خالد الكركي في جريدة الرأي، بتاريخ 12/4/1989م.

([15]) زياد الزعبي، جريدة الرأي، تاريخ 23/2/1990م

([16]) مقالة مصورة للأستاذ يوسف حمدان عن شاعرية المشيني في ديوانه الرابع (صبا من الأردن)، لم أستطع توثيقها/ الباحث.

([17]) هاني العمد، مجلة أفكار، العدد الثاني عشر : 36.

([18]) عيده الهربيد، حسني زيد، حياته وشعره: 64، راجع ما كتبه الباحثون والشعراء الأردنيون منهم محمد المشايخ، الأدب والأدباء في الأردن: 134.

والعزازي: 1934-1983م، نال الماجستير في السياسة، وعمل في إذاعة هولندا، وهو صحفي وشاعر، ولم يتح له حظ من الإقامة الدائمة في عمّان، ولكنه أكثر المتغنين بها، إلى درجة العشق الصوفي.

([19]) محمد عطيات، مرجع سابق، (ص 162-163).

([20]) انظر هذه المطارحة في كتاب قاسم الدروع: حبيب الزيودي شاعراً، منشورات أمانة عمان، 2007م، (ص 75) وما بعدها.

([21]) سمير قطامي، الحركة الأدبية في الأردن: 17.

([22]) عبدالرحمن الكيالي، الشعر الفلسطيني في نكبة فلسطين: 15، 18.

([23]) سليمان المشيني، صبا من الأردن، ج1: 18.

([24]) المرجع السابق، ج1: 76 ... وانظر مقارنات الدكتور محمد عطيات مع شعراء آخرين (ص 265-279)، في كتابه «الحركة الشعرية في الأردن»، مرجع سابق.

([25]) يظهر هنا تأثر الشاعر سليمان المشيني بألفاظ القرآن الكريم، كما ظهر في مواقع أخرى كثيرة تعكس ثقافته الدينية الواسعة عن الإسلام.

([26]) تقديم القصيدة بقلم الشاعر المشيني، وقد ألقاها عام 1960م في موقع الجامعة
الأردنية الحالي.

([27]) سليمان المشيني، صبا من الأردن: 32.

([28]) سليمان المشيني، صبا من الأردن: 37، وانظر محمد عطيات، مرجع سابق، (ص 350، 478-479).

Back